تعاني مصر وتونس ولبنان من نقاط ضعف اقتصادية هيكلية، وترزح تحت وطأة ديون ثقيلة، وتعتمد اعتمادًا كبيرًا على واردات الغذاء والطاقة، ناهيك عن أنها إما فاوضت على اتفاقاتٍ مع صندوق النقد الدولي وإما تحتاج إليها.
القاهرة – أدت أزمات الغذاء والطاقة والديون في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى احتداد مظاهر الضعف الاقتصادية الهيكلية للبلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل، ولاسيما مصر وتونس ولبنان، ما أسفر عن ضغوط متزايدة على الأنظمة السياسية المحلية، وعمّق التهميش الجيوسياسي الذي تعاني منه هذه البلدان.
ويقول حمزة المؤدّب الباحث في الاقتصاد السياسي للنزاعات ونور عرفة الباحثة في الاقتصاد السياسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تقرير نشره معهد كارنيغي إن أزمات الغذاء والطاقة والديون لعبت دورًا كبيرًا في إعادة تشكيل كلٍّ من النظم المحلية وميزان القوى السياسي والاقتصادي الإقليمي.
ويشير الباحثان إلى أن هذه الأزمات في مصر وتونس ولبنان، وغيرها من البلدان المستوردة للطاقة، فاقمت المشاكل المالية التي تضع المسؤولين أمام معضلة اختيار السياسات المناسبة.
وتُبدي الأنظمة تردّدًا في تطبيق الإصلاحات، نظرًا إلى التكاليف الاجتماعية والسياسية المترتّبة عليها والتي قد تُفقِدها ناخبيها. وفي الوقت ذاته لن يؤدّي الإحجام عن تنفيذ الإصلاحات والتعديلات الهيكلية سوى إلى المزيد من تدهور الظروف المالية العصيبة التي تعيشها هذه البلدان، وإرساء أوضاعٍ غير مستدامة.
وفرضت هذه الأزمات إعادة ترتيبٍ للأوضاع الاقتصادية والجيوسياسية، بما يقوّي الدول المُصدّرة للنفط والغاز، وفي الوقت نفسه يزيد تهميش الدول التي تفتقر إلى موارد الطاقة.
أوجه الضعف الهيكلية
لكي تتمكّن هذه الدول من الخروج من نفق مشاكلها المالية المظلم ينبغي لها أن تعيد النظر في نموذج التنمية الاقتصادية
تعتري اقتصادات مصر وتونس ولبنان مجموعةٌ من العيوب الهيكلية، ولهذا السبب لا يمكن أن تُعزى أزمات الغذاء والطاقة والديون التي تواجهها هذه البلدان ببساطة إلى تداعيات الصراع في أوكرانيا أو جائحة كورونا.
وما لم تعالج هذه البلدان أوجه القصور فلن تتمكّن من تخطّي الصعوبات التي تواجهها. لكن الخيارات الصعبة التي فُرِضَت على القادة في أرجاء المنطقة كافّة أنتجت حالة من الجمود لن تفضي سوى إلى تفاقم الظروف المالية والاقتصادية في هذه البلدان خلال المرحلة المقبلة.
إن أولى المشاكل الكبرى التي تعاني منها النُظم الغذائية في البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي انعدام الأمن الغذائي، أي الافتقار المادّي والاقتصادي إلى ما يكفي من المواد الغذائية الآمنة والمغذّية الضرورية لنمو طبيعي وصحّي.
في المقابل أسفر تضخّم أسعار المواد الغذائية، إضافة إلى انخفاض قيمة العملات المحلية، عن تراجع القدرة الشرائية للمستهلكين، ولاسيما في مصر وتونس ولبنان، الأمر الذي قيّد إمكانية الحصول على الغذاء، تاركًا الفئات السكانية الفقيرة والضعيفة، في أسوأ الظروف.
وعلى سبيل المثال ازدادت أسعار المواد الغذائية في مصر ثلاثة أضعاف بين العامَين 2016 و2019، في أعقاب الإصلاحات الاقتصادية التي أجرتها الحكومة، والتي خسر فيها الجنيه المصري 50 في المئة من قيمته.
