تبقى العلاقات الإيرانية العربية محل تجاذبات سياسية وتطورات ميدانية تتحكم فيها الظروف والمواقف الدولية والإقليمية وحالة الصراع القائم على تسيد منطقة الخليج العربي والتحكم بحركة الملاحة فيها كونها الممر الرئيسي لنقل الطاقة للعالم والساحل الاستراتيجي الذي يمثل التجارة العالمية والمصالح المالية والاقتصادية لقوى التأثير العالمي، ومن هنا فإن عملية التصادم السياسي في المواقف والحوارات هي السائدة في كل المحافل والاجتماعات التي تعقد وتناقش أهمية منطقة الخليج العربي ومستقبلها على جميع الأصعدة وفي أولوياتها طبيعة التحكم بالسياسات الدولية والمنافع الإقليمية، نحن أمام دور إيراني لا يقبل الحوار على حساب مصالحه وموقعه الإقليمي ودوره في تنفيذ مشروعه السياسي في التمدد والنفوذ في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي، فمهما كانت المواقف العربية إيجابية من الطروحات الإيرانية ومهما تكاثفت الجهود السياسية في تقريب وجهات النظر بين النظام الإيراني ودول مجلس التعاون الخليجي العربي وصولاً إلى تثبيت حالة الأمن والاستقرار في مضيق هرمز والبحر العربي وتأمين الملاحة الدولية وانسيابية مرور السفن التجارية والحفاظ على ديمومة نقل الطاقة دون أي اشكاليات او أحداث تؤثر على طبيعة الأحداث في هذه المنطقة الاستراتيجية التي تشكل القاعدة الرئيسية للاقتصاد العالمي وتمثل البقعة المهمة في عملية التبادل التجاري وتحقيق الريادة الاقتصادية وتنويع مصادر التجارة العالمية، تبقى الرؤية الإيرانية قائمة ضمن مديات الآفاق الميدانية لسياستها القائمة على المكاسب والمنافع.
إن ما اتفق عليه في اذار 2023 عبر الوساطة الصينية بإصدار اعلان يمهد لعودة العلاقات السعودية الإيرانية مَثل حالة متقدمة في تعزيز العلاقات الخليجية الإيرانية والسعي لتهدئة الأوضاع في منطقة الخليج العربي عبر بوابة عالمية جديدة أخذت مسارها في العمل الدبلوماسي ونجحت الصين لتكون المفتاح الرئيسي لهذه البوابة والتي دخلت من خلالها إلى أتون مشاكل وأزمات الشرق الاوسط.
تصاعد حدت الأحداث في المنطقة بعد المواجهات العسكرية والابادة الجماعية التي تشهدها قطاع غزة، الأمر الذي ادى الى عقد قمة الرياض العربية الإسلامية في الحادي عشر من تشرين ثاني 2023 لوضع الأسس والمرتكزات التي تتحرك من خلالها الدول المجتمعة لمواجهة مخاطر العدوان الاسرائيلي المجازر الوحشية بحق الشعب الفلسطيني وتحديد الأطر السياسية لمستقبل غزة وباقي الأراضي الفلسطينية، ورغم قيام مندوب إيران بالموافقة على مشروع حل الدولتين الذي اقرته الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 17 تشرين الأول 2023 الذي يدعو إلى وقف القتال في غزة والاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل قابلة للعيش والسيادة، إلا أن النظام الإيراني اعترض على بعض الفقرات الواردة في البيان الختامي للمؤتمر حال وصول الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لإيران ومنها عدم اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وحل الدولتين، رغم لقائه بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وتأكيده على الرؤية المشتركة والاتفاق السياسي حول الأوضاع التي بها المنطقة من أزمات تحتاج إلى حلول جذرية.
