يمكن الحُكم بعد مُضي أكثر من ثلاثة عشر عاماً على عملية السياسية في العراق بأنها عملية اتسمت بالاخفاق التام، إذ لم تقد إلى بناء نظام سياسي ديمقراطي كما كان يطمح إليه جُل الشعب العراقي بمختلف مكوناته الطائفية والقومية بعد عقود من الحكم الشمولي بل رسخت لنظام حكم قائم على المحاصصة الطائفية والقومية. نتج عن هذا نظام أزمات منشأة وكاشفة عمقت من اختلالاته البنيوية كأزمة الشرعية بمعنى لم يحظ هذا الحكم وطبقته السياسية الجديدة برضا عام من الشعب العراقي، كما عاني -ولايزال- يعاني هذا الحكم من أزمة التغلغل”الأمنية” والتي تجلت في ظهور تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش” في المشهد العراقي منذ التاسع من حزيران/يونيو عام 2014م، وحتى يومنا هذا.
وارتبطت بهذا الحكم ارتباط وثيق أزمة توزيع الثروات إذ نمت دولة الفساد والمحسوبية. وليس غريباً أن يكون ترتيب العراق رقم 161 بين 168 دولة في قائمة الفساد التي تعدها منظمة الشفافية الدولية. أي أنه بين أكثر سبع دول فساداً بين دول الجماعة الدولية. وبسبب الفساد والحروب وسوء الإدارة تعاني هذه الدولة التي تطفو فوق بحيرة من النفط ، نقصاً حاداً في الطاقة وانقطاع التيار الكهربائي. ومع انخفاض أسعار النفط الذي تمثل عائداته 95% من الميزانية، تفاقمت الأزمة الاقتصادية واضطرت الحكومة إلى تخفيض مرتبات نحو سبعة ملايين موظف في دواوينها وأجهزتها المختلفة. أما أزمة المشاركة فقد تجسدت في ممارسات رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي الذي عمل من خلال ثمان سنوات والتي تعتبر مدة حكمه للعراق على تهميش المكون العربي السني فيه واقصائه واتباع معه نهج طائفي مقيت كما اعتمد العنف ضدهم كوسيلة لمواجهة مطالبهم المشروعة وما أدل على ذلك استخدامه للقوة المسلحة في فض اعتصامات المحافظات السنية في نهاية كانون الأول ديسمبر عام 2013م.
وإلى جانب هذه الأزمات الداخلية العميقة كان هناك أزمة لا تقل شأنا عما سبق ذكره وهي أزمة التدخل الخارجي الإيراني في الشؤون الداخلية العراقية، والذي ساعد على ذلك التدخل الذي وصل إلى مستوى التأثير الإيراني على مجريات الأحداث في العراق، هي العلاقات الوثيقة التي جمعت بين غالبية الطبقة السياسية الجديدة في العراق والنظام الإيراني. أضف إلى ذلك سياسة التفاهمات الإيرانية الأمريكية في مرحلة عراق ما بعد 2003م، فما من شخص يشغل منصب رئيس وزراء العراق إلا ويشغله بناء على تلك التفاهمات. وأمام هذا الاخفاق الكبير كيف يمكن للعراق أن يستعيد عافيته؟
فحكومة التكنوقراط من وجهة نظر رئيس الوزراء العراق الحالي حيدر العبادى هي الحل الأنسب لكي يتجاوز العراق أزماته ولتحقيق هذه الرؤية طلب رئيس الوزراء العراقي مجلس النواب في 20شباط/فبراير الماضي، بتفويض منه لتشكيلها، ولكن منذ ذلك التاريخ وحتى هذه اللحظة ، لم ترى هذه الحكومة النور نتيجة الصراعات على المكاسب بين الكتل النيابية داخل مجلس النواب العراقي، الأمر الذي أفضى إلى اقتحام أنصار مقتدى الصدر في ثلاثين من نيسان/إبريل الماضي، المنطقة الخضراء ودخول مجلس النواب العراقي، إذ اعتبر هذا الاقتحام تطور لافت في الأزمة السياسية العراقية وسابقة خطيرة لمنطقة اعتبرت سيادية على المستوى الداخلي والخارجي، وأن اقتحامها قد يتكرر في أي منعطف سياسي آخر، مما يهدد ما تبقى من السلم المجتمعي في العراق ليس بين مكوناته الطائفية والقومية المختلفة فقط وإنما داخل طائفة ذاتها.