أولى المشاكل الكبرى التي تعاني منها النُظم الغذائية في البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي انعدام الأمن الغذائي
ومعدّل التضخّم آخذٌ في الارتفاع في تونس أيضًا، حيث ازدادت أسعار المواد الغذائية في ديسمبر 2022 بنسبة 14.6 في المئة عمّا كانت عليه في الشهر نفسه من العام 2021.
لكن تضخّم أسعار المواد الغذائية يبقى الأعلى في لبنان، حيث أُضيف ارتفاع أسعار المواد الغذائية العالمية إلى الأزمة الاقتصادية والمالية الحادّة التي تواجهها البلاد منذ أواخر العام 2019. وقد أسفر ذلك عن تراجع قيمة العملة، إذ خسرت الليرة اللبنانية أكثر من 98 في المئة من قيمتها، وعن تضخّم مفرط، بحيث ازدادت الأسعار بنسبة 500 في المئة بين ديسمبر 2018 وأكتوبر 2021.
وتسهم مشكلة هيكلية أساسية أخرى في شرح الأزمة الغذائية الراهنة، وتتمثّل في تحوّل النُظم الغذائية إلى الاعتماد على الاستيراد وتأثير ذلك على الإنتاج الزراعي المحلّي، وتحديدًا تراجع الإنتاج القادر على تلبية الطلب المحلّي.
وأدّى الترويج للزراعة الموجَّهة نحو التصدير وطبيعة الإنتاج الذي يحتاج إلى رأسمال كثيف في مختلف أنحاء المنطقة إلى حدوث أزمة بيئية ناجمة عن ممارسات الإنتاج الغذائي غير المستدامة. كما يسهم تغيُّر المناخ في احتداد أزمة الاستدامة البيئية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ باتت القحولة (معدل التساقطات أقل من معدل المياه المتبخرة) وموجات الجفاف الدورية من الظواهر المتأصّلة في المنطقة.
تأثير جيوسياسي
من أجل معالجة أزمة الغذاء لا بدّ من إعادة النظر في النُظم الغذائية السائدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والسعي نحو بلورة نُظم أكثر إنصافًا واستدامة
تُسهم أزمات الغذاء والطاقة والديون المتداخلة في إعادة تشكيل المشهدَين السياسي والاقتصادي في كلٍّ من مصر وتونس ولبنان، وستؤدّي إلى تأثيرات بعيدة المدى تلقي بظلالها على ديناميكيات القوة في مختلف أرجاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وعلى الصعيد المحلي تزيد هذه الأزماتُ الضغوطَ على النخب الحاكمة التي صار لزاما عليها حلّ معضلات ملحّة على مستوى السياسات. إن الفشل في التصدّي لهذه التحديات المتنامية سيزيد حتمًا تردي الأوضاع الصعبة التي تشهدها هذه الدول أساسًا. أما من المنظور الجيوسياسي، فقد أطلقت هذه الأزمات في مختلف أنحاء المنطقة عملية إعادة ترتيبٍ للأوضاع الاقتصادية، بما يعزّز مكانة البلدان المصدّرة للنفط والغاز على حساب إضعاف الدول التي تفتقر إلى موارد الطاقة.
وطرحت أزمات الغذاء والطاقة والديون تحديات معقّدة لقادة مصر وتونس ولبنان. فهذه البلدان الثلاثة تفتقر إلى الدعم المالي الخارجي الذي تشتدّ حاجتها إليه، ولاسيما بعد أن خسرت مصر الريع الجيوسياسي الذي كانت تؤمّنه دول الخليج في أعقاب انقلاب عام 2013، وفقدت تونس “الريع الديمقراطي” من المؤسسات والشركاء في الغرب. أما لبنان فلم يطبّق حزمة الإصلاحات اللازمة للحصول على المساعدات المالية من صندوق النقد الدولي. ونتيجة لذلك تجاهد هذه الدول للخروج من دوّامة أزماتها ولمعالجة اختلالاتها الهيكلية. وتكمن المعضلة التي تتخبّط فيها أنظمتها في أن الإصلاحات المطلوب تنفيذها للحصول على المساعدات المالية اللازمة لمعالجة الأزمة ستُحدث تضاربًا في المصالح بين القوى المختلفة في مجتمعاتها، الأمر الذي سيُزعزع استقرار الائتلافات الحاكمة، ومن المرجح أن يُعيد تشكيلها.
