كان يمكن أن تكون العلاقة بين النظام العربي وكل من النظام الإقليمي للشرق الأوسط والنظام العالمي علاقة أفضل مما كانت عليه على مدى العقود الأربعة الماضية على وجه الخصوص، لكن الظروف الخاصة بالإقليم حالت دون ذلك على الرغم من أن تلك الفكرة شهدت صعودًا ملحوظًا لأدوار النظم الإقليمية والسياسات الإقليمية على حساب تفرد قيادة النظام الدولي بقيادة الأحداث الدولية خاصة في الأقاليم المختلفة.
“في ظل القيادة السعودية للنظام العربي حدثت تحولات مهمة في أولويات أجندة النظام العربي، عبرت عن نفسها بالتحولات التي حدثت في هيكلية هذا النظام”.
أولًا: النظام العربي وخصوصياته
لسنوات طويلة مضت ظلت تفاعلات النظام العربي وعلاقته بكلٍّ من النظام الإقليمي للشرق الأوسع والنظام العالمي أحد أهم محددات الدور المصري وسياسة مصر الخارجية على المستويين العربي والإقليمي خصوصًا في السنوات التي ظلت فيها مصر تقوم بدور الدولة القائد للنظام العربي. كان تركيز مصر في تلك السنوات (عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي على وجه الخصوص) ينصب، بصفة أساسية، على المحافظة على خصوصية النظام العربي والنهوض بهذا النظام من خلال الدعوة للوحدة العربية، والحرص على منع استلابه في تفاعلات النظام الإقليمي الأوسع في الشرق الأوسط وكذلك تفاعلات النظام العالمي. ففي الوقت الذي أولت فيه مصر اهتمامها الرئيسي على قضيتي الوحدة العربية وفلسطين، كانت تتحدى أيضًا سياسة الأحلاف الدولية وترفض الانخراط فيها وتتزعم دعوة الحياد الإيجابي لدول العالم الثالث ومن بعدها سياسة عدم الانحياز، والنأي عن ضغوط الاستقطاب الدولي وسياسة المحاور والانحيازات بين المعسكر الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة والمعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفيتي.
هذه الالتزامات جعلت مصر في صدام مباشر مع الكيان الصهيوني، ومع القوتين الإقليميتين الكبيرتين الأخريين في الشرق الأوسط: إيران وتركيا بسبب انحيازهما للكيان الصهيوني في الوقت الذي كانت تقود فيه مصر الصراع ضد هذا الكيان باعتباره استعمارًا استيطانيًا غاصبًا لحقوق الشعب العربي في فلسطين، كما وجدت مصر نفسها في صدام مباشر أيضًا مع الولايات المتحدة التي كانت تتزعّم الدعوة إلى سياسة الأحلاف والاستقطاب الدولي وبسبب انحيازها المفرط للكيان الصهيوني، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى تقارب مصري مع الاتحاد السوفيتي الذي أبدى تعاطفًا مع السياسة المصرية، ودعّم مصر سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا في معاركها من أجل الاستقلال الوطني.
هذه التفاعلات سيطرت بدرجة كبيرة على تفاعلات النظام العربي الداخلية، أي بين الدول العربية فيما بينها، كما سيطرة على تفاعلات النظام العربي الإقليمية والدولية، لكن هذه التفاعلات شهدت تغيرات وتحولات مهمة ابتداءً من أواخر عقد السبعينيات بعد غياب القيادة الناصرية أولًا، ومجيء قيادة بديلة أكثر ميلًا للتقارب مع الولايات المتحدة وكل من إيران ودولة الكيان الصهيوني، وهو الميل الذي تحول إلى واقع رسمي بتوقيع مصر على معاهدة السلام مع هذا الكيان عام 1979، وتوجه النظام العربي ابتداءً من عام 1982 (مبادرة فاس الثانية للسلام عام 1982) نحو الأخذ بخيار السلام كخيار إستراتيجي عربي، ثم جاءت الطفرة النفطية لتحدث اختلالًا شديدًا في توازن القوى داخل النظام العربي لم يكن لصالح مصر بقدر ما كان لصالح المملكة العربية السعودية، وفي ظل القيادة السعودية للنظام العربي حدثت تحولات مهمة في أولويات أجندة النظام العربي، عبرت عن نفسها بالتحولات التي حدثت في هيكلية هذا النظام، وبروز قيادة ثلاثية: مصرية- سعودية- سورية، تولت قيادة النظام حتى أواخر عقد التسعينيات، لكن النظام العربي تعرض لهزات قوية أثرت على تماسكه وعلى أنماط تفاعلاته الداخلية وأنماط تفاعلاته الإقليمية والدولية وبالذات بعد الغزو العراقي للكويت في 2 أغسطس 1990، وحرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت يناير – مارس 1991)، ثم انعقاد مؤتمر مدريد للسلام (أكتوبر – نوفمبر 1999) الذي كان إحدى أبرز نتائج وتداعيات تلك الحرب، ثم الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله عام 2003، فقد أصبح النظام العربي أكثر اختراقًا أمريكيًا، وأكثر استلابًا في علاقاته مع القوى الفاعلة في نظام الشرق الأوسط، وأكثر انقسامًا وصراعًا في تفاعلاته الداخلية، والآن يواجه النظام العربي تحديات هائلة بعد موجة الثورات العربية والبروز القوي لتيار الإسلام السياسي وخاصة تيار السلفية الجهادية التي أخذت تطرح مشروعًا بديلًا للنظام العربي هو مشروع “الخلافة الإسلامية” الذي يجسده مشروع الدولة الإسلامية “داعش” التي أعلنت الخلافة يوم 29 يونيو 2014 ونصبت زعيمها أبو بكر البغدادي خليفة للمسلمين.
كان يمكن أن تكون العلاقة بين النظام العربي وكل من النظام الإقليمي للشرق الأوسط والنظام العالمي علاقة أفضل مما كانت عليه على مدى العقود الأربعة الماضية على وجه الخصوص، لكن الظروف الخاصة بالإقليم حالت دون ذلك على الرغم من أن تلك الفكرة شهدت صعودًا ملحوظًا لأدوار النظم الإقليمية والسياسات الإقليمية على حساب تفرد قيادة النظام الدولي بقيادة الأحداث الدولية خاصة في الأقاليم المختلفة.
