منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، جرى الحديث عن عملية برّية “كبيرة” لتقويض حكم حركة حماس في القطاع، غير أنه، مع مرور أيام العدوان، وتصاعد الوحشية الإسرائيلية في قصف المدنيين وقتلهم، بدأت التصريحات الإسرائيلية في الالتفات إلى “العملية البرّية”، فتارّة يتم الحديث عن تأجيلها بطلب أميركي لإفساح المجال أمام مفاوضات إطلاق الرهائن المدنيين الموجودين لدى حركة حماس، وتارّة أخرى يجري الحديث عن عمليات توغل برّي محدودة في أماكن متفرّقة من القطاع لأهدافٍ مختلفة لا توضحها قوات الاحتلال.
من الواضح أن هناك حالة من التخبّط لدى القيادة السياسية والعسكرية في دولة الاحتلال بشأن الأهداف المُراد تحقيقها من العملية البرّية، وما إذا كانت واقعية وممكنة التطبيق، وحول الكلف البشرية التي من الممكن أن يتحمّلها جيش الاحتلال، خصوصاً أن عملية طوفان الأقصى أظهرت ضعفاً كبيراً في القوات البرّية الإسرائيلية، والتي لم تُختبر في معارك برّية فعلية منذ عام 2006، خلال العدوان على لبنان، والذي مُنيت خلاله أيضاً بخسائر كبيرة.
كثير من الحسابات والسيناريوهات تدور في نقاشات المسؤولين الإسرائيليين، السياسيين والعسكريين، مع نظرائهم الأميركيين، بعدما أرسلت واشنطن مجموعة من المستشارين العسكريين للإشراف على الخطط العسكرية الإسرائيلية، وتقديم النصائح في كيفية التعامل مع الوضع على الأرض. ومن الواضح من التصريحات الأميركية أن إدارة الرئيس جو بايدن ليست منفتحة على عملية برّية واسعة تقود إلى إعادة احتلال قطاع غزّة، وتفضّل عمليات محدودة طويلة الأمد. “سيناريو الموصل” في الحرب على “داعش” هو ما يطرحه الأميركيون على حلفائهم، إلا أن حالتي غزّة والموصل مختلفتان كلياً، جغرافياً وديمغرافيا، وحتى عسكرياً، فخلال الحرب على “داعش” في الموصل تم تهجير معظم السكان من المدينة، وهم فعلياً لا يزالون خارجها بعدما استولى عليها عناصر الحشد الشعبي. وهنا أيضاً معطىً آخر مختلف، فخلال الحرب لم يقاتل الأميركيون مباشرة، بل استعانوا بـ”الحشد الشعبي” لخوض حرب العصابات داخل المدينة، وهو ما نجح لكن بعد فترة طويلة من القتال، إذ استمرّت الحرب في الموصل نحو ثمانية أشهر. والأميركيون في هذه الحالة اعتمدوا على “المواجهة العقائدية” لحسم المعركة، فكانت مواجهة إسلامية مذهبية بين طرفين متشدّدين كل منهما يرى في الآخر “طريقه إلى الجنّة”.
الأمر مختلفٌ كلياً مع إسرائيل وحالة العدوان على غزّة، ففي حين أن هناك طرفاً عقائدياً في غزّة يقاتل تحت راية قضية تحرّرية، فإن “العقائديين” على الجانب الإسرائيلي يتهرّبون بالأساس من الخدمة العسكرية التي يؤدّيها من يمكن تسميتهم بـ”العلمانيين والليبراليين”، وهو ما خلق أزمة مع بداية العدوان، إذ خرجت أصواتٌ في إسرائيل تحمّل اليمين المتطرّف مسؤولية الدفع نحو حربٍ هو لا يدفع ثمنها من أبنائه. إضافة إلى ذلك، عامل الأرض أيضاً مختلفٌ بين الموصل وغزّة، لجهة طبيعة المقاتلين، ف”داعش” في الموصل كانت طارئة على المدينة، ومعظم مقاتليها لم يكونوا من أبناء العراق، بل مجموعات متعدّدة الجنسيات وجدت نفسها فجأة تحكم مدينة لا تعرفها، على عكس الحال في قطاع غزّة. حركة حماس متجذّرة في القطاع منذ الثمانينيات وتحكمه كلياً منذ عام 2007، ومقاتلوها من أبناء شوارعه وحواريه ومخيماته. لذا، فرصتها على الأرض أعلى بكثير من الطرف الإسرائيلي الذي يتعرّف على قطاع غزّة عبر الخرائط والصور التي تنقلها طائرات التجسّس. هذا بالإضافة إلى عالم الأنفاق الممتد تحت الأرض، والذي لا يعرفه إلا المقاتلون من أبناء “حماس”.
رغم ذلك، فإن إسرائيل محكومة بـ”عملية برّية”، خصوصاً أن ثلاثة أسابيع من الغارات الجوية لم تخلف سوى المجازر التي بدأت تغيّر الرأي العام العالمي تجاه “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. وما بدأته قوات الاحتلال قبل يومين هو إرهاصات عملية برّية، لكن ليس وفق سيناريو الموصل.