وكشفت سياسة المساعدات المالية عن المعضلات السياسية والاقتصادية التي تواجهها البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل، والصعوبة التي تواجهها في إرساء استقرارها الداخلي، وفي الوقت نفسه سلّطت الضوء على الاختلالات الإقليمية المتنامية. لقد ساهمت المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها مصر وتونس ولبنان خصوصًا في تدهور أوضاعها المالية، وزادت بالتالي اعتمادها الجيوسياسي على الجهات الإقليمية المموِّلة. كذلك سعت الدول الثلاث إلى الحصول على المساعدة من صندوق النقد الدولي ومن دول أخرى، لكن نتائج المفاوضات كانت متباينة كثيرًا.
حلول عاجلة
أزمات الغذاء والطاقة والديون لعبت دورًا كبيرًا في إعادة تشكيل كلٍّ من النظم المحلية وميزان القوى السياسي والاقتصادي الإقليمي
تقف حكومات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مشارف آفاقٍ قاتمة في ما يتعلق بتحقيق الاستقرار والنمو على المدى الطويل. إن المخاطر المُحدقة بالبلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل جمّة، ولاسيما بعد أن شهدت عقدًا ضائعًا نتيجة الركود الاقتصادي والاعتماد الشديد على الواردات لتأمين موارد الطاقة والمواد الغذائية. وينطبق ذلك خصوصًا على مصر وتونس ولبنان التي ترزح كلّها تحت وطأة أزمة ديون حادّة. وفيما لا يزال بإمكان مصر وتونس تفادي سيناريو التخلّف عن السداد وما يرافقه من أوضاع مُزعزعة للاستقرار السياسي، يبقى أنهما لا تمتلكان أي رؤية ذات مصداقية كفيلة بتحقيق النمو والتحوّل الاقتصادي على المدى الطويل لمعالجة مكامن الضعف الهيكلية التي تعتري اقتصادَيهما.
وستواجه هذه البلدان في السنوات المقبلة تحديًا أساسيًا يتمثّل في محاولة تحقيق التنمية الشاملة للجميع.
ولن يكون سهلًا التعامل مع هذا التحدي، إذ تتطلّب العملية إعادة هيكلة النُظم القائمة والحدّ من نفوذ مجموعات المصالح القوية؛ أي المؤسسة العسكرية في مصر، والنخب الاقتصادية الريعية في تونس، والنخب السياسية والمالية في لبنان.
وإلى حد الآن حاولت هذه النخب تجنّب تأثيرات الضغوط الاجتماعية الاقتصادية من خلال اللجوء إلى إستراتيجيات شعبوية وسلطوية في حالتَي مصر وتونس، أو عن طريق فرض جمود سياسي وخيم في حالة لبنان.
ولم تنجح هذه الإستراتيجيات في معالجة الأسباب الهيكلية الكامنة خلف أزمات الغذاء والطاقة والديون في كلٍّ من الدول الثلاث. ولم تتمكّن حكومات هذه الدول برؤيتها المقتصرة على المدى القصير، ولا صندوق النقد الدولي بمقاربته البرامجية غير السياسية التي لا تعطي الأولوية للأسباب الرئيسة التي تعيق التنمية الاقتصادية، من تطبيق أي تغيير هيكلي.
ومن أجل معالجة أزمة الغذاء لا بدّ من إعادة النظر في النُظم الغذائية السائدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والسعي نحو بلورة نُظم أكثر إنصافًا واستدامة.
وتنطوي هذه العملية على الربط بين الأمن الغذائي والعدالة الاجتماعية والإنصاف الاجتماعي والاقتصادي، ما يقتضي في المقام الأول إعادة النظر في النمط السائد القائم على إنتاج الغذاء على نطاق واسع، وذلك من خلال الإعلاء من قيمة زراعة الكفاف والإنتاج الزراعي على نطاق صغير من أجل الاستهلاك المحلي.
