رجح محللون أن تواجه سلاسل التوريد العالمية فترة صعبة المرحلة المقبلة ليس بسبب الأزمات المتعلقة ببطء أنشطة الأعمال أو التكاليف، بل بسبب الخلافات العميقة بين الولايات المتحدة والصين والتي تضع أكبر اقتصادين في العالم على شفا مواجهة كبرى.
بكين/واشنطن – يحبس العالم أنفاسه أمام تصعيد خطير في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، وهو التوتر الذي تمكنت القوتان الاقتصاديتان الكبيرتان من احتوائه، دون توقيفه، وذلك بفضل الجهود الدبلوماسية على أعلى مستوى.
ولا يبدو أن بداية 2024 ستختلف عما يبدو أنه أصبح ثابتا في العلاقات بين البلدين، والذي تغذيه المنافسة الاقتصادية الشرسة، ولكن قبل كل شيء الحسابات الجيوإستراتيجية ذات الأهمية القصوى، لاسيما في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وعجلت الأزمات المتتالية في السنوات الأخيرة برسم حدود جديدة للعلاقات التجارية بين الطرفين، إذ ينظر كل منهما إلى الآخر على أنه المنافس الأكبر على النفوذ الاقتصادي العالمي وأنه يجب اقتناص الفرص الصناعية والاستثمارية.
وشكلت أزمة الوباء ثم الصراع الدائر في شرق أوروبا نقطة مراقبة مهمة للكثير من المحللين للوقوف على تبعات الحرب التجارية القائمة أصلا لمعرفة النتائج، التي قد تطرأ في السنوات المقبلة.
وتشهد التجارة الأميركية تحوّلات على خلفية تنامي الصدمات، لكن جهود تخفيف درجة الارتباط بين القوتين لن تؤدي إلى انفصال سريع كما يؤكد ذلك المراقبون.
وفي ظل تصاعد المخاوف الأمنية وتراجع الواردات الأميركية من الصين بعدما تبادلتا فرض الرسوم الجمركية والعقوبات على شركات التكنولوجيا، بدا وكأن حجم التجارة سيضعف بشكل أكبر.
ويمكن أن تقل الأرقام أكثر عندما يتم نشر بيانات 2023 التجارية في وقت لاحق هذا العام، في إشارة إلى مدى الخلافات بين البلدين والتي ستترك آثارا سلبية على سلاسل التوريد.
وبحسب تقرير نشرته وكالة الأنباء المغربية الرسمية، فإن هناك تطورين مهمين يستأثران بالانتباه في بداية هذا العام.
ويتعلق الأمر الأول بتفاقم فك ارتباط الاقتصاد الأميركي عن الصين، مع انخفاض كبير في الواردات الأميركية من ثاني أكبر اقتصاد في العالم، الشريك التجاري الرئيسي للولايات المتحدة.
أما الأمر الثاني فيتعلق بزيادة التوتر في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث يدخل الصينيون والأميركيون في مواجهة محتمدمة.
وأصدرت وزارة الخارجية الأميركية السبت الماضي بيانا مشتركا مع اليابان وكوريا، أعربت فيه عن “المخاوف” إزاء “سلوك” الصين في المنطقة.
وأثار كلا التطورين غضب بكين، وهو ما جعل المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماو نينغ تهاجم بشدة الاثنين الماضي، ما وصفته بـ”الممارسات التمييزية” من الأميركيين عقب قرارها تشديد الرقابة على صادرات أشباه الموصلات لبلدها.
وبحسب نينغ تندرج الإجراءات الأميركية المتخذة بحجة الأمن القومي، في إطار “الإكراه الاقتصادي المحض”. وبخصوص الوضع في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، عارضت بكين بشدة اللهجة المستخدمة في بيان وزارة الخارجية الأميركية.
وقالت نينغ “لا مجال للتدخل في الشؤون الداخلية” للصين، محذرة من أن مثل هذه الخطوة لن تؤدي إلا إلى تأجيج المواجهة والعداء. وفي سياق هذا التوتر، أعلنت الصين فرض عقوبات على خمس شركات دفاع أميركية ردا على موقف واشنطن بشأن تايوان.
وأوضحت الخارجية الصينية أن هذه العقوبات تتمثل في تجميد أصول هذه الشركات في الصين، بما في ذلك ممتلكاتها المنقولة وغير المنقولة، ومنع المنظمات والأفراد في الصين من إجراء المعاملات والتعاون معها. وبحسب المحللين، فإن في هذا السياق، الذي يتعقد أيضا بسبب قضايا أخرى، من بينها الحرب في أوكرانيا، يتعين أن تتطور العلاقات الصينية – الأميركية هذا العام، مشيرين إلى أنهم يتوقعون تفاقم الحرب التجارية القائمة.
وتظهر الأرقام الصادرة مؤخرا أن المكسيك أزاحت الصين، لتصبح الشريك التجاري الرئيسي للولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، انخفضت حصة الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة من 22 في المئة سنة 2017 إلى 16 في المئة حاليا.
16 في المئة حصة صادرات الصين إلى السوق الأميركية قياسا بنحو 22 في المئة بنهاية 2017
وبعد اندلاع الحرب التجارية خلال فترة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وما بعدها، تراجعت قيمة السلع الأميركية المستوردة من الصين من 506 مليارات دولار في 2017 إلى حوالي 450 مليار دولار في 2019. ويشير المحللون إلى أن الأمر يتعلق بانخفاض مهم جدا يظهر أن آلة فك الارتباط “تعمل بكامل طاقتها”.
غير أن المعلقين الصينيين ينظرون إلى الأمور من زاوية أخرى، وهو ما ذهبت إليه صحيفة “ساوث تشاينا مورنينغ بوست”، المملوكة لمجموعة علي بابا، ومقرها هونغ كونغ، عندما كتبت أنه “من الصعب جدا تجاهل الصين”.
وذكرت الصحيفة، التي تدافع عن مكانة بكين ضمن سلسلة التوريد العالمية، نقلا عن بيانات باين آند كو، وهي شركة استشارات عالمية، أن الصين تمثل 15 في المئة من إيرادات أكبر 200 شركة دولية متعددة الجنسيات. ويتعلق الأمر، بحسب كاتب المقال، برقم “يوضح أهمية الصين والفرص التي توفرها للمستثمرين الأجانب، على الرغم من التحديات والمخاطر الجيوسياسية”.
ويشير المحللون الصينيون إلى محاولات عزل الصين، لاسيما في جوارها، من خلال آليات متعددة الأطراف بين الولايات المتحدة ودول المنطقة، وخاصة الهند. ويقول مدير معهد الإستراتيجية الدولية في الأكاديمية الصينية للحوكمة وو تشي تشنغ، إن محاولات فك الارتباط “تشكل تهديدا لأمن سلاسل التوزيع العالمية”.
ويرى البعض أن الصين ستكون قادرة على مواجهة مثل هذه البيئة التي يخيم عليها عدم اليقين استنادا إلى انتعاش اقتصادي يلوح في الأفق. وأفاد صندوق النقد الدولي مؤخرا بأن من المتوقع أن ينمو الاقتصاد الصيني بنسبة 5.4 في المئة سنة 2023، وهو معدل أسرع من 3 في المئة سنة 2022، عندما كان البلد تحت القيود الاحترازية بسبب جائحة فايروس كورونا.
وتشير توقعات البنك الدولي إلى أن دينامية الاقتصاد الصيني قد تتباطأ إلى 4.5 في المئة سنة 2024، لأن تدابير الانتعاش لم تنجح بعد في الإقناع. ويعتقد الخبراء أن المعدل ليس كافيا ليمكن الصين، البلد الذي بصدد مواجهة أزمة عقارية مثيرة للقلق، من مواصلة صعودها القوي ضد العملاق الأميركي. وشددوا على أن مناخ عدم اليقين يتعين أن يستمر في إلقاء ظلاله على أجواء العلاقات الصينية – الأميركية خلال الأشهر الطويلة القادمة.
العرب