سنتان ولبنان بلا رئيس.. أزمة يلعب العامل الخارجي فيها الدور الأساس، بينما يبقى للبنانيين دور “الكومبارس” لتنفيذ التوافقات الإقليمية والدولية الكبرى إذا ما حصلت.
وينص الدستور اللبناني على ولاية من ست سنوات لرئيس الجمهورية، غير قابلة للتجديد أو التمديد، وينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري من النواب، لا من الشعب مباشرة. وتأتي هذه العملية تتويجا لـ”الضوابط” السياسية والطائفية لعملية الانتخاب.
فالانتخاب في مجلس النواب يجعل المفاجآت شبه معدومة، خصوصا وسط وضوح بالغ في مواقف الكتل السياسية وانقسامها الحاد بين فريقين أساسيين هما الآن قوى 8 آذار التي يقودها “حزب الله“، وقوى 14 آذار التي يقودها تيار “المستقبل” (صاحب أكبر كتلة برلمانية في لبنان)، رغم التخبط الكبير في صفوف كلا الفريقين لاسيما بعد ترشيح قطبين كبيرين في 14 آذار هما زعيم تيار “المستقبل” الرئيس سعد الحريري وزعيم “القوات اللبنانية” سمير جعجع، لقطبين كبيرين في 8 آذار هما زعيم التيار الوطني الحر العماد ميشال عون وزعيم تيار المردة النائب سليمان فرنجية لمنصب الرئاسة وسط تباين حاد في المواقف داخل كلا الفريقين.
“لا يمتلك أي من الفريقين القدرة على انتخاب رئيس من دون التفاهم مع الفريق الآخر، حتى لو تحالف مع الوسطيين، فالدستور ينص على ضرورة أن ينال الرئيس المنتخب ثلثي أصوات النواب في الدورة الأولى، والأكثرية العادية في الدورات التالية”
ولا يمتلك أي من الفريقين القدرة على انتخاب رئيس من دون التفاهم مع الفريق الآخر، حتى لو تحالف مع الوسطيين، فالدستور ينص على ضرورة أن ينال الرئيس المنتخب ثلثي أصوات النواب في الدورة الأولى، والأكثرية العادية في الدورات التالية.
وتتفق القوى السياسية على تفسير للدستور يقول بضرورة حضور ثلثي أعضاء البرلمان لجلسة الانتخاب في أي وقت، مما يعطي أي فريق يمتلك أكثر من ثلث المقاعد قدرة التعطيل وحق “الفيتو” على اسم الرئيس، وهو ما يحدث الآن، حيث لا يمتلك أي من الطرفين الأكثرية اللازمة لانتخاب الرئيس، ومن ثم تبقى الأمور معطلة تقنيا.
أما الناحية السياسية فهي الأكثر تعقيدا، حيث يتحكم طرفا الأزمة في الجانب التقني، ويستطيع أي منهما التعطيل، من دون القدرة على الحل منفردا. ويعتبر اسم رئيس الجمهورية عنوانا للمرحلة، ولهذا يصر كل من الطرفين على رئيس يحظى بثقته، وهو أمر متعذر لغياب التلاقي بالحد الأدنى في الجانب السياسي حيث يقف الطرفان على طرفي نقيض.
الفراغ الأطول
وهذه ليست المرة الأولى التي يشغر فيها منصب الرئاسة في لبنان، فهذا هو الفراغ الرابع من هذا النوع منذ الاستقلال عام 1943، لكنه الفراغ الأطول في تاريخ لبنان.
حدث الفراغ الأول من 18 سبتمبر/أيلول إلى 22 منه عام 1952 وكان الأقصر في تاريخ “الفراغات اللبنانية” وقد أعقب استقالة الرئيس بشارة الخوري حيث شكلت حكومة عسكرية برئاسة فؤاد شهاب تولت صلاحيات الرئيس أربعة أيام حتى انتخاب كميل شمعون رئيسا.
وحصل الفراغ الثاني مع انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل وتعذر انتخاب خلف له وامتد من 23 سبتمبر/أيلول عام 1988 إلى 5 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1989. أما الفراغ الثالث فقد امتد من 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2007 إلى 25 مايو/أيار 2008 وجاء بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود وتعذر انتخاب خلف له؛ فتولت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة صلاحيات رئيس الجمهورية حتى انتخاب الرئيس ميشال سليمان.
وفي أعقاب انتهاء مدة ولاية الرئيس سليمان كان الفراغ الرابع الذي يختلف عن الفراغات السابقة في الظروف والأسباب والأهداف، فالأزمة الحالية تقود البلاد نحو نفق مظلم يرسخ عدم احترام القوانين والدستور وعمل المؤسسات التي تعد الركيزة الأولى للنظام اللبناني.
خلفيات وأسباب
وللخلافات بين القوى السياسية اللبنانية دور مهم في إطالة أمد هذا الفراغ، وتتمحور معظم المخاوف القائمة اليوم من احتمال تعذُّر إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها حول أمرين أساسيين، هما:
“حدث الفراغ الأول من 18 سبتمبر/أيلول إلى 22 منه عام 1952 وكان الأقصر في تاريخ “الفراغات اللبنانية” وقد أعقب استقالة الرئيس بشارة الخوري حيث شكلت حكومة عسكرية برئاسة فؤاد شهاب تولت صلاحيات الرئيس أربعة أيام حتى انتخاب كميل شمعون رئيسا”
أولا، المخاوف التاريخية التي عبر عنها المسيحيون وخصوصا الموارنة في شأن انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء بحسب المادة 62 من الدستور، والتي تنص على أنه “في حال خلو سدة الرئاسة، تناط السلطة الإجرائية وكالة بمجلس الوزراء”.
ثانيا، هنالك خوف من تغيير صيغة النظام السياسي الحالي الذي يقوم على المناصفة أولا، وعلى إعطاء الموارنة والمسيحيين مناصب أساسية في البلاد، أهمها بعد رئاسة الجمهورية قيادة الجيش. لهذا نجد أن هنالك خوفا كبيرا لدى عدد من المسيحيين، من أن يكون الرئيس السابق ميشال سليمان هو آخر رئيس مسيحي ماروني في تاريخ الجمهورية اللبنانية؛ لكون مسيحية الرئيس عرفا وليست دستورا.
وكل ما طال الفراغ، صار العامل اللبناني في إنهاء الأزمة الرئاسية أقل تأثيرا، وقوي الدور الخارجي في بلد المحاصّة الطائفية الذي يحفز ضمنا كل طائفة من مكوناته على الاستعانة بحليف خارجي للاستقواء على الشريك الآخر في الوطن.
ويستبعد معظم المراقبين والمحللين التمكن من انتخاب رئيس للجمهورية من دون توافق دولي إقليمي على اسم الرئيس، حيث إن المحورين الداخليين المدعوم كل منهما من الخارج -خاصة من إيران والسعودية– يربطان ما يجري في الداخل باللعبة الإقليمية الجارية في المنطقة لاسيما في سوريا، ويراهن كل من الفريقين على تحول على المسرح السوري يصب في مصلحته اللبنانية.
وبعدما رمى الرئيس سعد الحريري حجرا في مياه الأزمة الرئاسية الراكدة بترشيحه النائب فرنجية للرئاسة، تحركت الأمور في الاتجاه المعاكس حيث رشح حليف الحريري سمير جعجع، العماد عون للرئاسة في مواجهة فرنجية لأسباب تمتد جذورها إلى خلافات قديمة بين جعجع وفرنجية تعود إلى الحرب الأهلية حيث يتهم فرنجية جعجع بقتل والده وأفراد عائلته.
وبهذين الترشيحين، وضع “حزب الله” في الخانة الصعبة لاختيار واحد من حليفيه المقربين، لكنه رد بربط انتخاب الرئيس بسلة متكاملة من المطالب أبرزها الاتفاق المسبق على قانون الانتخاب، مفتاح الأكثرية النيابية في البرلمان، فـ”حزب الله” وحلفاؤه يتطلعون إلى قانون نسبي أكثري من شأنه كسر الهيمنة النيابية لتيار “المستقبل” المتمسك بالقانون الأكثري الذي يضمن له الغالبية في المجلس.
ولقطع الطريق أمام أي مفاجأة في البرلمان، كانت مقاطعة جلسات الانتخاب لعدم توفير النصاب القانوني التي لجأ إليها “حزب الله” وحليفه “التيار الوطني الحر” المطالب بإجماع نيابي على ترشيح عون قبل الجلسة.
وهكذا تعقدت الأمور داخليا أكثر فأكثر، وكذلك ضعفت مقولة اختيار مرشح توافقي، حيث يرفض الفريق الموالي لإيران ترشيح شخصية محايدة بعد التجربة الفاشلة مع الرئيس ميشال سليمان من وجهة نظر هذا الفريق، فالرئيس “الوسطي” تحول في نهاية عهده إلى معارض شرس لسياسات “حزب الله”، خصوصا في جانب السلاح والمشاركة في الحرب السورية، وحصلت أكثر من مواجهة بين الطرفين في نهاية العهد.
“لا تعتبر هذه الانتخابات حالة استثنائية. فقد كانت انتخابات الرئاسة اللبنانية دائما موضع تجاذب دولي، وكان الدور اللبناني فيها يصغر مع الأزمات، ويتسع مع الاسترخاء، لكنه لم يكن في يوم من الأيام قرارا لبنانيا صرفا، بقدر ما كان اسم الرئيس اللبناني يعكس توازنات المنطقة”
وعلى الرغم من أن الكثير من المحللين يعتقدون أن الساحة اللبنانية هي “الصندوق” الأفضل لتبادل رسائل التهدئة بين الرياض وطهران، حيث إن أي تنازل من المحورين في لبنان لا يغير كثيرا في معادلات المنطقة، فإن هذه الساحة ازدادت ارتباطا بالمسار السوري بعد التدخل الروسي العسكري في سوريا ونهوض التحالف العربي في حرب اليمن، وصار الجميع هنا في انتظار ما سيؤول إليه الصراع الكبير، لمعرفة الثمن الذي سوف تقبل طهران من خلاله تسهيل انتخاب رئيس للجمهورية، سواء من خلال المفاوضات الأميركية الإيرانية المستمرة بعد إنجاز الاتفاق النووي، أو من خلال العلاقات الإيرانية السعودية التي تزداد تعقيدا.
جذور التدخلات الأجنبية
ولا تعتبر هذه الانتخابات حالة استثنائية. فقد كانت انتخابات الرئاسة اللبنانية دائما موضع تجاذب دولي، وكان الدور اللبناني فيها يصغر مع الأزمات، ويتسع مع الاسترخاء، لكنه لم يكن في يوم من الأيام قرارا لبنانيا صرفا، بقدر ما كان اسم الرئيس اللبناني يعكس توازنات المنطقة.
بدأت التدخلات الأجنبية في لبنان، منذ ما قبل تأسيس دولته بحدودها الحالية؛ حيث كان جبل لبنان تحت الإدارة العثمانية المباشرة، وكان “الباب العالي” يحدد أسماء الأمراء الذين يتولون هذه المقاطعة ذات الوضع الخاص.
ومع اشتعال الفتنة الطائفية الأولى عام 1860، والمذابح بين الدروز والموارنة تغيرت المعايير بدخول الدول الأوروبية على خط “حماية الطوائف”. ثم دخلت فرنسا الدولة المنتدبة على الخط، فأصبحت الراعي الأساسي للوضع اللبناني. ثم كان التدخل البريطاني العربي المشترك عام 1952، ثم التفاهم الأميركي المصري وبزوغ دور الرئيس جمال عبد الناصر إثر أحداث 1958.
ثم كان الدور السوري في نهاية عهد الرئيس سليمان فرنجية، كما دخلت إسرائيل على خط “الهيئة الناخبة” عندما دفعت بجيشها إلى لبنان عام 1982، ونظمت انتخابات رئاسية لبنانية بحراسة دباباتها، أثمرت وصول حليفها رئيس “القوات اللبنانية” بشير الجميل إلى الرئاسة، ثم عاد النفوذ السوري بتفاهم مع السعودية والولايات المتحدة واستمر حتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، حيث تغيرت المعطيات مجددا، وضعف التأثير السوري، لكنه لم ينته.
انتهى عهد لحود من دون رئيس جديد، فكان الفراغ الثالث في هذا المنصب، بعد أن عجز حلفاء سوريا وخصومها عن الوصول إلى تفاهم على رئيس جديد، فكان الحسم خارجيا هذه المرة أيضا.
دعيت القيادات السياسية اللبنانية إلى الدوحة للاجتماع برعاية عربية دولية انتهت إلى الوصول إلى اتفاق الدوحة وانتخاب الرئيس ميشال سليمان، وأتت نهاية عهد سليمان، كنهاية عهد لحود. الطرفان أنفسهما عجزا مرة جديدة، فكان الفراغ الجديد. فالنصوص التي أراد من خلالها المشرع اللبناني إيجاد ضوابط لعملية الانتخاب تمنع وصول رئيس بعيد عن التوازنات الإقليمية الكبرى، جعلت من اسم الرئيس خيارا إقليميا محليا دوليا، يلعب فيه النواب اللبنانيون دور صندوق البريد، لا دور المقرر.
عقبات وعوائق
ولا يبدو في الأفق اللبناني حاليا ما يوحي بإمكان تذليل العقبات التي منعت انتخاب الرئيس، لاسيما في ظل العقبات الكبيرة التي أدرجت سلفا، والتي يمكن تلخيصها بالآتي:
أولا: انشغال الكبار وتحديدا أميركا وروسيا في أمورهما التي تشكل الأوضاع في المنطقة بدءا من سوريا وصولا إلى اليمن وإيران والعراق جزءا منها واعتبارهم الوضع اللبناني امتدادا أو تفرعا من هذا الملف الكبير غير مستوجب الفصل والمعالجة بمعزل عنه راهنا.
ثانيا: عجز المكونات اللبنانية عن الاجتماع لاختيار واحد من المرشحين المعروفين لرئاسة الجمهورية.
“من العقبات التي تمنع انتخاب الرئيس؛ استمرار تطلع اللبنانيين إلى الخارج ورهانهم عليه لتدبير شؤونهم خصوصا في الاستحقاقات والملفات الكبرى كما في المحطات السابقة لاتفاق الطائف وبعده، إذ لم ينتخب اللبنانيون رئيسا واحدا لم يسمّه الخارج”
ثالثا: عدم قدرة المرشحين العماد ميشال عون والنائب سليمان فرنجية على تقديم جديد مؤثر في دفع الاستحقاق، ومن ثم الكتل النيابية للخروج من خلف الخطوط والمواقف التي تتمترس وراءها لإعادة خلط الأوراق وتوفير النصاب لجلسة انتخاب الرئيس.
رابعا: وصول جميع المعنيين بالاستحقاق الرئاسي على مختلف مواقعهم ومسؤولياتهم إلى اقتناع بوجوب تحسن العلاقات السعودية الإيرانية للإفراج عن هذا الملف والتخلي عن دورهم ومسؤوليتهم في الموضوع.
سادسا: عجز اللبنانيين وتحديدا النواب والمسؤولين عن لبننة الاستحقاق على الرغم من الدعوات الموجهة إليهم من أميركا وروسيا وأوروبا وقادة العام الغربي والعربي على حد سواء.
سابعا: استمرار تطلع اللبنانيين إلى الخارج ورهانهم عليه لتدبير شؤونهم خصوصا في الاستحقاقات والملفات الكبرى كما في المحطات السابقة لاتفاق الطائف وبعده، إذ لم ينتخب اللبنانيون رئيسا واحدا لم يسمّه الخارج.
ثامنا: عدم نضوج الظروف للقاء الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله ورئيس تيار المستقبل سعد الحريري.
تاسعا: حرص الدول الكبرى وخصوصا أميركا وأوروبا على استمرار “الستاتيكو” القائم في لبنان وعدم تغييره راهنا والتأكيد على الحفاظ على سلامة الوضعين الأمني والمالي وتقديمهما على أي شأن آخر.
عاشرا: التطلع إلى الخارج والرهان على حدث إقليمي ينسحب داخليا ويؤدي إلى تغيير الأوضاع وقلبها رأسا على عقب، على الرغم من معرفة الجميع خطورة مثل هذا الأمر وتداعياته على لبنان سواء أتى عبر الحدود الشرقية أو الغربية أو الجنوبية، وهو ما دعا إلى تجنبه العديد من العقلاء أخيرا وحذر من خطورته.