الأنظمة تُبدي تردّدًا في تطبيق الإصلاحات، نظرًا إلى التكاليف الاجتماعية والسياسية المترتّبة عليها والتي قد تُفقِدها ناخبيها
ويمكن أن يترافق ذلك مع دعم المزارعين من أصحاب الحيازات الصغيرة، وتمكينهم وتعزيز قدرتهم على التحكم في الموارد، ومعالجة المشاكل الأساسية التي يعانون منها مثل اللامساواة وصعوبة الوصول إلى الأراضي والتهميش والتفاوت في ملكية الأراضي. هذه العملية ضرورية لتنويع مصادر الإمدادات الغذائية وتقليص احتمالات التأثّر بالصدمات الخارجية مثل تقلّب الأسعار وتعطّل سلاسل الإمداد، وكذلك لإرساء قدرٍ أكبر من الأمن الغذائي في المجتمعات المحلية الريفية وتحسين ظروفها المعيشية، والإسهام في تحقيق الاستدامة البيئية. ومن المعروف أن صغار المزارعين يطبّقون ممارسات زراعية أكثر استدامة من تلك التي يطبّقها كبار المزارعين. لذلك يُعدّ اتّباع التقنيات المستدامة أمرًا بالغ الأهمية من أجل تعزيز التنوع البيولوجي والحدّ من الأضرار المؤذية التي تتكبّدها البيئة جرّاء الزراعة واسعة النطاق وأحادية المحصول.
ومن أجل تخفيف تأثير الصدمات الناجمة عن ارتفاع الأسعار على البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ينبغي لهذه الدول إصلاح أنظمة الدعم فيها وتسريع وتيرة انتقالها إلى مصادر الطاقة المتجدّدة.
ولكي تتمكّن الدول الثلاث من معالجة أزمة الديون والخروج من نفق مشاكلها المالية المظلم، ينبغي لها أن تعيد النظر في نموذج التنمية الاقتصادية السائد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الذي ارتكز في الغالب على الزبائنية ورأسمالية المحاسيب، ونقص الاستثمار في القطاعات المنتجة، وتضخّم قطاعات الخدمات بشكل غير متكافئ، وهيمنة الاستثمارات القائمة على المضاربة، ولاسيما في قطاع العقارات.
وتواجه مصر وتونس ولبنان تحدّيًا أساسيًا فشلت حتى الآن في التصدّي له، ويتمثّل في عدم استدامة أنظمتها الاقتصادية وترتيباتها السياسية والبنى الحالية لعلاقات القوة فيها. فعسكرة الاقتصاد المصري تضيّق الخناق على القطاع الخاص وتقوّض آفاق النمو للطبقة الوسطى الآخذة في الانحسار. وفي تونس يُفترَض أن تشمل التدابير الإصلاحية التفاوض بشأن علاقة الدولة مع العمّال وممثّلي رأس المال للتوصل إلى اتفاق بإمكانه تحفيز الزخم السياسي من خلال تفكيك الاقتصاد الريعي واستحداث وظائف من أجل الحفاظ على قدرة التونسيين الشرائية.
وفي لبنان أدّت حرب الاستنزاف التي تخوضها النخب، فضلًا عن عدم استعدادها لإجراء تغييرات منهجية، إلى انهيارٍ غير مسبوق قد يسهم في انزلاق البلاد إلى حرب أهلية.
وإذ من الضروري أن تأتي القرارات بشأن التغييرات الهيكلية الأساسية وتبنّيها من داخل الدول نفسها، بإمكان المؤسسات المالية الدولية أيضًا أن تؤدّي دورًا مهمًّا في تشجيع هذه الدول ومساعدتها على التكيف مع التحديات المرتبطة بالأمن الغذائي وتغيّر المناخ والتحوّل في مجال الطاقة. لكن يتعيّن على هذه المؤسسات أن تعدّل مقارباتها بحسب ما تقتضيه الوقائع المعقّدة والمحددّة في كل دولة من هذه الدول، وأن تأخذ في الحسبان السياق السياسي لكلٍّ منها، وأن تعطي الأولوية للأسباب الأساسية التي تعرقل آفاق التنمية فيها.
العرب