فيما أهل غزّة يخرُجون إلى السماء النظيفة، الصديقة، يبحثون عن أولادهم وأقاربهم وجيرانهم من تحت الأنقاض، يحتمون من الشتاء والبرد في خيمهم البلاستيكية، يتلقّون النزر اليسير مما تمكّنت موازين القوى من إيصاله إليهم. يتجلّدون، يحبسون دمعتهم، يدهشون العالم بأنَفهم. وفيما دول العالم المعنية بالحرب على غزّة تتقدم بمشاريعها، أو بالفيتو على مشاريع غيرها؛ مثل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، واقتراحه تشكيل قوة حفظ سلام دولية إلى غزّة؛ وغزّة منزوعة السلاح، بضمانة من حلف الأطلسي والأمم المتحدة وقوات عربية – أميركية… أو أوروبا، على لسان وزير خارجيتها، جوزيف بوريل، يعيد التركيز على السلطة الفلسطينية، محمود عبّاس، لتتولى مسؤولية حكم قطاع غزّة، “بدعم عربي”. وتلتقي معه الولايات المتحدة، تصرّ على تمديد الهدنة، وتكرِّر أن “الخيار الأنسب” هو “وحدة السلطة على كل من غزّة والضفة”، بصفتها، الطريق المؤدّي إلى حلّ الدولتين”…
وحماس التي لها أسباب متناقضة إزاء الهدنة: تريد تمديدها، لالتقاط أنفاسها ربما، ولكنها أيضا، بانتهائها، مع خاتمة التبادل مع إسرائيل، تسليم للسجناء الفلسطينيين والرهائن الإسرائيليين، قد تفقد قوّتها تجاه إسرائيل، وقد تتعرّض لمزايدات حلفائها – منافسيها، مثل حركة الجهاد الإسلامي. وإسرائيل تبدو متعلقة بخرق الهدنة، أكثر ما تخشاه خروج “حماس” سالمة بسلاحها، ومزايدات ائتلافها الحاكم، اليميني المتطرّف، والمسْتند إلى رأي عام إسرائيلي تريد غالبيّته العظمى الاستمرار بالحرب… تغصّ بالهدنة. ويغصّ بها نتنياهو بالذات الذي تعهّد بأن حربَه على غزّة هي “بين الحضارة والبربرية”. ومن مركز القرار الإسرائيلي، تتسرَّب التساؤلات عن معنى “إلغاء حماس”، وعن الحاجة إلى “تعريف” هذا الإلغاء.
في هذا الوقت من الهدنة، ووسط ألغازٍ وألغام، وانخفاض القدرة على قراءة مستقبلها القريب، وما تخبّئه الأيام المقبلة من تغيّرات لا بد أنها قادمة، لأن الحرب على غزّة فتحت أبواب الجحيم والجنّة… يحضر إلى بيروت وزير الخارجية الإيراني، حسين عبد اللهيان، في زيارة، هي الثانية بعيد عملية طوفان الأقصى. هيأت الأولى الأرضية لتقسيم “ساحات المقاومة” الممانعة، بإعلان حسن نصر الله أن العملية قرار “فلسطيني وكذلك تنفيذها مائة بالمائة”، وارتضائه بدور”السنّيد” في هذه المعركة، أي بعدم المسّ بـ”قواعد الاشتباك”، إلا من حيث الدرجة.
ماذا يفعل عبد اللهيان في بيروت؟ يجتمع بحسن نصر الله وبقادة من حركتي حماس والجهاد الإسلامي، في إطار “مكتب العمليات العسكرية المشتركة”، وغرَضه الأول معلن: يؤكّد على النصر، ويرى أن تحقيقه يجب أن يتم في هذه اللحظة المرتبكة بالذات، حيث لا أحد يملك رؤية للمستقبل غير طهران التي تستشرف انتصارها على إسرائيل. بل تؤكّد هذا الانتصار، ولا تشترط من أجله سوى تمديد الهدنة وعدم توسّع الحرب في الجنوب اللبناني.
أميركا هذه، الغولة الأكبر، هي التي تساعد وزير الخارجية الإيراني في مهمّته، بتمديد الهدنة، بلجم إسرائيل عن فتح جبهة لبنان
الغرض الثاني للوزير الإيراني متابعة التطبيق لتقسيم الساحات الممانِعة: فكما بدأت “حماس” عمليتها بقرار فلسطيني، فإن الهدنة قرار فلسطيني أيضاً. الهدنة عقدتها إسرائيل مع حماس، وحماس قبلت بها. أي أننا لسنا مسؤولين عن مضمونها ولا عن خرقها. فقط نطالب بتمديدها. وإذا حصل وخُرقت، فذاك الجواب البليغ للوزير الإيراني: “مستقبل غزّة… حماس والشعب الفلسطيني هم الذين يحدّدونه”. نوع من التملّص الشاطر، الجدير مرّة أخرى بألعاب الشطرَنْج.
وهنا تحضر المفارقة، أن أميركا، “العدو الأول” كما وصفها حسن نصر الله، في خطابه ما قبل الأخير… أميركا هذه التي كانت ربما خلف عزوف حزب الله عن شنّ حرب حقيقية ضد إسرائيل تطبيقاً لشعار “وحدة الساحات”… أميركا هذه، الغولة الأكبر، هي التي تساعد وزير الخارجية الإيراني في مهمّته، بتمديد الهدنة، بلجم إسرائيل عن فتح جبهة لبنان. الضغوط التي تمارسها واشنطن لتطبيق الهدنة، وإدامتها على حدود لبنان – إسرائيل، أقوى بدرجاتٍ من التي تمارسها من أجل وقف النار أو الهدنة في غزّة. جو بايدن يطالب نتنياهو يومياً بالعمل على هذين البندين. يتحادث يوميا معه على الهاتف مكرّراً طلبه. أي أن أميركا التي أصبحت الآن هي “العدو الأول” قبل إسرائيل، هي التي تحمي هذه اللحظة من “انتصار” إيران في حرب غزّة.
هل تكون واشنطن، الآن، أقرب إلى طهران من إسرائيل؟ كلا، في بضع نواح، يحتار المرء بوصفها إذا كانت استراتيجية أو تكتيكية. ولكن المؤكد أن واشنطن أعلنت، منذ اللحظة الأولى لـ”طوفان…” عن تأييدها المطلق إسرائيل، أرسلت بوارجها العسكرية إلى شواطئنا، ومعها المعزّون المتضامنون مع الإسرائيليين … إلخ. مع أن بايدن لا يحب نتنياهو، ولا مشروع ائتلافه الحكومي بالقضاء على القضاء المستقل. الارتباط الوثيق بينه وبين إسرائيل لم يبلغ حدّ الغرام والتماهي، بصرف النظر عن المصلحة (البقاء في السلطة)، وربما عن الضمير الإنساني أيضا.
الخطابة الإيرانية عالية النبرة ضد أميركا. لكنها لا تخفي مفاوضات مباشرة وغير مباشرة معها، حول النووي، وربما حول غيره
والاثنان، المصلحة والضمير، استفزّهما الجموح الإسرائيلي بالتوحّش، فاهتزّت الإدارة الأميركية وموظفوها، وكانت رسائلهم الاحتجاجية واستقالات بعضهم، ومعهم أعضاء في الكونغرس من الحزب الديمقراطي الحاكم، وامتلأت الشبكة بإداناتٍ يطلقها أميركيون ضد سياسة بلادهم، إعلاميون، فلاسفة، ديبلوماسيون، مؤثرون… وانطلقت حركة احتجاجية في الجامعات، شبّهها بعضهم بحركة الاحتجاج ضد حرب فيتنام في سبعينيات القرن الماضي، التي أجبرت أميركا على الانسحاب منها. ورفْرَف علم فلسطين للمرّة الأولى في واشنطن ونيويورك وبوسطن … إلخ. فكانت تراجعات بسيطة باللهجة تتوسّل إسرائيل بأن لا تبالغ، وتطالبها بخطّةٍ وتسألها عن المآل النهائي لعمليّتها “سيوف الحديد”.
أما مع إيران فالعلاقة أعقد. الخطابة الإيرانية عالية النبرة ضد أميركا. ولكنها لا تخفي مفاوضات مباشرة وغير مباشرة معها، حول النووي، وربما حول غيره من الملفات. مفاوضات في عُمان وجنيف لعدم توسيع القتال الجاري، من دون توضيح إذا كان المقصود جنوب إسرائيل، أي غزّة، أو شمالها فقط، أي لبنان؛ والأرجح أن الضفة الغربية غائبة عن هذه المفاوضات… فضلاً عن مسائل مالية، تعتبر مصيريةً بالنسبة لإيران. قبل عملية “طوفان…”: تفرج واشنطن عن ودائع إيرانية كانت تحتجزها، تتجاوز العشرين مليار دولار، وهذا المبلغ قبَضَته إيران ضمن صفقة إطلاق سراح سجناء أميركية لديها. أما بعد العملية، فإيران موعودةٌ بمبلغ عشرة مليارت أخرى… ويكون بذلك استثمارها الطويل في فلسطين منقذاً لنظامها.
مفهوم الآن ما تريده طهران من واشنطن، تسهيل أمورها التالية: الودائع، تجميد جبهة الجنوب اللبناني، من المفضّل أن تكون هدنة دائمة غير معلنة، انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، تشكيل مجلس وزراء أصيل يجدّد ثلاثية “الجيش الشعب المقاومة”، تجنّب طرح القرار الأممي 1701، الذي يقضي بسحب حزب الله من الجنوب، وبسْط الجيش اللبناني… هل تطالبها أيضا بحماية الحوثيين و”المقاومة الإسلامية” على العراق – سورية، نظراً إلى “انتصارها” في لبنان؟
ولكن، في المقابل، غير المفهوم، هو: ماذا تريد واشنطن من طهران؟ هل يقتصر هذا المُراد على النووي؟
ا