ولاحتواء الأزمة السياسية العراقية المتفاقمة والتي كان آخر تجلياتها ذلك الاقتحام، هناك من دعا إلى تشكيل ائتلاف وطني عابر للطائفية والقومية، ونتساءل في هذا السياق: هل بتدشين هذا الائتلاف العابر للطائفية والقومية يمكن للعراق أن يتعافى أزماته المتعددة وينتقل من نظام حكم إلى نظام سياسي؟
تفيد التجربة العملية السياسية العراقية أنه من الصعوبة بمكان الاعتماد على التحالفات السياسية أو النيابية من اجل النهوض بالعراق، وإنما يمكن تحقيق ذلك في التزام الطبقية السياسية العراقية بمرتكزات النظام الديمقراطي، النظام الذي يُعلي من قيمة المواطن والعمل لصالحه، فمنذ أن تشكلت تلك العملية والأحزاب والقوى السياسية في العراق تعمل لمصالحها الخاصة متجاهلة تماماً مطالب الشعب العراقي في توفير الحياة الكريمة له، فدعوة لائتلاف عابر للطائفية والقومية من المؤكد ليس هو الحل طالما استمرت نفس العقلية في إدارة العراق القائمة على الاستحواذ والمنافع لصالح الكتلة النيابية أو الحزب السياسي فقط وطالما ترسخ في العقل الجمعي العراقي أن الطبقية السياسية العراقية هي تجسيد فعلي لكل التناقضات المجتمع العراقي. وهي وليدة الفساد وصانعته في الوقت نفسه. انشغلت هذه الطبقة بمضاعفة مكاسبها وثرواتها، وتركت أغلبية الشعب تئن من الفقر والفوضى وغياب الأمن، ونقص الخدمات الضرورية. لم تتكاتف هذه النخبة لخدمة المواطن البسيط بل تناحرت أحياناً، وتواطأت في أحيان أخرى من أجل اقتسام السلطة والثروة والنفوذ. وتحصنت بعد ذلك في قصورها المنيفة داخل المنطقة الخضراء التي تكاد تكون دولة منفصلة لا تعرف شيئاً عن مشاكل ومعاناة العراق.
فالداعي اليوم إلى تشكيل ائتلاف وطني عابر للطائفية والقومية، يا ليته قَبِل مع ائتلافه بنتائج الإنتخابات النيابية العراقية لعام 2010م، والتي جاءت نتائجها لصالح القائمة العراقية التي كان يقودها إياد علاوي، لأسس نموذجاً يحتذى به في تقبل نتائج الانتخابات النيابية في عملية سياسية حديثة النشأة. لكن هذا الداعي لم يقبل مع ائتلافه بنتائجها ومارسوا كل الضغوطات الدستورية عبر محكمة المحكمة الاتحادية العليا والسياسية عبر تفعيل التفاهم الأمريكي الإيراني الذي رجح كفة نوري المالكي على كفة إياد علاوي كي يصبح رئيساً لوزراء العراق للمرة الثانية على التوالي ويقوده مع ائتلافه الأحادي الطائفية إلى حافة الهاوية. وهنا لابد من التأكيد على أمر مهم أنه لا ضير أن يقود مسؤولي من طائفة معينة بلدهم لكن شريطة أن يتم ذلك دون تلاعب بنتائج الانتخابات، ويعملوا لصالح شعبهم بأن يصلوا به إلى أرض الجِنان بدلا من أرض اليباب أي الخراب والضياع.