وهذا ما شكل حالة من التساؤل حول مدى فاعلية الاتفاق السعودي الإيراني وطبيعة مستقبل العلاقات الخليجية الإيرانية والتي تعمل السياسية الإيرانية فيها إلى انتهاج سياسة التصعيد وتوظيف أي تطورات في المنطقة وربطها بمصالحها الذاتية ومكاسبها السياسية وبما يتناسب ودورها الإقليمي، وتماشياً مع هذه المواقف الإيرانية جاء الرد من قبل الناطق الرسمي لوزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني في السادس من كانون الأول 2023 على البيان الختامي لاجتماع مجلس التعاون الخليجي العربي وما تطرق له حول إيران، حيث اعرب عن أسفه تجاه بعض فقرات البيان الختامي للاجتماع الرابع والأربعين لقادة مجلس التعاون الخليجي واعتبرها ( غير مقبولة ومرفوضة) وان الجزر الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وابوموسى جزءاً أبدياً لا يتجزاً من أرض إيران، وأن أي حديث عنها يعتبر تدخل في سيادتها الداخلية ووحدة أراضيها ( وندين ذلك بشدة).
جاء التأكيد الإيراني بمثابة حالة من الازعاج وعدم الرضا على ما ورد في البيان الخليجي الذي أكد دعم حق السيادة للأمارات العربية المتحدة على جزرها الثلاث وعلى المياه الإقليمية والاقليم الجوي والجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة للجزر الثلاث باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من أراضي الإمارات العربية المتحدة واعتبار أي قرارات او ممارسات أو أعمال تقوم بها إيران على الجزر الثلاث (باطلة ولاغية ) ولا تغير شيئا من الحقائق التاريخية والقانونية التي تُجمع على حق وسيادة الإمارات على جزرها والدعوة لحل القضية عن طريق المفاوضات المباشرة أو اللجوء إلى محكمة العدل الدولية.
وأكد قادة دول الخليج العربية قلقهم من التطورات الحاصلة في البرنامج النووي الإيراني وضرورة استعداد طهران للتعاون والتعامل بشكل فعال مع جميع المبادرات والحوارات الخاصة بهذا الملف، وضرورة مشاركة دول المجلس في جميع المفاوضات والمباحثات الإقليمية والدولية بهذا الشأن والتركيز على أهمية مناقشة الشواغل الأمنية لدول الخليج العربية بما فيها الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة وسلامة الملاحة والمنشأت النفطية بما يسهم في تحقيق الأهداف والمصالح المشتركة واحترام السيادة وسياسات حسن الجوار والالتزام بالقرارات الأممية والشرعية الدولية مع ضرورة عدم تجاوز إيران نسب تخصيب اليورانيوم التي تتطلبها الاستخدامات السلمية والوفاء بالتزاماتها وتعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
كانت مقررات المجلس مركزة ودقيقة ورسالة واضحة للنظام الإيراني حول دوره الإقليمي في المنطقة وتحديد المسارات الحقيقية لإثبات حسن نواياه في تعزيز سياسة الانفتاح والتوافق مع الرؤية السياسية والاستراتيجية الأمنية لدول الخليج العربي وإعطاء مساحة من التعامل الدبلوماسي يمنح إيران فرصة لتحقيق أواصر التقارب والتفاهم الخليجي الإيراني في ضوء ما اتفق عليه من بيانات ولقاءات على مستوى القيادات السياسية لدول الخليج العربي وإيران.
لم يعطي النظام الإيراني دلالة واضحة لحسن تعامله مع ما أقره المجلس الأعلى لدول الخليج العربي بل أشار الناطق الرسمي لوزارة الخارجية الإيرانية إلى ( أن القدرات الصاروخية للجمهورية الإسلامية الإيرانية تأتي في إطار العقيدة العسكرية الشفافة والقائمة على الردع والحفاظ على الأمن القومي الإيراني) وانها تواصل تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية على أساس اتفاقية الضمانات الشاملة.
إن المفهوم القائم لأسس الأمن القومي الخليجي يبتعد عن ما تراه إيران، فالدول الخليجية العربية لديها ثوابت وأسس تسعى فيها لتعزيز حالة السلم والاستقرار في المنطقة، في حين يرى النظام الإيراني ومؤسساته الاستخبارية والعسكرية أن دوره الإقليمي يقوم على مبدأ تصدير الثورة الإيرانية وتدعيم حالة النفوذ والهيمنة في منطقة الشرق الاوسط ومنها الخليج العربي وإدراك لأهمية دوره وضرورة الحفاظ على مكانته في أي مستجدات سياسية وتجاذبات إقليمية ودولية مع اعتماد سياسة التعنت وإظهار القوة رغم جميع المواقف الإيجابية التي طرحتها دول الخليج العربي في البيان الختامي للمجلس الأعلى في دورته الرابعة والأربعين.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية