يوجد اليوم فارق هائل في مستوى القوة بين أصحاب الحقّ ومغتصبيه، الأمر الذي يمكن أن يجعل أي نشاط “عدائي” يقوم به أهل الحقّ الضعفاء ضد غاصبي حقهم الأقوياء سبباً لكارثة تحل على الضعفاءكانت حرب تمّوز (2006) نقطة فارقة في تاريخ المنطقة، حيث أدّى صمود الجنوب اللبناني وتكبيد حزب الله خسائر كبيرة للجيش الإسرائيلي إلى إزدياد شعبيته، خصوصا في أوساط الشباب، الذين رأوا فيه رمزاً قادراً على كسر الاستكبار الصهيوني.
هناك تشابه كبير بين التفاعل مع الحرب الهمجية، التي كان يشنّها الكيان، والتي كانت تستهدف البنى التحتية والمنشآت المدنية، والتفاعل الحالي مع حرب غزّة، التي اتبع فيها الاحتلال المنهج نفسه في التدمير العشوائي والواسع، الذي يخلو من أيّ حساسية إنسانية. ذلك التشابه والإحساس الكبير بالظلم، الذي يمارسه الصهاينة تحت نظر العالم، والذي يساهم اليوم في تزايد التعاطف مع المقاومين الفلسطينيين، كان ساهم في ارتفاع أسهم حزب الله، وفي تحويل أمينه العام، حسن نصر الله، إلى بطل في أنظار كثيرين.
كانت صور نصر الله منتشرة في أكثر من عاصمة عربية ووصل الأمر إلى السينما، ففي أحد أفلامه الكوميدية طلب الممثل المصري محمد هنيدي حين قابل شخصاً من لبنان أن يرسل سلامه لنصر الله قائلاً في عبارة ذات مغزى: “أنا بحبّه قوي”. إلا أن تلك اللحظة من الشعبية لم تستمر طويلاً، فتأكيد “السيد” على ارتباطه العقدي بإيران وتلقيه التمويل منها ومشاركة الحزب في الحرب السورية، ثم تطوّر الأوضاع في المنطقة بشكل جعل حزب الله يظهر بصورة مليشيا أو الذراع الشيعية التابعة لإيران، جنباً إلى جنب مع مليشيات اليمن والعراق، إضافة إلى تزايد الصراعات الطائفية، التي أذكتها التدخلات الإيرانية، جعل ذلك كله الأمور تختلف بشكل كبير، كما عادت إلى السطح التحذيرات من الخطر الإيراني، حتى ذهب مؤثّرون إلى كونه أكبر من أي خطر آخر، بما فيه الخطر الصهيوني.
الواضح أن المصالح المادية لا يمكن أن تقود إلى التحالف مع كيان صغير ضد مجموعة وتكتّلات بشرية تكاد تساوي أكثر من نصف العالم
جاءت عملية طوفان الأقصى في وقت شديد الحساسية بالنسبة لإيران، فقد كانت فرغت للتوّ من تطبيع علاقاتها بدول الخليج، ومن تنفيذ صفقة تقارب مع الغرب أطلقت بموجبها سراح محتجزين أميركيين في مقابل الإفراج عن أموال تحتاجها. مع ذلك، كانت الأنظار تتجه إليها منذ بداية الأحداث، ومع الإمكانات الفائقة، التي ظهر بها مقاتلو “حماس” كانت أصابع الاتهام تتجه إليها بزعم تقديمها دعماً للمقاومين.
لم تنكر إيران حماسها للمقاومة، بل هدّدت بتوسيع جغرافيا الحرب إن لم تتوقف الاعتداءات على قطاع غزّة. أكد بيان الناطق باسم كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، أبو عبيدة، على دورها في المعركة، حين شكرها على الدعم والمؤازرة، وهو أمر نقدّر أنه تم بالتشاور مع الجانب الإيراني، وإلا ربما كانت هناك جهات أخرى داعمة، لكنها فضّلت ألا يتم ذكر اسمها.