مما تقدم يمكن القول، هذا الاخفاق في العملية السياسية بالعراق رافقته أزمة ثقة بين مكوناتها وهي أزمة تتعمق يوما بعد يوم، فأكراد يسعون بكل قوة بالاستئثار بنفط كردستان العراق ويطالبون بحصتهم في النفط الموجود في المحافظات العراقية الأخرى الخارجة عن سيطرتهم، ويعلنون باستمرار وخاصة في وقت الأزمات عن نيتهم بالانفصال عن العراق، أما سُنة العراق،فهم تواقون لعراق ما قبل عام 2003م، نظراً لما أصابهم من تهميش وإقصاء وظلم وتنكيل وقتل وتشريد عن ديارهم جراء إذ يقدر أن ما يقارب 60 في المئة من سُنة العراق تركوا ديارهم إما خوفاً من تنكيل تنظيم الدولة “داعش” بهم أو قتلهم من قبل مليشيات الحشد الشعبي، بينما شيعة العراق ممثلين بأحزابهم السياسية، فوجدوا في إسقاط حكم الرئيس الأسبق صداح حسين فرصتهم التاريخية لاحتكار حكم العراق وعدم التفريط فيه نهائيا. لا شك أن هذه الرؤى المتناقضة لحال أهم المكونات الاجتماعية في العراق تزيد من حالة اللاستقرار وتزيد من التوتر وتوفر بيئة مناسبة لتقوية الاتجاهات المناهضة لبناء دولة ديمقراطية تتسع للجميع.
وقد يرى البعض أن التغيير في العراق صعب المنال في ظل الأوضاع التي يمر بها الآن نظراً لقبول القوى السياسية والحزبية بنظام المحاصصة الطائفية والقومية. لكن هذه النظرة التشاؤمية لا يجب أن تمنعنا من التفاؤل والتفكير في الإمكانات المتاحة للتغيير الإيجابي شريطة توافر الإرادة الحقيقية لدى جميع القوى بمختلف مكوناتها الطائفية والقومية في العراق. وبناء عليه يمكن طرح سؤال مركزي هو: ما هي الأسس التي يمكن الانطلاق منها لتحقيق الاستقرار في العراق؟
أولاً:تفعيل الوظيفة التطويرية للدولة وفي طليعتها الوثيقة الدستورية، بحيث تكون قادرة على تحقيق التوازن، واستيعاب الأوضاع الاجتماعية الجديدة وكل القوى السياسية الجديدة بشكل سلمي؛ وتشكل حلاً لعدم المساواة في الحصول على الموارد، وعلى السلطة السياسية، وعلى التعليم، والصحة، والعدالة. ومن ثم يتعلق الأمر بالقضاء على شكل من أشكال العنف التي تنتجها مؤسسات الدولة أو الممارسات الاجتماعية التي تمنع الأفراد أو الجماعات من تلبية حاجاتهم الأساسية.
أما إذا عجز الإطار التنظيمي عن استيعاب القوى السياسية بأسلوب سلمي، فإن هذه الأخيرة تلجأ إلى الوسائل العنيفة لفرض وجودها على الساحة السياسية للمجتمع السياسي، فتجتاح هذا الأخير الأزمات وتتقاذفه الاضطرابات والفوضى والمعاناة وعدم الاستقرار، وهو الوضع الذي يعيشه العراق اليوم.
ثانياً: تبني العراق للنظام الديمقراطي الحقيقي وليس الاعتماد على مظاهره الشكلية، فالعراق إذا أراد أن يدعي أن نظام حكمه نظاماً ديمقراطيا لا بد أن يلتزم بالأسس التالية:
1- نظام انتخابي حقيقي.
2- الفصل بين السلطات.
3- وجود أحزاب متعددة وفاعلة.
4- تداول سلمي على الحكم.