ففي الوقت الذي أخذ فيه النظام الدولي يشهد تطورات مهمة في هيكليته منذ سقوط النظام ثنائي القطبية، بدخول فواعل جدد Actors في عضويته، حولته من نظام دولي يقتصر فقط على عضوية الدول إلى نظام عالمي يجمع بين عضوية الدول من ناحية، والعديد من المنظمات والهيئات ذات التأثير القوي في السياسة الدولية مثل المنظمات الإقليمية والشركات متعددة الجنسية ومنظمة التجارة العالمية ومجموعة العشرين من ناحية أخرى، فإن النظام العالمي الجديد الذي مال مؤقتًا ناحية أخذ طابع القطبية الأحادية، ثم تحول فيما بعد إلى نظام أشبه بـ “اللاقطبية”، أملًا في أن يتجه نحو نظام متعدد الأقطاب، شهد بروزًا مهمًا لدور الأقاليم على حساب دور الدولة الوطنية، بحيث أخذت تفاعلات الدول داخل أقاليمها الخاصة تتنافس، وأحيانًا، تتفوق على علاقاتها بقيادة النظام العالمي ومنظمته العالمية (الأمم المتحدة).
هذا الاتجاه إلى تدعيم دور الأقاليم من ناحية، وسياسات التعاون والاعتماد الاقتصادي المتبادل والتكامل الإقليمي من ناحية أخرى الذي أصبح أحد أهم معالم النظام العالمي الجديد، لم يكن له أي وجود فعلي على النظام العربي الذي تسيطر على تفاعلاته مجموعة من الخصائص المهمة تلعب الدور الأهم في تحديد ورسم خرائط التحالفات والصراعات داخل هذا النظام. أبرز هذه الخصائص اتجاه النظام نحو العسكرة واختراق هذا النظام بدرجة مكثفة من النظام الإقليمي الشرق أوسطي وكذلك النظام العالمي للدرجة التي جعلت تفاعلاته تكاد أن تكون تفاعلات معولمة(1).
فالنظام الإقليمي العربي يتفرد على معظم، وربما كل، أقاليم العالم، في أنه يتجه نحو ”العسكرة”، وليس إلى الاعتماد المتبادل والتكامل الاقتصادي بين دوله. فإقليم الشرق الأوسط يكاد يكون الإقليم الوحيد في العالم الذي يشهد أعلى درجات العسكرة، وأخطر أنواع الحروب، ومعظم القواعد العسكرية.
هذا يعني أن النظام العربي، دون غيره من الأقاليم في العالم كانت تجري عسكرته على حساب تفاعلاته التنموية والتكاملية، وتجري عولمته على حساب تحويله إلى كتلة أو جماعة اقتصادية ـ سياسية قادرة على التفاعل الإيجابي مع المجتمع الدولي من المنطلق ذاته الذي أخذ يتعامل به النظام العالمي أي منطلق الأقاليم أو النظم الإقليمية، حيث باتت معظم تحالفات النظام تجري في معظمها مع الخارج أكثر منها مع الداخل ما يؤكد على عمق الاختراق الخارجي للنظام من القوى الدولية الكبرى(2).
إدراك كل هذه الخصوصيات يطرح سؤالين مهمين:
- السؤال الأول يتعلق بمدى انعكاس التطورات الجديدة في هيكلية النظام العالمي على تماسك أو انفراط النظام العربي.
- أما السؤال الثاني فيتعلق بتأثير تداعيات الثورات العربية على مستقبل النظام العربي وعلاقته بالنظام الإقليمي للشرق الأوسط.
هذه الدراسة تهدف إلى تقديم إجابات لهذين السؤالين.
“يتفرد النظام الإقليمى العربي على معظم، وربما كل، أقاليم العالم، في أنه يتجه نحو ”العسكرة”، وليس إلى الاعتماد المتبادل والتكامل الاقتصادي بين دوله”.
ثانيًا: انعكاسات التطورات الجديدة في هيكلية النظام العالمي على النظام العربي
الأصل في العلاقة بين النظم الإقليمية والنظام العالمي أنها علاقة تبعية. ولقد كانت مسميات النظم الإقليمية بالنظم التابعة أحيانا، والنظم الفرعية في أحيان أخري تعبيرا عن هذا المعني. لكن التبعية كإطار لهذه العلاقة لا تعني انعدام الاستقلالية بالنسبة للنظم الإقليمية سواء في تفاعلاتها أو في علاقــاتها مع النظام العالمي، كما تزعم مقولات المدرسة الواقعية وكما توحي فرضيات مدرسة التبعية(3).
فواقع العلاقة بين النظم الإقليمية والنظام العالمي أكثر تعقيدا من أن تكون مجرد علاقة ذات اتجاه واحد آو خضوع كامل. فهذه النظم تمتلك ـ كما تقول مدرسة النظم الإقليمية ـ تفاعلاتها الذاتية التي تتم وفقا لاعتبارات خاصة بها بعيدا عن تأثير القوى العظمى المهيمنة في النظام العالمي. ومن ثم فإن التفاعلات الإقليمية ليست انعكاسا فقط أو مجرد رد فعل لإرادة النظام الدولي السائد أو القـائد فـي النظــام العالمي، رغم كل ما يملكه هذا النظام من قــدرات هائلة على التأثير في تلك النظم(4).
فكما أن الأصل في العلاقة بين النظم الإقليمية والنظام العالمي هو التبعية فإن الأصل في وجود النظم الإقليمية هو التمايز أو الانقطاع Discontinuty ولقد صاغ أوران يونج عوامل الارتباط والانفصال أو الانقطاع بين كل من النظامين على النحو التالي(5):
1ـ أن هناك عددا من الفواعل Actors (مثل القوتين العظميين) سابقًاوالموضوعات المحددة (مثل القومية والتنمية الاقتصادية) تلعب دورها في كل النظام الدولي، أو على أقل تقدير، في معظم النظم الإقليمية الفرعية.
2ـ أنه في كل نظام إقليمي فرعي هناك عدد من الفواعل المهمة والمصالح المحددة وأنماط الصراع، وتوازنات القوى المعنية التي تختلف بشكل مميز بين إقليم وآخر، خاصة في تفاعلها مع الفواعل والموضوعات التي تشمل النظام العالمي كله.
3ـ نتيجة لذلك فإن النظم الإقليمية الفرعية تنفصل عن بعضها بعضا في اتجاهات متعددة، ولكن درجة هذا الانفصال بين إقليم وآخر يمكن أن تتعدد.
4ـ برغم ذلك فإن هذه النظم الإقليمية الفرعية ليست منفصلة انفصالا تاما عن بعضها بعضا طالما أن كلا منها يعبر عن مزيج من الملامح الكونية والمحلية (الذاتية)، فضلا عن إمكانية وجود ارتباطات خاصة بين عدد من النظم الإقليمية الفرعية.
