أكد مسح للمكتب الإقليمي لمنظمة “غلوب إيثيكس” السويسرية أن أكثر من نصف المؤسسات الجامعية التونسية تفتقر إلى الكادر الكفء المختص في مجال الأخلاقيات وأن أغلبها لا تدرس الأخلاقيات بتاتا. ورصد المسح نقصا في تدريس المادة، مشيرا إلى أن الغش ظاهرة تشكل أكثر السلوكيات المخلة بالأخلاقيات انتشارا في الجامعات التونسية التي تفتقد لآليات التبليغ عن تلك التجاوزات.
تونس – تشير انتهاكات مثل الغش في الامتحانات والانتحال الأدبي إلى تراجع القيم والمبادئ الأخلاقية مثل الصدق والنزاهة والاحترام والمسؤولية لدى الطلاب، ويرجع ذلك إلى نقص في تدريس الأخلاقيات في مؤسسات التعليم العالي. وكشف مسح أعده المكتب الإقليمي لشمال أفريقيا والشرق الأوسط لمنظمة “غلوب إيثيكس” السويسرية، عن “تسجيل عدة نقائص في تدريس الأخلاقيات بمؤسسات التعليم العالي في تونس”، وفق ما أفاد مدير المكتب كمال العيادي.
وذكر العيادي خلال يوم دراسي انتظم بتونس حول “واقع تدريس الأخلاقيات في المؤسسات الجامعية”، أن جملة النقائص التي أحصاها المسح تمثلت بالخصوص في نقص تدريس الأخلاقيات في منظومة التعليم العالي العمومي والخاص في تونس، وعدم مأسستها وكذلك غياب كادر التدريس المختص وضعف آليات التعديل في مواجهة السلوكيات المتعارضة مع مبادئ الأخلاقيات.
وبيّن أن إنجاز المسح ارتكز على توجيه استبيان غطى 303 مؤسسة جامعية 15 في المئة منها تنتمي إلى القطاع الخاص و85 في المئة إلى القطاع العمومي، مشيرا إلى أن المنظمة تلقت الردود والإجابات حول أسئلة وجهتها إلى مديري هذه المؤسسات تمحورت حول قياس مدى مأسسة الأخلاقيات في المؤسسات الجامعية. وقدم مدير المكتب الإقليمي لمنظمة “غلوب إيثيكس”، عرضا عن جملة الإشكاليات التي تشوب منظومة الأخلاقيات بمؤسسات التعليم العالي التونسية، مبينا أن اختيار هذه المؤسسات الجامعية كموضوع للبحث يعكس أهميتها نظرا لكونها الفضاء الأكاديمي لتدريس الأجيال الناشئة على القيم.
وأظهرت نتائج المسح أن 68 في المئة من المؤسسات الجامعية التونسية تفتقر إلى الكادر الكفء المختص في مجال الأخلاقيات وأن 40 في المئة منها لا تدرس الأخلاقيات بتاتا. وكشف المصدر ذاته أن 30 في المئة فقط من مديري المؤسسات الجامعية المستجوبين أكدوا وجود اهتمام بهذه المادة، في حين أقر 70 في المئة منهم بانعدام الاهتمام الكافي تجاه تدريس الأخلاقيات. وتدريس الأخلاقيات هو عملية مساعدة الطلاب على تطوير المهارات والمواقف اللازمة لاتخاذ القرارات الأخلاقية والتصرف بمسؤولية في ظروف مختلفة. والأخلاق ليست مجرد جزء من التعاليم الدينية أو فرع من فروع الفلسفة، بل هي ممارسة مهمة في الحياة اليومية.
وقال الدكتور عبداللطيف خليفة في كتابه “أخلاقيات التعليم” إن “الأخلاقيات هي مجموعة من المبادئ والقيم التي تنظم سلوك الإنسان في المجتمع. وهي ليست مجرد مجموعة من القواعد التي يجب الالتزام بها، بل هي أيضا أسلوب حياة يعتمد على الصدق والأمانة والمسؤولية والاحترام للآخرين”. ولذلك، فإن تدريس الأخلاقيات لا يقتصر على نقل المعلومات، بل يشمل أيضا إثارة المناقشات حول المعضلات الأخلاقية في العالم الحقيقي. كما أن تدريس الأخلاق يساعد الطلاب على الالتزام بالقيم الأخلاقية ويعزز ثقة المعلم أو المدرس بهم.
وأظهرت نتائج المسح أن ظاهرة الغش تشكل أكثر السلوكيات المخلة بالأخلاقيات انتشارا في مؤسسات التعليم العالي التونسية بنسبة تصل إلى 53 في المئة، تليها السرقات الأدبية بـ48 في المئة، ثم المحاباة بـ27 في المئة، والتحرش بـ20 في المئة، وأخيرا تضارب المصالح بـ14 في المئة.
وأشار التقرير المرفق لنتائج المسح، إلى أن 31 في المئة من مديري المؤسسات الجامعية أقروا بغياب آليات للتبليغ عن هذه التجاوزات والممارسات المخلة بالأخلاقيات. وكان المرصد التونسي للتعليم العالي والبحث العلمي قد حذر من تفشي ظاهرة الغش في الامتحانات ومخاطرها التي تهدد قيمة الشهادات العلميّة وتصنيف الجامعات التونسية وتبعاتها على مستوى الطالب، لاسيما بعد أن توسّعت دائرتها في مختلف شعب التعليم العالي وفي مختلف المستويات. ودعا مختلف الأطراف المتداخلة إلى التصدي لهذه الظاهرة والحدّ من انتشارها والتوقّي من تداعياتها الحالية والمستقبلية على المنظومة التعليمية برمتها.
وأوضح المرصد أنه توصّل بعدد من التشكيّات في علاقة بهذه الظاهرة وتذمر عدد كبير من الطلبة، وهو ما يمس في تقديره من مبدأ المساواة وشفافية الامتحانات، مبرزا في ذات الوقت أهم مظاهرها ومنها المتعلق بالطلاب على غرار استعمال العديد منهم للهواتف الجوالة واستعمال آخرين لوثائق الدروس أو وثائق معدة للغرض، ومنها ما هو متعلق بالأساتذة المراقبين كسماح بعضهم للطلاب بالتحدث وللبعض الآخر باستعمال الوثائق والهواتف الجوالة، فضلا عن خوفهم من القيام بدورهم وعدم كتابتهم لتقارير حول حالات الغش.
واعتبر المرصد أن أهم مخاطر الظاهرة هي المسّ من مبدأ المساواة أمام مرفق عام للتعليم العالي وشفافية الامتحانات ونزاهة القائمين عليها ومستوى الطالب من قيمة الشهادات العلمية المتحصل عليها، وتصنيف الجامعات التونسية على المستوى الدولي والمزيد من انتشار ظاهرة الفساد عند تقلد الطلاب الناجحين باستعمال الغش لمناصب إدارية.
ورغم ما عُرفت به الجامعة التونسية منذ تأسيسها سنة 1957 من صرامة في تكوين الطلبة وانضباط في تأهيل الباحثين وهو ما جعلها في مقدمة الجامعات العربية والأفريقية وقبلة للعديد من الطلبة الأجانب، ونوّلها الترتيب الحسن لدى مؤسسات التصنيف العالمية، وجعل خرّجيها من النخب المرموقة في العالم التي تطلبها كبرى الشركات والمؤسسات الاقتصادية العالمية.. فإن هناك تغييرات عديدة قد حصلت في الأثناء، حيث سرت في السنوات الأخيرة ظواهر غريبة أضرت بسمعة الجامعة التونسية وأساءت لمنتسبيها وخريجيها مما جعلها في تقهقر مسّ من تصنيفها الإقليمي والقاري والعالمي، ومن ذلك ظاهرة الانتحال الأدبي.
وفي 2018، كشفت المحاضرة الجامعية التونسية سميحة خليفة حجم الانتحال الأدبي الذي تضمنته أطروحة دكتوراه مقدمة إلى المعهد العالي للفلاحة بشط مريم التابع لجامعة سوسة، إذ سرقت الباحثة 157 صفحة من مراجع نشرت سابقا من بين إجمالي 223 صفحة هي كامل الرسالة العلمية التي رفضت في سبتمبر 2017، بالإضافة إلى قرار تال من لجنة الأطروحات بالمعهد إثر اجتماع لها في السابع عشر من أكتوبر 2017 بحرمان الطالبة المعنية من المناقشة أو التسجيل ثانية في المعهد، كما تقول الأكاديمية خليفة المقررة في لجنة الأطروحات والتأهيل بالمعهد.
وعلى الرغم من كل الإجراءات السابقة، فوجئت الأكاديمية خليفة وزملاؤها بتعمّد الطالبة مناقشة أطروحتها في فرنسا ونيلها الدكتوراه عبر بحث مسروق كما تقول، موضحة أن من بين المصادر التي سرقتها صاحبة الأطروحة دراسة نشرتها “يونسكو” سنة 1981 والسطو على مراجع نشرها مجلس أوروبا (منظمة دولية تتكون من47 دولة تأسست في 1949).
وللحدّ من السرقات العلمية، وقّعت الجمعية التونسية للدفاع عن القيم الجامعية في 2017 على الميثاق الجامعي المنبثق عن المجالس العامة للجامعة التونسية، ويهدف هذا الميثاق إلى بلورة رؤية استشرافية حول الجامعات، وهو عبارة عن مدونة سلوك حول المبادئ الأكاديمية التي من بينها النزاهة والشفافية والإنصاف وحرية التفكير. واعتبر رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن القيم الجامعية الحبيب ملاخ أن ميزة هذا الميثاق تكمن في إرسائه مبادئ وقيما هي في شكل أخلاقيات جامعية يوحي بها الضمير الأكاديمي ويقرها المجتمع الجامعي.
وكان الخبير الدولي في تقييم النظم التربوية وإصلاحها محمد بن فاطمة، قد أكد أنه لا يمكن الإصلاح ومعالجة السرقات العلمية ما دامت المنظومة التربوية ككل لم تخضع لإصلاح شامل، موضحا أنّ المنظومة التربوية تعاني من ضعف يجعلها عرضة لمثل هذه التجاوزات، مبينا أنه للحد من السرقات يجب وضع أربعة أسس صلبة تقوم على إرساء المجلس الأعلى للتربية وهو غائب في تونس، ومعهد وطني لتقييم المنظومة التربوية، وأيضا كلية للتربية وميثاق وطني عبارة عن دستور تربوي مصغر لا يمكن الحياد عنه.
يشار إلى أن منظمة “غلوب إيثيكس” غير الحكومية، التي أحدثت منذ نحو 7 أشهر بتونس مكتبها الإقليمي الذي يغطي منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، تعتبر منصة عالمية لإنتاج المحتوى والمضامين ذات العلاقة بمسألة الأخلاقيات لفائدة المؤسسات المهنية، والهياكل العمومية والخاصة والجامعات، حيث تتضمن الشبكة ألف جامعة من مختلف أنحاء العالم في مجال تدريس الأخلاقيات ومختلف أبعادها على المستوى السياسي والاجتماعي والمهني.
العرب