5- حماية واحترام
هذا النظام الديمقراطي إذا أقيم في العراق فسيقود حتما إلى تحقيق المواطنة الكاملة، فالمواطنة الحقة لا تتحقق إلا إذا علم المواطن حقوقه كاملة، وبعد علمها عليه ممارستها والسعي لتحقيقها وعدم التنازل عنها. وبهذا المعنى تكون المواطنة في نهاية المطاف انتماء للوطن، ودرجة المواطنة مرتبطة بمدى الشعور بهذا الانتماء هو الارتباط الوثيق بالوطن. وثمة علاقة عميقة وجوهرية، بين مفهوم المواطنة والأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية السائدة. وذلك لأن الكثير من مضامين المواطنة على الصعيدين الذاتي والموضوعي بحاجة إلى فضاء سياسي جديد، يأخذ على عاتقه تحريك الساحة بقواها ومكوناتها المتعددة لتجدير هذا المفهوم في التربة العراقية.
فالمواطنة كمبدأ ومرجعية دستورية وسياسية، لاتلغي التدافع والتنافس في الفضاء الاجتماعي العراقي، بل تضبطها بضوابط الوطن ووحدته القائمة على احترام التنوع وليس على نفيه، والساعية إلى تمنين قاعدة الوحدة الوطنية، حتة يشعر جميع العراقيين بأن مستقبلهم مرهون بها، وأنها لا تشكل نفياً لخصوصياتهم، وإنما مجالاً للتعبير عنها بوسائل منسجمة وواضحة. ولا يكتمل مفهوم المواطنة على الصعيد الواقعي في العراق، إلا بنشوء دولة الإنسان العراقي تلك الدولة التي تمارس الحياد الإيجابي تجاه قناعات ومعتقدات وأفكار مواطنيها. بمعنى لا تمارس الإقصاء والتهميش والتمييز تجاه مواطن بسبب معتقداته أو أصوله القومية أو العرقية. كما أنها لا تمنح الأفضلية لمواطن بفضل معتقداته أو أصوله القومية أو الطائفية. فهي مؤسسة جامعة لكل المواطنين العراقيين، وهي تمثل في الحصيلة الأخيرة مجموع إرادات المواطنين. ولقيامها لا بد من مقومات أساسية:
1- المساواة بين المواطنين.
2- تمكين المرأة وضمان حقوقها.
3- المشاركة السياسية.
4- وجود مجتمع مدني فاعل من خارج أجهزة السلطة.
5- عدم إضفاء طابع القداسة على الحاكم.
إن المواطنة تبنى عن طريق بناء ديمقراطية حقيقية لا ترتبط بنظرة قصيرة على الانتخابات وإنما الديمقراطية التي تعبر عن المشاركة السياسية والحوار وكذا تفاعل الجمهور، ويجب أن يكون الهدف الحاسم للنقاش العام في ممارسة الديمقراطية مرتبطاً بفكرة مركزية وهي العدالة. وهي حل لأزمات العراق. ليبدأ العراق بمرحلة البناء الأمني والاقتصادي والثقافي والاجتماعي.
وبخلاف ذلك الاستقرار، فإن العراق بلد الحضارة الأصيلة وبلد” أعظم أقاليم الأرض منزلة، وأجلّها منزلةً، وأجلها صفةً، وأغزرها جباية، وأكثرها دخلاً، وأجملها أهلاً، وأكثرها أموالاً، وأحسنها محاسن، وأفخرها صنائع، وأهله أوفرهم عقولاً وأوسعهم علوماً، وأفسحهم فطنة في سالف الزمان والأمم الخالية على حد تعبير المؤرخ ابن حوقل، و”سكان العراق هم أهل العقول الصحيحة والآرء الراجحة، والبراعة في كل صناعة” على حد نعبير المؤرخ ياقوت الحموي. وأن العراق الذي اقترن اسمه بالرخاء والازدهار، منذ أزمنة بعيدة وحتى قريبة، سيبقى بلد مُثخن بالأزمات والجراح قد تذهب به تلك الأزمات والجراح إلى مستقبل لا نرجوه .
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية