لم يكن وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أكثر تشويشاً وارتباكاً وسلبيّة مما كان عليه خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده في مدينة جنيف، إثر اجتماعه العاجل بالمبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، ونظيره السعودي، عادل الجبير، مساء انهيار الهدنة في شكل خطير في أنحاء مدينة حلب وسقوط مئات من المدنيين تحت وابل من القصف العشوائي لطيران النظام السوري على المناطق الآهلة بمرافقها ومشافيها وأبنيتها السكنية. وكانت صور مذبحة حلب التي وثّقت المشاهد الصادمة لنساء وأطفال المدينة خارجين من موتهم أو مدفونين تحت أنقاضها قد تصدّرت الصفحات الأولى للصحف الأميركية الكبرى مثل «نيويورك تايمز» و «وول ستريت جورنال» و «واشنطن بوست»، تدليلاً على الخَطب الجلل.
وعلى خلاف عشرات المؤتمرات التي عقدها أطراف المسألة السورية، كان الأخير مؤشراً جلياً إلى المرحلة القادمة ما بعد هذا التدمير المنهجي لعاصمة الشمال السوري. ففي الوقت الذي أكّد فيه الجبير ثوابت المملكة العربية السعودية التي تتحرك في اتجاه دعم الانتقال السياسي الكامل في سورية كما أقرّه بيان جنيف 1، ورسمت آلياته القرارات الأممية الصادرة تباعاً، بهدف تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية، انجلت جذور المشكلة الحقيقية الكامنة في المزاجية التي حكمت المواقف الأميركية المتعاقبة في السنوات الخمس من عمر الثورة السورية، والتي جاء أسوأها على الإطلاق الردّ الفعل الرسمي لجون كيري في المؤتمر المذكور، حيث قال بفجاجة ما مفاده أن الحرب في سورية تكاد تكون خرجت عن السيطرة، ولا يعرف من الذي بإمكانه أن يراقب الاختراقات وإجراءات وقف الأعمال القتالية، وأنه لا يعتقد أن مساعي العودة إلى الهدنة ستنجح، ولا يمكنه أن يعد بنجاحها!
ومن نافلة القول أن تصريحات الوزير كيري تكاد لا تفترق عن الخط السياسي العام لرئيسه، باراك أوباما، التي تبنى استراتيجيتها على مبدأ «القيادة من الخلف»، لا سيما في ما يتعلق بالنزاعات الدائرة في غير دولة من الدول العربية والإسلامية، فيما تتوجّه الاستراتيجية عينها إلى «احتواء» دول كانت تعتبر، إلى ما قبيل مجيئه إلى سدّة البيت الأبيض، دولاً مارقة أو عدوّة كما حال إيران وروسيا. فإذا وضعنا يدنا على الخط الراسم لسياسات الخارجية الأميركية ضمن منظومة العقيدة الأوبامية نستطيع أن نتعرّف حينها إلى المرجعيات التي حكمت مواقفه الملتبسة بما يخص حرب دول حلفاء الأسد على الشعب السوري.
بذل الرئيس أوباما جهداً كبيراً خلال فترتيه الرئاسيتين بمدّ يديه لإيران ثم استقدامها من خلال عمل ديبلوماسي متّصل إلى طاولة المفاوضات مع الدول الكبرى، في ما يخص برنامجها النووي حتى تم التوصل إلى اتفاق تاريخي بينها وبين الدول الـ 5+1، وعادت إيران من خلاله إلى حظيرة المجتمع الدولي، وأفرجت الولايات المتحدة عن أموالها المجمّدة تحت العقوبات والتي تقدر بعشرات البلايين. أما بالنسبة لروسيا، فكلنا نعرف حجم التهاون والمرونة التي تعاملت بهما الولايات المتحدة مع موسكو سواء في حالة اقتطاعها وضمها لشبه جزيرة القرم، أو في تدخلها المباشر العسكري والسياسي في سورية في خطوتها الأجرأ للعودة إلى منظومة الحرب الباردة مع «المارد» الأميركي المنكفئ على نفسه. فأوباما يؤمن في شكل لا يقبل المراجعة ولا التراجع أن تلطيف الوجود الأميركي في الساحة الدولية، وانتهاج سياسة استيعاب المنافسين والخصوم، من شأنهما أن يجعلا العالم أكثر أمناً، وأميركا أكثر ازدهاراً، على عكس الأفكار التي يروّج لها التيار النقيض لسياساته من خصومه الجمهوريين.
ومنذ أن اعتلى أوباما منبر جامعة القاهرة موجهاً خطاباً استثنائياً إلى العالمَين العربي والإسلامي، وحتى تاريخ تدمير مدينة حلب بقوة الجيشين الأرضي الأسدي والفضائي الروسي، وعلى رغم جذالة وقوة ذلك الخطاب، لم يفلح في تحقيق أية نقلة نوعية تُسجّل له في التقارب بين الولايات المتحدة والعرب والمسلمين أفضل مما كان عليه الأمر في عهد الرئيس جورج بوش الابن، على رغم غزوه العراق، وكونه ممقوتاً ليس فقط من العرب والمسلمين بل حتى من الكثيرين من الأميركيين أيضاً. أما أوباما، فبانسحابه السريع وغير المبرمج من العراق، ترك وراءه البلد عرضة للتجاذبات السياسية بين الطوائف المذهبية والسياسية، بل أسهم في فتح ثغرات أمنية عميقة جعلته نهباً وملاذاً للجماعات المتطرّفة التي تطورت باضطراد لتنتهي إلى شكل تنظيم إرهابي عولمي حمل اسم «الدولة الإسلامية في العراق والشام».
كذلك تبدّى حجم جهل أوباما طبيعة حكم الملالي في إيران ونهجهم المبني على الخبث السياسي وانتهاز الفرص لتحقيق برنامج بعيد المدى هدفه السيطرة على دول الجوار، أو على الأقل زعزعة أمنها بما يضمن تفوق طهران الإقليمي. وأما روسيا التي تستعطفها الخارجية الأميركية على لسان الناطق الرسمي باسمها، مارك تونر، بأن «تستخدم نفوذها على النظام السوري من أجل وقف هجماته على حلب الرامية لإسقاطها»، فقد خطف امبرطورها الجديد، فلاديمير بوتين، الصولجان والتاج من على هامة الرئيس الأميركي الهارب من واجباته الأخلاقية ومهمّات موقعه السياسي إلى قمة آخر شجرة ممكنة في البيت الأبيض.
ومع اقتراب الاستحقاق الانتخابي الرئاسي الأميركي وتعمُّد وزيرة خارجية أوباما السابقة والمرشحة الديموقراطية من حزبه للرئاسة الأميركية، هيلاري كلينتون، أن تنأى بنفسها عنه وترفض أي دعم لحملتها من طرفه حتى لا تُحسب على سياساته، فمن الواضح أن من استبق التخلّي عن أوباما هم أبناء جلدته السياسية من الديموقراطيين أنفسهم (قبل خصومه الجمهوريين)، خوفاً من أن يشكّل ظهوره مع كلينتون سبباً في خسارة مرشحة حزبهم الحكم في 2016، وهي سياسة يعتقد الكثيرون أنها تتأتى من حرص أوباما على إرثه السياسي الشخصي منفرداً.
مرح البقاعي
صحيفة الحياة اللندنية