يمتد إنتاج الذهب في إفريقيا قرون طويلة ويُعتبر جزءًا مهمًا من تاريخ القارة الاقتصادي والثقافي. اذ كانت إفريقيا موطنًا لبعض أغنى حقول الذهب في العالم، وكان يُعتقد أن مناطق مثل غانا (التي كانت تُعرف سابقًا باسم “مملكة الذهب”) ومالي من أكبر منتجي الذهب في العصور الوسطى. ارتبطت تجارة الذهب في إفريقيا القديمة بنمو الممالك والإمبراطوريات، مثل إمبراطورية مالي التي ازدهرت في القرن الـ 14 تحت حكم مانسا موسى، الذي يُعتبر أحد أغنى الرجال في التاريخ.
في العصر الحديث، تواصل إفريقيا لعب دور رئيسي في إنتاج الذهب، حيث تُعد جنوب إفريقيا وغانا ومالي والسودان من بين أكبر المنتجين في القارة. تعتمد العديد من الدول الإفريقية على الذهب كأحد مصادر الدخل الرئيسية، على الرغم من التحديات البيئية والاقتصادية المرتبطة بالتعدين، مثل التهريب والمشكلات البيئية والتفاوتات الاقتصادية.
شهدت صادرات الذهب في السودان زيادة كبيرة على الرغم من الحرب المستمرة منذ 17 شهرًا. ومع تباطؤ الاستثمارات وتوقف الأنشطة الاقتصادية مثل العقارات والتصنيع، توجهت رؤوس الأموال السودانية نحو التعدين التقليدي للذهب. وقد أوجد الفراغ الاقتصادي الناتج عن تدمير المصانع وتعطل النشاط التجاري دفع الكثيرين للانتقال إلى التعدين، مما أدى إلى تأثير متسلسل على العديد من الصناعات المرتبطة.
التعدين التقليدي للذهب: شريان اقتصادي للحياة
يعتبر قطاع التعدين التقليدي للذهب الآن جزءًا حيويًا من الاقتصاد السوداني، حيث يوظف أكثر من مليوني شخص وينتج حوالي 80% من إجمالي إنتاج الذهب في البلاد. ينتشر هذا النوع من التعدين في 14 ولاية من أصل 18 ولاية في السودان، ويعتبر مصدرًا للحياة للكثيرين، خاصة أولئك الذين فقدوا وظائفهم بسبب النزاع المستمر. يعمل العاملون في هذا القطاع في استخراج ومعالجة الذهب يدويًا باستخدام أدوات بدائية مثل الطواحين وأجهزة الكشف عن المعادن.
وعلى الرغم من أن التعدين التقليدي يمثل مصدر دخل حيوي، إلا أنه يثير أيضًا مخاوف بيئية. يحذر الخبراء من أن استخدام الزئبق لفصل الذهب عن الصخور له تأثيرات خطيرة على الصحة والبيئة. يُبخر الزئبق في كثير من الأحيان بواسطة الحرارة، مما يؤدي إلى إطلاق أبخرة سامة يستنشقها العمال، ما يتسبب في مشاكل صحية تشمل فشل الرئة والكلى على المدى الطويل.
أصبح اعتماد السودان على الذهب كمصدر رئيسي للعملة الأجنبية أمرًا بالغ الأهمية، خاصة بعد فقدان عائدات النفط إثر انفصال جنوب السودان في عام 2011. ومع ذلك، يتم تهريب حوالي 50% من إنتاج الذهب إلى الخارج، حيث يسعى المعدنون إلى بيعه بأسعار السوق العالمية. هذا التهريب الواسع يقلل بشكل كبير من العوائد الاقتصادية لصادرات الذهب، مما يقلل من تأثيرها على اقتصاد البلاد. يقدر المسؤولون أنه إذا تم الحد من التهريب، فإن إيرادات الذهب يمكن أن تصل إلى 7 مليارات دولار سنويًا.
التأثير الاقتصادي العالمي ودور العولمة
يعكس اعتماد السودان المتزايد على الذهب ومسألة التهريب تأثيرات أوسع على الاقتصاد العالمي. أولاً، يؤدي تداول الذهب السوداني في السوق السوداء إلى تشويه أسعار الذهب العالمية، حيث تدخل إمدادات غير منظمة إلى الأسواق الدولية. ثانيًا، تعكس شبكات التهريب كيف تمكّن العولمة التدفق الحر للبضائع عبر الحدود، لكن دون وجود أطر تنظيمية مناسبة، تُضعف الاقتصادات المحلية، كما هو الحال في السودان.
تؤدي زيادة الطلب العالمي على الذهب، خاصة في دول مثل الصين والهند، إلى تضخيم هذه التأثيرات. قد يساهم تهريب الذهب من السودان في زيادة الفوارق الاقتصادية، حيث يستفيد قلة من الأفراد من أرباح التعدين بدلًا من إعادة استثمارها في التنمية الوطنية. تسلط هذه القضية الضوء على مفارقة العولمة، حيث يُفترض أن التجارة الدولية تروج للازدهار، ولكن في هذه الحالة، تؤدي إلى تفاقم التفاوتات وتدمير البيئة.
نحو اقتصاد ذهب مستدام
أدركت الحكومة السودانية الحاجة إلى الإصلاحات، وبدأت خطوات نحو إنشاء سوق منظمة للذهب. تشمل هذه الخطوات فتح بورصة للذهب وإنشاء مصافٍ في المدن الكبرى للحد من التهريب وزيادة الشفافية في القطاع. بالإضافة إلى ذلك، يُتوقع أن يؤدي التحول من التعدين التقليدي إلى التعدين المنظم والمميكن إلى تحسين الكفاءة وتقليل التأثير البيئي.
يشدد الخبراء الاقتصاديون على أن التحول المفاجئ يمكن أن يؤدي إلى تشريد ملايين العمال الذين يعتمدون على التعدين التقليدي، مما سيؤثر على حوالي 10 ملايين شخص بشكل غير مباشر. لذلك، يُنصح بالتحول التدريجي، مع تشجيع عمليات التعدين الصغيرة والمتوسطة من خلال اتفاقيات تقسيم الإنتاج بين الدولة والمستثمرين. هذا النهج سيزيد من إيرادات الدولة مع الحفاظ على سبل العيش للذين يعتمدون على هذا القطاع.
ختاما يُعد قطاع تعدين الذهب في السودان نعمة ونقمة في آن واحد. في حين يوفر العملة الأجنبية الضرورية، فإن قضايا التهريب والمشكلات البيئية تقوض إمكاناته على المدى الطويل. لقد زادت الحرب المستمرة من اعتماد البلاد على التعدين التقليدي، مما يشكل تحديات ليس فقط للاقتصاد السوداني الداخلي ولكن أيضًا للاقتصاد العالمي الأوسع. معالجة هذه القضايا من خلال الإصلاحات السياسية، بما في ذلك إنشاء بورصة منظمة للذهب ومعالجة المخاطر البيئية والصحية، يمكن أن تعيد تشكيل صناعة الذهب في السودان ودورها في السوق العالمية. التحدي يكمن في موازنة الاحتياجات الاقتصادية العاجلة مع التنمية المستدامة والتوزيع العادل للثروة في ظل اقتصاد عالمي مترابط.
وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية