تُضاف دماء السوريين التي سالت في تفجيرات مدينتي جبلة وطرطوس، قبل أيام، إلى النهر الدامي الذي بدأ جريانه، منذ أعلن النظام الأسدي حرباً شاملة على الثورة السورية، وحاضنتها الاجتماعية، والذي لن يتوقف جريانه إلا بالخلاص من نظام البراميل المتفجرة، وحلفائه الروس والإيرانيين، ذلك أن أركان النظام رفعوا، منذ نحو خمس سنوات، يافطة “الأسد أو نحرق البلد”، مقابل شعار “يا الله ارحل يا بشار”، في مقايضةٍ دامية، تشترط قتل جميع المحتجين السوريين، وحرق مدنهم وبلداتهم وقراهم، في مقابل بقاء الأسد في السلطة.
وتطبيقاً لذلك، لم يتوان النظام، منذ اللحظات الأولى للثورة السورية عن قتل المحتجين السلميين، ثم قتل الثوار وقتل غالبية الناس في جميع المناطق الخارجة عن سيطرته، وخصوصاً التي تحتضن المعارضة المسلحة، كما لم يتردّد في تدمير المعالم التاريخية، والأحياء والمدارس والمستشفيات، في كل المدن والبلدان والقرى التي عرفت حراكاً ثورياً مناهضاً له.
ولم تختلف معظم مدن الساحل السوري وبلداته عن سواها، إذ عرفت حراكاً مناهضاً للنظام الأسدي، منذ بدايات الثورة في كل من طرطوس وبانياس وجبلة واللاذقية، لكنها واجهت قمعاً غير مسبوق، وتمكّن النظام من إحكام قبضته الأمنية عليها، وأطلق العنان لشبيحته فيها تقتل وتنكّل بمن تشاء. وبعد ذلك، باتت المنطقة الساحلية في منأىً عن القتل والدمار والحصار والتجويع الذي لحق بباقي المناطق والمدن السورية، وبدا وكأنها تتمتع بالأمن والأمان.
وتشير التفجيرات السبعة التي ضربت مدينتي جبلة وطرطوس، أخيراً، إلى دخول الكارثة السورية مرحلة دموية أخرى، لا تخرج عن إطار التوظيف البشع لدماء السوريين، أينما وجدوا، في الحرب الشاملة التي يخوضها النظام الأسدي ضد غالبية السوريين، بمن فيهم من يدّعي حمايتهم، وذلك خدمةً لبقاء الأسد، المستعد لأن يضحّي بالسوريين جميعاً في سبيل بقائه جاثماً على صدورهم إلى الأبد.
ولا جديد في تبيان أن النظام الأسدي، بنسختيْه، الأب والابن، يوظّف دماء السوريين في خدمة بقائه في السلطة، حيث كان قام بتفجيرات دامية في أحياء عديدة في حلب ودمشق، في ثمانينيات القرن العشرين المنصرم، في صراعه مع جماعة الإخوان المسلمين، واتهم معارضيه بتنفيذها. ونفذ، منذ بداية الثورة السورية، تفجيرات وهجمات إرهابية عديدة في العاصمة دمشق، طاولت مقرّاته الأمنية وأماكن تجمع المدنيين، ولعل أشهرها كان الذي وقع في حي الميدان، في 6 يناير/ كانون الثاني 2012، حيث بث التلفزيون السوري الرسمي، عن طريق الخطأ، صوراً لمراسل إحدى المحطات الرسمية، في أثناء توزيعه أكياسا تحوي خضارا وفواكه، إلى جانب بقع الدماء، على أنها أكياس من قضوا من المدنيين. وكان التلفزيون السوري أيضاً حاضراً في مكان أحد تفجيرات طرطوس، حيث نقل صورا لما خلّفه التفجير بعد دقائق من وقوعه، ونقل سكان عن وجود طواقم التلفزيون قبل التفجير، في تكرار لما حدث في حي الميدان في دمشق، حيث وجد عشرات من طواقم الإسعاف في محيط المنطقة نفسها قبل وقوع الانفجار بثلاث ساعات.
وفي السياق نفسه، لم يتردّد نظام البراميل المتفجرة في تصفية ما عرف بـ “خلية الأزمة” في18 يوليو/ تموز 2012، التي كانت تضم العديد من رموز وأركان النظام نفسه، ونتج عنه مقتل وزير الدفاع داود راجحة، والعماد آصف شوكت، صهر الأسد، ورئيس مكتب الأمن القومي، هشام بختيار، ورئيس خلية إدارة الأزمة، حسن تركماني. وقبله جرت عملية تصفية اللواء غازي كنعان، وزير الداخلية الأسبق، الذي قضا “منتحراً” بخمس رصاصات! في مكتبه في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2005.
ولا يخرج توظيف تفجيرات جبلة وطرطوس عن إطار التوظيف الأداتي الذي يريده النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون، من خلال الربط بين اتهامات حزب الله للمعارضة (الجماعات التكفيرية) في قتل قائده العسكري، مصطفى بدر الدين، واتهامات النظام فصيل “أحرار الشام” بالوقوف وراء التفجيرات، وسعي موسكو في مجلس الأمن إلى وضع كل “أحرار الشام” و”جيش الإسلام” في خانة المنظمات الإرهابية.
واللافت أن النظام الأسدي عمد إلى تبرئة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وإلصاق التهمة
بفصيل أحرار الشام، حيث ادعى إعلام النظام الرسمي أن هذه الحركة تبنت التفجيرات، في حين لم يصدر عن المنابر الرسمية للحركة أي بيان، أو تعليق على الحادثة، والبيان الوحيد الذي صدر هو عن وكالة “أعماق” التابعة لتنظيم داعش، أكّدت فيه تبني التنظيم التفجيرات التي طاولت “تجمعات العلويين”، وفق لغة بيان تبني الجريمة التي تصب في خانة خدمة النظام، وأغراضه في الإمعان في تخريب النسيج الاجتماعي والديني السوري، وتعميق جرائم ومشاعر الحقد الطائفي، ونشر ثقافة الخوف والمظلومية بين مكونات الشعب السوري.
ولا يخرج التوظيف الإرادوي للنظام من هذه التفجيرات عن زيادة الضخ في نهر الدماء السورية، ونشر صور القتل والقتل المضاد، وصور الأجساد المشوهة، ودحرجة الرؤوس المقطوعة، وحرقها ورفعها على الأسيجة، كي ينعم الأسد، بوصفه القاتل الأول، باستعراض مهارات نظامه وحلفائه في تحويل الثورة إلى صراع طائفي ومذهبي، وبما يعزّز إمساك نظامه رقاب العباد من جديد. ولعل أولى ردات الفعل على التفجيرات ذهبت إلى الضحايا السوريين، وخصوصاً الذين هجّرهم نظام البراميل المتفجرة وحلفاؤه من أماكن سكناهم وعيشهم، ونزحوا إلى مناطق الساحل، حيث قتلت قطعان الشبيحة بعضهم، واعتدت على الآخرين وممتلكاتهم، تمهيداً للخلاص منهم، أو إعادة تهجيرهم، وضرب التركيبة الديموغرافية السورية.
وما يعزّز هذا التوطيف البشع هو التنسيق والتعاون ما بين النظام الأسدي و”داعش” الذي تجاوز مجالات صفقات النفط، وتبادل السيطرة على بعض المدن والبلدات السورية، في عمليات تسلم وتسليم مفضوحة، والارتقاء بها إلى مصاف التقاسم في ارتكاب الجرائم، وتقديم الخدمات الأمنية، وذلك بعد نشر صور مرعبة على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لأحد رموز الإجرام في نظام البراميل المتفجرة، عصام زهر الدين، وهو يقطع أشلاء جثتين، متباهياً بفعلته البشعة التي لم يكن تنقصها سوى مباركة مفتي النظام، أحمد حسّون الذي لم ينس كيل المدائح لمليشيا حزب الله.
يجري ذلك كله، في ظل استعصاء الحل السياسي الذي يديره الساسة الروس والأميركيون، وبالتزامن مع تدمير سورية، وتغيير بنيتها الاجتماعية، لكي يبقى الأسد مجرماً من طراز خاص، ينعم بحماية رصيفه، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (بوصفه ذنباً له)، ولا مبالاة الرئيس الأميركي باراك حسين أوباما.
عمر كوش
صحيفة العربي الجديد