هناك نقاشات كثيرة دارت خلال السنوات الماضية حول ما إذا كانت إيران الشيعية تدعم “حماس” السنّية، أو ما إذا كانت تستفيد من صعودها، في وقتٍ تحاول أن تحجّم فيه الحركات السنية في أكثر من مكان. وصل الأمر ببعضهم إلى حد إنكار حصول “حماس” على أي دعم إيراني واعتبار أن ذلك مجرّد تلفيق ودعاية وأن دولة “الولي الفقيه” لا تقدّم في الحقيقة أي شيء للفلسطينيين سوى الشعارات.
لا يمكن إنكار دور العقيدة في تحريك العلاقات الدولية وأبرز مثال على ذلك العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان، الذي ظلت ترعاه وتحميه منذ نشأته وحتى الحرب الأخيرة، التي ساندت فيها مخطّطه الانتقامي لدرجة الاعتراض حتى على وقف إطلاق النار. في هذه العلاقة يبدو أي تفسير غير عقائدي غير مقنع، فالواضح أن المصالح المادية لا يمكن أن تقود إلى التحالف مع كيان صغير ضد مجموعة وتكتّلات بشرية تكاد تساوي أكثر من نصف العالم.
جاءت عملية طوفان الأقصى في وقت شديد الحساسية بالنسبة لإيران
مع ذلك، لا يفسّر العامل العقدي وحده كل تشابكات العلاقات الدولية، التي تعمل بطريقة الأصدقاء المشتركين والأعداء المشتركين، وفي عالم منقسم في اللحظة الحالية بين شمال منحاز إلى أوكرانيا وجنوب محايد أو أقرب إلى روسيا، كان من المفهوم أن تسعى الأخيرة إلى تمتين علاقتها بدول الجنوب وإتخاذها مواقف مضادة لمواقف “المجتمع الدولي”، الذي يضعها هي أيضاً في دائرة الاستهداف. هذا يفسّر الموقف الروسي الناقد للاحتلال والداعم للمقاومة وللقضية الفلسطينية، كما يفسّر مواقف روسية أخرى معاكسة للتوجّهات الغربية ومنافسة لها في أفريقيا مثلاً.
يمكن فهم الدعم الإيراني في هذا الاتجاه أيضاً، فحتى وإن لم يكن لها نيات عقدية خلف ما تقدّمه من دعم، إلا أن طهران تحتاج سياسياً لهذه الصورة، التي تربطها بالمقاومة بمعناها الأكبر، الذي لا ينحصر في حزب الله الشيعي أو “الجهاد الإسلامي”، وإنما يمتد لحركة حماس السنّية أيضاً، ما يجعلها تحقق بهذا عدداً من الفوائد. منها مواصلة استغلال هذه الجماعات المقاومة كوسيلة تهديد أو كأذرع لتنفيذ ضربات ضد الكيان، الذي لا يكف عن تنفيذ عمليات نوعية ضد البرنامج النووي الإيراني وضد منشآت أخرى مستغلاً أن إيران لن تكون متهورة لدرجة الدخول في حربٍ مباشرة معه. توجيه ضربات أو القيام بعمليات نوعية على غرار “طوفان الأقصى” يصب في المصلحة الإيرانية ويجعلها توجّه عبرها عدة رسائل، ما قد يعيد التذكير بأهميتها وبامتلاكها وسائل غير تقليدية للردّ تتنوّع وتمتدّ عبر كثير من المساحات الاستراتيجية والحيوية.
من المكاسب الإيرانية أيضاً استعادة بعض الشعبية وإحياء ما كان يعرف بـ”محور المقاومة”، خصوصا في ظل البرود الذي كسا غالب الموقف العربي الرسمي تجاه الأحداث. المحور، الذي كان فقد جاذبيّته بعد توجيه كثيرين من رموزه الرصاص نحو شعوب المنطقة، أعادت له كلمات أبوعبيدة المادحة الحياة، فكانت أشبه بالدعاية المجّانية لمنتج فقد جاذبيته منذ زمن طويل.