5ـ أن المزيج أو نمط العلاقات بين العناصر العالمية والإقليمية في كل نظام إقليمي فرعي يمكن أن يختلف من نظام لآخر.
ولا يكتفي بعض الباحثين بهذه العوامل الخمسة لتوضيح العلاقة بين النظم الإقليمية والنظام العالمي ويضيفون عاملا سادسا هو: أنه في كل نظام عالمي سوف تتولد فرص ومخاطر بالنسبة للنظام الفرعي الإقليمي، بل وأحيانا قد تتيح للنظام الفرعي المساهمة في تشكيل النظام العالمي (6).
إن النظم الإقليمية الفرعية ليست منفصلة انفصالا تاما عن بعضها بعضا طالما أن كلا منها يعبر عن مزيج من الملامح الكونية والمحلية (الذاتية)”.
ويوضح أندرو سكوت هذه المساهمة بقوله: إن التطورات التي تطرأ على واقع النظم الفرعية المكونة للنظام الدولي العام (العالمي) يكون لها تأثيراتها وانعكاساتها على ما يجري داخل النظام الأخير ككل، ويشير بهذا الخصوص إلى الملاحظات الثلاث التالية (7):
أـ أن النظم الدولية تختلف من حيث درجة مركزية عملية اتخاذ القرارات فيها. فقد يكون لنظام فرعي واحد درجة عالية جدا من التأثير على الكيفية التي تتخذ بها هذه القرارات أو على اتجاهها العام، في حين أنه في أحوال أخرى قد يتوزع هذا التأثير بين عدد من الأنظمة الفرعية. فإذا تمتع نظام فرعي واحد بمثل هذه السلطة الضخمة في عملية اتخاذ القرارات داخل النظام الدولي العام (العالمي) فإنه سيدفع بهذه القرارات، وهذا طبيعي، في الاتجاه الذي يخدم مصلحته الذاتية، ويكون ذلك إما بالعمل على التخفيف من ثقل الأعباء الملقاة على عاتقه، أو بمضاعفة المزايا والتسهيلات التي يحصل عليها من النظام الدولي، وهو ما يعني، في الوقت نفسه، وبالدرجة نفسها، زيادة أعباء النظم الفرعية الأخرى، وتقليص حجم المزايا المحققة لها من أنشطة النظام وعملياته.
ب- أن مستوى الاعتماد المتبادل بين النظام العالمي ومكوناته الفرعية تختلف جذريا من حالة إلى أخرى. فانهيار نظام فرعي إذا كان نظاما مسيطرا قد ينتهي بتدمير النظام العالمي، كما قد لا يؤثر فيه، وفي حالة ثالثة قد يساعد على تهيئة ظروف أفضل لنمو النظام العالمي، وذلك بتعزيز الإمكانات التي يعتمد عليها أداؤه الوظيفي. وعلى الجانب الآخر، فإن انهيار النظام العالمي قد يؤدي بالتبعية إلى تدمير نظام فرعي معين (كانهيار محالفة دولية دفاعية قامت في ظروف دولية معينة)، كما قد لا يؤثر هذا الانهيار في تماسك الكيان العام لهذا النظام الفرعي، وقد يساعد على تدعيم فرص نموه أو رفع كفاءة أدائه .
جـ- إن اختلاف القواعد التي يعمل على أساسها النظام العالمي ككل لابد وأن يتبعه اختلاف أو تغير في نمط العلاقة القائمة بينه وبين النظم المكونة له، أو في درجة النفوذ والتأثير المتبادل الذي تمارسه هذه النظم في مواجهة بعضها بعضا. وقد تكون المحصلة النهائية لمثل هذا التغيير إنهاء تفوق نظام فرعي معين ليأخذ مكانة نظام فرعي آخر.
هذه العوامل والملاحظات المختلفة التي تميز العلاقة بين النظم الإقليمية والنظام العالمي تكشف عن ثلاث حقائق أساسية:
1ـ أن النظام العالمي يملك تأثيرا كبيرا علي النظم الإقليمية، وأن هذا التأثير يختلف وفقا لخصائص النظام العالمي، ومن ثم فإن أي تغيير في هذه الخصائص سوف يحدث تأثيرات ملحوظة ومباشرة على النظم الإقليمية.
2ـ أن كل نظام إقليمي له تفاعلاته الخاصة التي تميزه عن النظام العالمي، وعن غيره من النظم الإقليمية، ومن ثم فإن درجة تأثر النظم الإقليمية بالتغيرات التي تحدث في خصائص النظام العالمي سوف تختلف من نظام إقليمي لآخر حسب الخصائص التي يتميز بها كل نظام.
3ـ أن عــلاقة التأثير بين النظام العالمي والنظم الإقليمية ليس محتما أن تكون ذات اتجاه واحد، بل إن النظم الإقليمية يمكن أن تكون لها تأثيرات علي النظام العالمي في ظروف معينة وبدرجات متباينة من نظام إقليمي لآخر. أي أن العلاقة ـ في ظروف معينة ـ يمكن أن تكون علاقة تأثير متبادل بين النظام العالمي والنظام الإقليمي، وليست مجرد علاقة ذات اتجاه واحد.
هذه الحقائق الثلاث يمكن أن تكون قاعدة للبحث في مستقبل النظم الإقليمية على ضوء المتغيرات الجديدة في النظام العالمي منذ سقوط النظام ثنائي القطبية، خصوصا وأن تقييمات كثيرة قد ظهرت بهذا الخصوص بعضها كان مفرطا في تفاؤله بمستقبل النظم الإقليمية لدرجة الحديث عن “عصر جديد للإقليمية”(8). وبعضها الآخر كان مغرقا في تشاؤمه، وتوقع انفراط وتفكك ، أو على الأقل، انتهاء دور النظم الإقليمية في العلاقات الدولية(9). ودون الاستغراق في تقييم هذه التعليقات، فإن أغلبها، وخاصة تلك التي تطرفت في تفاؤلها أو في تشاؤمها، وقعت في خطأين:
ـ الخطأ الأول هو خطأ النظر للعلاقة بين النظم الإقليمية والنظام العالمي من منظور التبعية الكاملة من جانب النظم الإقليمية للنظام العالمي، وانعدام أي قدر من الاستقلالية لتلك النظم.
ـ الخطأ الثاني، هو خطأ التعميم في الآثار الناتجة عن التغيرات الجديدة الحادثة في النظام العالمي على كل النظم الإقليمية دون تمييز بين هذه النظم، وكأنها كانت على درجة الارتباط ذاتها بالنظام العالمي، أو أنها تفتقد الخصوصية والتفرد في الخصائص والمقومات فيما بينها، ودون تمييز بين مجالات التأثير، وكأن التأثير سيكون بالدرجة ذاتها، في كل المجالات وفي كل الأنظمة. فالأمر الذي لاشك فيه أن التحولات العالمية الجديدة ستكون لها تأثيرات مهمة على النظم الإقليمية، وبشكل يختلف بدرجات متباينة، من نظام إقليمي إلى آخر، عن تأثيرات النظام الدولي السابق، أي نظام القطبية الثنائية. فمع ظهور معالم نظام عالمي جديد New World Order مختلف عن نظام القطبية الثنائية ستظهر تحديات جديدة تواجه النظم الإقليمية ومنها النظام العربي بالتأكيد في علاقتها بهذا النظام الذي مازال في طور التكوين والتشكل.
فبسقوط النظام ثنائي القطبية، الذي بدأت معالمه تتكشف بسقوط جدار برلين في 9 نوفمبر 1989، ثم انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وتفككه في 25 ديسمبر 1991، أخذ نظام عالمي جديد يفرض نفسه،أرادته الولايات المتحدة الأمريكية أن يكون نظامًا أحادي القطبية مستغلة تفوق القوة المطلق الذي تتفوق به على أي دولة أخرى في العالم وقيادتها للتحالف الدولي الذي خاض حرب تحرير الكويت يناير 1991 لتفرض نفسها قوة عظمى أحادية. هذا التفوق تزامن مع تطور آخر لا يقل أهمية هي بروز العولمة كظاهرة طاغية على تفاعلات النظام العالمي، الأمر الذي جعلها من أهم معالم النظام الجديد الذي كان الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب) أول من نادى به في خطابه أمام مجلس النواب الأمريكي (16 يناير 1991) بقوله: “أمامنا الفرصة لكي نهيئ لأنفسنا وللأجيال القادمة نظامًا عالميًا جديدًا، وهو عالم تحكم فيه سيادة القانون، لا قانون الغاب، سلوك الأمم”(10).
ويمكن رصد ثلاث ظواهر حددت شكل النظام العالمي الجديد بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط النظام الدولي ثنائي القطبية هي: بروز عناصر القوة الشاملة للولايات المتحدة الأمريكية، وقيام الصين كمركز للنمو الاقتصادي العالمي، وظهور الاتحاد الأوربي كقوة اقتصادية كبرى متكاملة، ولاسيما بعد إطلاق العملة الأوربية الموحدة (اليورو) في الأول من يناير عام 1999(11).
ولقد استطاعت الولايات المتحدة أن توظف السقوط والتفكك السوفيتي لصالح فرض زعامتها الأحادية على النظام العالمي، مستعينة بقدراتها العسكرية والاقتصادية الهائلة غير القابلة للمنافسة. فمن ناحية القوة المادية، وخاصة العسكرية فإن ميزان الدفاع والتسليح في الولايات المتحدة تفوق على مجموع ميزانيات الدفاع لدى أكبر ست دول تتسابق في هذا المجال كما يوضح الجدول التالي(12):
أندرو سكوت: إن التطورات التي تطرأ علي واقع النظم الفرعية المكونة للنظام الدولي العام (العالمي) تكون لها تأثيراتها وانعكاساتها على ما يجري داخل النظام الأخير ككل.
الدولة | الإنفاق العسكري بالمليار دولار أمريكي |
الولايات المتحدة | 645.7 |
الاتحاد الأوربي | 274.5 |
الصين | 102.4 |
روسيا | 59.9 |
اليابان | 59.4 |
الهند | 38.5 |
البرازيل | 35.3 |
إجمالي الدول الست بدون الولايات المتحدة | 1575.6 |
فكما يوضح الجدول مازالت الولايات المتحدة تتفوق في حجم إنفاقها العسكري على القوى الدولية الكبرى الست المنافسة أو المرشحة للمنافسة مجتمعة. وبمعيار القوة الاقتصادية استطاعت الولايات المتحدة أن تحافظ على تفوقها الاقتصادي ولكن ليس بالشكل الذي يمكن مقارنته بتفوقها العسكري على النحو الذي يوضحه جدول أهم مؤشرات المعيار الاقتصادي لدى القوة العظمى والقوى الكبرى لعام 2012(13).
القوى العالمية | الناتج المحلي الإجمالي(تريليون دولار) | دخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي(ألف دولار أمريكي) | تقدير القوة/ القوي في دليل التنمية العشرين لعام 2012 |
الولايات المتحدة | 15.685 | 49.922 | 0.937 |
روسيا | 2.015 | 14.247 | 0.788 |
الصين | 8.227 | 6.076 | 0.699 |
الاتحاد الأوربي | 16.641 | 32.518 | 0.845 |
الهند | 1.842 | 1.492 | 0.554 |
البرازيل | 2.253 | 12.079 | 0.730 |
اليابان | 5.960 | 46.736 | 0.912 |
يوضح هذا الجدول أن الولايات المتحدة تحتل المرتبة الثانية بعد الاتحاد الأوروبي بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي لعام 2012 (15 تريليونا و685 مليار دولار) مقابل (16 تريليونا و641 مليار دولار)، لكن الولايات المتحدة تحتل المرتبة الأولى بالنسبة لدخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وتحتل المرتبة الأولى بالنسبة لمؤشرات التنمية البشرية، وفي ذات الوقت يعد الاقتصاد الأمريكي الأكبر في العالم من حيث الكتلة النقدية، لكن يلاحظ أيضًا أن هناك تنافسًا شديدًا للولايات المتحدة من جانب القوى الدولية الكبرى في مجال القوة الاقتصادية.
بهذا المعنى نستطيع أن نقول إنه قد حدث تحول فى هيكلية النظام العالمي شمل العناصر الثلاثة الأساسية المكونة لهيكليته وهى: توزيع عناصر القوة، ومدى تكافؤ القوة، وعلاقات القوة(14).
فبالنسبة لتوزيع القوة حدث انتشار ملحوظ فى موارد القوة بين عدد أكبر من الفواعل الرئيسية فى النظام العالمى مقارنة بحالة التركز الشديد فى موارد القوة بين الدولتين العظميين فى النظام العالمى السابق ثنائى القطبية. والمدلول الأساسي لهذا الانتشار الجديد فى موارد القوة الاقتصادية والعسكرية هو اضمحلال الأساس الموضوعي للقطبية الثنائية، حيث لم يعد للولايات المتحدة وزن طاغ، كما لم يعد للاتحاد السوفيتى وجود ظاهر بعد تفككه(15).
أما بالنسبة لعدم تكافؤ عناصر القوة أو عدم انسجام المكانة فلم تعد الولايات المتحدة تتمتع بانسجام مكونات أو موارد القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية. فعلى الرغم من أنها ما زالت تتربع على عرش القوة العسكرية لاحتكارها للأنواع الأكثر تقدمامن التكنولوجيا العسكرية، فإن مكانتها على صعيد القوة الاقتصادية والتقدم التكنولوجي أخذت تواجه منافسة أمام منافسين جدد مثل الصين والهند وروسيا واليابان وألمانيا والقوى الاقتصادية الصاعدة الأخرى(16)، التى أخذت تحقق درجة أكبر من التجانس بين قدراتها الاقتصادية والعسكرية(17). وترجع أهمية تحليل ظاهرة عدم انسجام المكانة أو توافق المكانة إلى آثارها السلوكية فى النظام العالمي. فالدول التي تعانى من عدم التوازن أو عدم الانسجام بين عناصر قوتها تميل ـ كما تقول نظرية المكانة ـ إلى تحقيق التوازن فى مكانتها الدولية. فإذا فشلت فى تحقيقها بالطرق الشرعية فإنها قد تلجأ إلى السلوك الصراعى، وبالذات إزاء الدول ذات المكانة العليا المتوازنة، وينطبق ذلك على سلوك الدولة سواء على المستوى العالمي أو المستوى الإقليمي. ففى كلتا الحالتــين تسعـــى إلى تغييــر الوضع الراهــــن. والسبب فى ذلــك يرجـــع إلى عـــدم توازن أو عـــدم انسجام المكانة ينتج ضغوطــا مثمرة نحــو التحــرك إلى موقع التوازن(18).
وقد أثار النمط الجديد لانتشار القوة فى النظام العالمي الجديد، وحالة عدم انسجام المكانة التي أخذت تعاني منها الولايات المتحدة انقساما بين الباحثين في تقييم الوضع القيادي للنظام العالمي في مرحلة ما بعد القطبية الثنائية بين اتجاه يعطي للولايات المتحدة مكانة الزعامة العالمية استنادا إلى قوتها العسكرية المتفوقة(19)، وآخر يرى أنه لا توجد دولة واحدة تتمتع بتفوق في جميع عناصر القوة، وأنه لم يعد هناك أي مبرر للحديث عن وجود مفهوم القوة العظمى على غرار ما يشير ليتواك وباف وبوزان(20).
ويؤكد التحول الذي حدث في علاقات القوة الاستنتاج السابق، حيث لم تعد تتوفر الشروط الأساسية لحدوث عملية الاستقطاب العالمي، بل إن تنامي علاقات الاعتماد المتبادل بين القوى الدولية أخذت تدفع باتجاه ظهور نظام عالمي أقرب إلى نظام وفاق القوى Concert of Power الذي تحدث عنه روزكرانس رغم أن الولايات المتحدة مازالت تسعى إلى فرض زعامتها الأحادية على النظام العالمي(21).
لقد هيمن نزوع السيطرة وفرض الزعامة الأحادية الأمريكية على العالم وبشكل لافت للنظر، على العقل الإستراتيجي الأمريكي منذ نجاح الولايات المتحدة في قيادة التحالف العالمي لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي. واعتبر الأمريكيون أن هذه الحرب كانت مرحلة فاصلة في التاريخ الأمريكي وفي الدور الأمريكي العالمي. وقد عبر عن ذلك بصراحة شديدة الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب) عقب انتهاء تلك الحرب بقوله: “إن عقدة فيتنام قد دفنت في صحراء الجزيرة العربية”(22)، وبمناسبة الاحتفال بذكرى الاستقلال الأمريكي قال: “إن حرب الخليج (الثانية) قد أثبتت للعالم أن الولايات المتحدة يمكنها التغلب على أي عدو ولا يمكن لأحد أن يوقفنا”(23)، ولم يكن إدراك الرئيس الأمريكي (الأسبق) بيل كلينتون مختلفًا كثيرًا عن ذلك الإدراك. ففي استقباله للجنود الأمريكيين العائدين من عملية “إعادة الأمل” في الصومال قال: “إن الولايات المتحدة هي قائدة العالم. وأن المهمة العسكرية الإنسانية في الصومال تبشر بعهد جديد في مشاركة الولايات المتحدة في مختلف أنحاء العالم. وقال: “نحن نقف جاهزين للدفاع عن مصالحنا بالعمل مع آخرين كلما كان ذلك ممكنًا وبأنفسنا عند الضرورة”(24).
ولقد وصل غرور القوة بالولايات المتحدة، في ذلك الوقت، إلى حد التلميح بتجاوز الأمم المتحدة للدفاع عن مصالح أمريكية مهددة، وبالسعي لفرض الزعامة الأمريكية على حساب القوى الغربية الحليفة. فقد هاجم هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق تعويل إدارة الرئيس بيل كلينتون على الأمم المتحدة لاستصدار قرار باستعمال القوة للدفاع عن مصالح أمريكية، أو بوضع قوات أمريكية تحت قيادة الأمم المتحدة للدفاع عن مصالح أمريكية، وطالب أن تتولى الولايات المتحدة بنفسها الدفاع عن مصالحها(25). وجاءت استجابة الإدارة الأمريكية سريعة على هذه الدعوة في حديث أدلت به مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية السابقة (وقت أن كانت رئيس للبعثة الأمريكية في الأمم المتحدة) حيث قالت: “على رغم توفر أسباب قوية لدى واشنطن لقيام هيئة الأمم المتحدة قوية وفاعلة، فإنها لن تعهد أبدًا بمصيرها لغير الأيدي الأمريكية”(26). وعندما قامت الولايات المتحدة بتوجيه ضربة جوية لمقر المخابرات العراقية ردًا على ما سمّته بالمحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس (الأسبق) جورج بوش (الأب) قالت أولبرايت: “نحن لم نطلب موافقة أحد للقيام بتلك الغارة ولم نطلب مساعدة فيها، وقمنا مستخدمين قواتنا وحقنا في الدفاع عن النفس، أما التشاور والتنسيق مع الآخرين فيكون، كما ذكرت أينما يوجد تهديد لسلام دولي ويؤثر علينا، ولا يهدد بصورة مباشرة فورية مواطنينا وأراضينا سيكون من مصلحتنا أن نتحرك بمشاركة آخرين”(27).
كان هذا هو الإطار المحدد لطبيعة وحدود المشاركة الأمريكية مع القوى الدولية الأخرى، وكان هذا الإطار متوافقًا ومنسجمًا تمامًا مع الإطار السابق الذي كانت وزارة الدفاع الأمريكية قد أعدته لفرض الدور الأمريكية المنفرد على العالم، ذلك ضمن تقرير خاص أمكن لصحيفة نيويورك تايمز الحصول على أبرز مضامينه(28).
وقد احتوى هذا التقرير خمس مهام أساسية يجب أن تقوم بها الولايات المتحدة لضمان زعامتها المنفردة للعالم وهي(29):
- يجري منع اليابان وأوروبا- وقائيًا، أن تتحولا إلى قوى عسكرية كبرى أو إلى قوى عالمية منافسة لأمريكا، وذلك من خلال إبقائهما داخل المناطق الأمنية الواقعة تحت السيطرة الأمريكية.
- تتم إعاقة تشكيل تحالف أمني أوربي مستقل، لأن حلفًا كهذا سيؤدي إلى تقويض حلف شمال الأطلسي “الناتو” الذي يعد بمثابة أداة لاستمرار الهيمنة الأمريكية في أوربا.
جـ- ردع المنافسين المحتملين حتى من التفكير والطموح بلعب دور إقليمي أو عالمي أكبر؟
د- منع الانتشار النووي، وإذا دعت الضرورة بتدخل عسكري أمريكي منفرد، حتى في أوربا، وفي دول الاتحاد السوفيتي السابق.
هـ تستمر القوات النووية الأمريكية في اعتبار أن روسيا هي مصدر التهديد النووي الوحيد للولايات المتحدة، وسيتم توجيه السياسة الأمريكية لمنع تلك الدولة من أن تصبح، مرة ثانية قوة تكنولوجية من الطراز الأول.
وعلى الرغم من تظاهر الرئيس جورج بوش (الابن) بالتبرؤ من هذا التقرير، وادعاء عدم العلم به في محاولة لاحتواء ردود الفعل الأوربية الغاضبة(30). فإن مضمون السياسات الأمريكية بقى معبرًا عن هذه التوجهات، وبالذات بالنسبة للتوجه الأول الذي يتعلق بمنع ظهور خصم جديد أو منافس جديد، والحيلولة دون قيام بيئة أمنية أوربية مستقلة، لأن ذلك من شأنه إضعاف حلف شمال الأطلسي (من منظور الفهم الأمريكي)، ورفض أي انسحاب متسرع للقوات الأمريكية من آسيا.
إن اختلاف القواعد التي يعمل على أساسها النظام العالمي ككل لابد وأن يتبعه اختلاف آو تغير في نمط العلاقة القائمة بينه وبين النظم المكونة له، أو في درجة النفوذ والتأثير المتبادل”.
غرور القوة الأمريكي، وسيطرة تيار المحافظين الجدد بنزوعهم “الإمبراطوري” على القرار السياسي في البيت الأبيض طيلة عهد الرئيس السابق جورج بوش (الابن) كانت له انعكاساته شديدة الوطأة على النظم الإقليمية بل وعلى منظومة العلاقات الدولية بشكل عام، لكن الأهم هو آثاره شديدة السوء على الولايات المتحدة نفسها التي تورطت بدافع من غرور القوة إلى التورط في حربين هائلتين الأولى في أفغانستان عام 2002، والأخرى في العراق عام 2003، كانت لهما انعكاساتهما شديدة التأثير على مجمل القدرة الأمريكية، حيث كانت هاتان الحربان بمثابة حرب استنزاف هائلة التأثير على الاقتصاد الأمريكي، في الوقت الذي كانت فيه القوى الدولية الأخرى تتقدم وتنافس وتصعد في سلم التراتبية العالمية في منظومة توازن القوى الاقتصادي والعسكري، الأمر الذي كانت له انعكاساته المباشرة على هيكلية النظام العالمي وبالذات توزيع القوة، وتجانس القوة بشكل يتعارض كلية مع ما كان عالم الأمريكي فرانسيس فوكوياما قد تحدث عنه في حديثه عن “نهاية التاريخ”، من سيطرة وهيمنة للولايات المتحدة وللنظام الرأسمالي العالمي. فقد أخذت مقولة “أفول القوة الأمريكية” تفرض نفسها على أدبيات الفكر السياسي العالمي(31).
كان ريتشارد هاس، رئيس قسم التخطيط السابق بوزارة الخارجية الأمريكية رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي رئيس تحرير مجلة الشئون الخارجية (فورين أفيرو) في مقدمة المبشرين بأفول الإمبراطورية الأمريكية. ففي عدد مايو/ آيارـ يونيو/ حزيران 2008 من مجلة “فورين أفيرز” نشر هاس دراسة بعنوان: “ما بعد الهيمنة الأمريكية: اللا قطبية العالمية”، وفيها أقر بأن الولايات المتحدة لم تعد القطب العالمي الأوحد في العالم، وأن عالم الأحادية القطبية الذي استطاعت الولايات المتحدة أن تفرضه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانتهاء النظام العالمي ثنائي القطبية لم يعد له الآن وجود”. هاس وقتها لم يكن على يقين بأن البديل للأحادية القطبية هو النظام متعدد الأقطاب، ولكنه كان يرى أن الجديد القادم هو “نظام لا قطبي” يمكن أن يتطور إلى “نظام متعدد الأقطاب”. كان الدافع لدى هاس وغيره من المفكرين الأمريكيين وقتها هو أن معايير القوة العظمى لم يعد لها وجود في ذلك الوقت، أي أنه لا توجد قوة دولية تتمتع بمعايير القوة العظمى وأن عصر القوى العظمى قد انتهى، وأن النظام العالمي سوف يتأثر كثيرًا بهذه الخصوصية التي تعني المزيد من ديمقراطية العالم مع اختفاء سطوة القوة القادرة على الهيمنة، وخضوع القوى الكبرى إلى منطق “الشراكة الدولية”.
نبوءة ريتشارد هاس كانت لها في نظره مبررات مهمة أولها سبب تاريخي، فالدول تتطور وتصبح أكثر دراية بكيفية توظيف المصادر المالية والتكنولوجية والموارد البشرية في سبيل تحسين الإنتاج والازدهار، والنتيجة هي حتمية ظهور عدد متزايد من اللاعبين المؤثرين إقليميًا ودوليًا مثل الصين والهند واليابان وروسيا. وثانيها هي السياسات الأمريكية في ذاتها باعتبارها من وجهة نظره سياسات خاطئة مثل سياسة التوسع في استيراد مصادر الطاقة من الخارج بكميات هائلة انعكست في شكل وفورات ضخمة عند الدول المصدرة للنفط والغاز، ومثل التورط في حروب غير مبررة باهظة التكاليف كالحرب في أفغانستان والحرب في العراق التي أرهقت الاقتصاد الأمريكي بقدر ما أرهقت الجيش الأمريكي وجعلت هذا الجيش في حاجة إلى جيل كامل كي يتعافى من آثار مستنقعات العراق. هذه الحالة وضعت أمريكا موضع التعرض لقانون عالم التاريخ الأمريكي بول كيندي في مؤلفه عن “صعود وسقوط الإمبراطوريات” وخاصة مقولته عن “التوسع الإمبريالي المتزايد الذي يؤدي في النهاية إلى سقوط الإمبراطوريات”(32).
أما السبب الثالث فهو العولمة، فالعولمة زادت من حجم وسرعة وأهمية التدفقات العابرة للحدود من البريد الإلكتروني، مرورًا بالغازات والفيروسات، وصولًا إلى الأسلحة، والعولمة تحث على اللاقطبية من خلال مسألتين، الأولى: تكمن في حصول الكثير من التبادلات عن طريق جهات غير حكومية وخارج سيطرة الحكومات، أما الثانية، فمردها إلى تعاظم قدرات هذه الجهات كالشركات المصدرة للنفط، والشبكات الإرهابية والأنظمة المتطرفة.
لقد أدت هذه التطورات إلى ظهور قوى إقليمية ودولية جديدة، كما أعادت روح المنافسة إلى قوى دولية سبق أن تداعت لظروفها الخاصة (روسيا)، وأصبحت قادرة على المنافسة. هذه القوة لم تكن قادرة على أن تتحول إلى أقطاب، لكن يبدو أن الواقع الدولي الجديد الاقتصادي والسياسي يقول إن هذه القوى في طريقها إلى أن تتحول إلى أقطاب حقيقية، وأن ظهور “نظام عالمي متعدد الأقطاب” أضحى قريبًا بفعل عوامل كثيرة أغلبها اقتصادي أولًا وسياسي ثانيًا.
فالاقتصاد العالمي يشهد تطورات وتحولات شديدة الأهمية تؤكد هذا الاستنتاج. فقد استطاعت الصين منذ 2010 أن تتجاوز اليابان لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة. وجاءت الأزمة الاقتصادية العالمية (2008) لتؤكد مكانة الاقتصاد الصيني، حيث لعبت الصين دور قاطرة التعافي للاقتصاد العالمي. فقد أسهمت الصين بنحو 15% من الناتج المحلي العالمي في عام 2012 مقابل 18.7% للولايات المتحدة، كما تتوقع وحدة الايكونوميست للمعلومات أن الاقتصاد الصيني سيتجاوز الاقتصاد الأمريكي بحلول عام 2017، وأنه سيكون أكبر بنحو 24% من نظيره الأمريكي في عام 2030، كما أصبحت الصين أكبر مُصدر سلعي حيث بلغ نصيبها من إجمالي الصادرات السلعية العالمية نحو 10.7% تليها الولايات المتحدة التي بلغ نصيبها من الصادرات العالمية نحو 8.3%.
وعلى الرغم من انخفاض معدلات النمو بصورة كبيرة في الدول المتقدمة استمرت كثير من الدول النامية والصاعدة في تحقيق معدلات نمو مرتفعة مكنتها – حسب تقديرات تقرير الاتحاد الاقتصادية لعام 12/2013 الصادر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية- من أن تشكل قاطرة لتعافي الاقتصاد العالمي، وهو ما عزز من نصيب هذه الدول من إجمالي الناتج العالمي، حيث ارتفع نصيبها ليصل إلى 49.9% مقارنة بنحو 43.7% قبل اندلاع الأزمة، كما ارتفع نصيبها من إجمالي الصادرات العالمية ليصل إلى 8.8% في عام 2012.
وتمثل آسيا الصاعدة اللاعب الأهم والأسرع نموًا ضمن هذه المجموعة حيث تسهم وحدها بنحو 25.1% من إجمالي الناتج العالمي، تليها دول أمريكا اللاتينية بنحو 5.2% ثم كمنولث الدول المستقلة بنحو 4.3%. أما بالنسبة للصادرات العالمية، فقد استأثرت دول آسيا الصاعدة بنحو 16.7% من إجمالي الصادرات العالمية، تليها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتي استحوذت على 63.9% من إجمالي الصادرات العالمية، ثم أمريكا اللاتينية والكاريبي التي بلغ نصيبها من الصادرات العالمية نحو 5.6%.
أما على صعيد الدول المتفردة فإن الاقتصاد العالمي يتجه حثيثًا نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب لم تعد فيه السيطرة والهيمنة للولايات المتحدة الأمريكية بمفردها. فالولايات المتحدة التي كان نصيبها من الناتج العالمي بصورة كبيرة ليصل إلى 30.7% في عام … ثم تواصل التراجع ليصل نصيبها 18.9% عام 2012. وفي الوقت الذي كان فيه نجم الولايات المتحدة آخذ في الأفول كانت هناك دول أخرى تصعد بقوة لتزيد وزنها النسبي على ساحة الاقتصاد العالمي(33).
فقد تواصلت حصة الصين من الاقتصاد العالمي في الارتفاع حتى استطاعت تخطي ألمانيا عام 2007 لتصبح ثالث اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة واليابان اللتين احتلتا المركزين الأول والثاني، ثم نجحت في تخطي اليابان لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم حيث وصل النصيب الثاني من الناتج العالمي نحو 14.9% في عام 2012، تلتها الهند واليابان اللتان شغلتا المركزين الثالث والرابع تليهما ألمانيا في المركز الخامس والتي تراجع نصيبها من الناتج العالمي ليصل إلى 3.9% فقط. أما على صعيد الصادرات العالمية فقد استطاعت الصين تخطي الولايات المتحدة الأمريكية لتصبح هي صاحب أكبر نصيب من الصادرات العالمية بفارق حقيقي مع الولايات المتحدة تليها ألمانيا ثم اليابان.
ويعتبر تراجع مكانة الاقتصاد الأمريكي سببًا في أن يفقد الدولار ما يبرر وضعيته كعملية احتياط دولي، ولذلك قامت الصين في قمة العشرين بالمناداة بضرورة بناء نظام نقدي عالمي جديد لا يسيطر عليه الدولار بل عملة جديدة تتم تسوية الالتزامات الدولية وتسعير السلع في الأسواق العالمية بها، وتخضع لإشراف صندوق النقد الدولي، وهو الطلب الذي رفضته الولايات المتحدة بشدة(116)، ووظفت تحالفاتها من أجل استبعاده من المنافسة الدولية. وإذا كانت الولايات المتحدة قد نجحت في تعطيل تفعيل هذا الطلب الصيني، فإنه نجاح مؤقت لن تستطيع أن تحافظ عليه طويلًا إذا ما استمرت وتيرة تراجع الاقتصاد الأمريكي بالمعدلات الحالية، وإذا ما استطاعت الصين أن تحافظ على معدلات تقدمها هي والهند وقوى دولية أخرى صاعدة. فالمؤكد أن خريطة القوى الدولية سوف تتغير كثيرًا ليس فقط اقتصاديًا بل وأيضًا سياسي وربما عسكري.
مجمل هذه التطورات التي حدثت في هيكلية النظام العالمي من نظام ثنائي القطبية إلى آخر أحادي القطبية بأمر واقع أمريكي فرض نفسه على العالم بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ثم دخول هذا النظام سريعًا إلى مرحلة الأفول بتراجع القوة الأمريكية أو اتجاهها إلى الأفول نتيجة الحروب الاستنزافية التي تورطت فيها في العقد الأول من القرن الحالي كانت لها تأثيراتها الواضحة على النظم الإقليمية. فالتطور في أدوار ومكانة النظم الإقليمية طيلة نظام الثنائية القطبية انحسر كثيرًا في عقد الهيمنة الأمريكية، لكن مع تداعي أو أفول هذه الهيمنة وظهور قوى دولية قادرة على أن تفرض الشراكة الدولية وتنادي بنظام عالمي متعدد الأقطاب، وتشكيل هذه القوى كتل اقتصادية وسياسية قوية مثل منظمة شنغهاي للتعاون، ومثل “جماعة بريكس” (روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا) بدأت النظم الإقليمية تستعيد مكانتها ودورها مع تزايد نفوذ قوى دولية – إقليمية مثل الصين (في جنوب شرق آسيا)، والهند (في جنوب آسيا) والبرازيل (في أمريكا اللاتينية)، وجنوب أفريقيا (في النصف الجنوبي من القارة الأفريقية) وروسيا (في منطقة أوراسيا) وغيرها.
هذه التطورات والتحولات التي حدثت والتي مازالت تحدث في هيكلة النظام العالمي وطبيعته في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وسقوط النظام الدولي ثنائي القطبية بدأت تحدث تأثيرات واسعة في فواعل النظام العالمي وعلى الأخص في النظم الإقليمية، لكن هذه التأثيرات تظل نسبية بالطبع، فهي لن تكون بالشمول نفسه ولا بالدرجة نفسها في كل النظم الإقليمية. هذه النسبية في التأثر ترجع لمعايير عدة هي التي تحكم درجة تأثر وتفاعل النظم الإقليمية بالتحولات الجديدة التي حدثت والتي تحدث في خصائص النظام العالمي. من هذه المعايير نذكر إمكانيات أو قدرات النظام الإقليمي. كلما زادت قدرات النظام الإقليمي وزاد تماسكه تراجعت فرص تأثير النظام العالمي بخصائصه الجديدة في تفاعلاته والعكس صحيح، ومنها المصالح العالمية في النظام العالمي، ذلك لأن كثافة هذه المصالح في نظام ما يؤدي إلى تفاقم تدخلات النظام العالمي في هذا النظام الإقليمي وتفاعلاته، ومنها نمط ارتباط النظام الإقليمي بالنظام العالمي، فكلما زادت الارتباطات سواء من خلال المصالح الاقتصادية والعسكرية أو العلاقات السياسية.
زاد تأثير النظام العالمي في النظام الإقليمي والعكس صحيح، ومنها مدى كثافة الصراعات داخل النظم الإقليمية. فالنظام الإقليمي الأكثر كثافة في صراعاته أكثر استعدادًا للاختراق من النظام العالمي، وأخيرًا هناك متغير تماسك النظام حول قيادة إقليمية من عدمه. فكلما كان النظام متماسكًا وكلما كانت للنظام قيادة إقليمية تراجعت سطوة النظام العالمي في التأثير على هذا النظام وتفاعلاته.
ووفقًا لهذه المعايير نستطيع أن نقول:إن النظام العربي سيكون أكثر تعرضًا للاختراق من النظام العالمي وأكثر استعدادًا للتأثر بهذه التحولات، فالنظام العربي رغم قدراته الاقتصادية وموقعه الإستراتيجي، فإنه أكثر ارتباطًا بالنظام العالمي من منظور مصالح النظام العالمي وبالذات القوى الغربية في هذا النظام بسبب ثروة الطاقة الهائلة التي تجعله نظامًا معولمًا. يزداد التأثير بسبب كثافة الصراعات والانقسامات داخل النظام وبسبب هشاشة التماسك وغياب القيادة الإقليمية بل وتعرضه لموجة عاتية من الانقسامات داخل الدول على أسس عرقية ومذهبية، ناهيك عن دخوله مرحلة صراع جديدة مع دعوة التأسيس لنظام آخر بديل يقوم على أساس دعوة “الخلافة الإسلامية”.
ربما يكون تراجع سطوة الولايات المتحدة وظهور “نظام لا قطبي” مرجح أن يتحول إلى نظام متعدد الأقطاب فرصة أمام النظام العربي لتنويع علاقاته وارتباطاته السياسية والاقتصادية مع الفواعل الجدد في النظام العالمي، وربما يكون التوجه الأمريكي نحو الشرق الأقصى على حساب الارتباطات الأمريكية بالشرق الأوسط فرصة أمام النظام العربي للتخلص، ولو تدريجيًا، من روابط التبعية للولايات المتحدة وهيمنتها، لكن تداعيات الثورات العربية تحد كثيرًا من فرص مثل هذه التطورات.
د. محمد السعيد إدريس
المركز العربي للبحوث والدراسات
http://www.acrseg.org/36537