من المحتمل أنني أرى الحياة في لبنان حياة طبيعية لأنني عدت حديثًا إلى بيروت بعد زيارة مدينتي حلب ودمشق؛ فالشرق الأوسط من حول الجوهرة الصغيرة يحترق، حيث ستجد العديد من الصراعات المتأججة من حولها في سوريا والضفة الغربية الفلسطينية والعراق واليمن وليبيا، وتصاعد الأحداث في مصر، وللأسف أيضًا مع الأكراد الأتراك، بينما تتألق لبنان وحدها في سماء هذا الظلام دون أن تمسها الأعمال الوحشية التي تحدث على الجانب الآخر من حدودها، أو هكذا تبدو هي للعالم.
ومن الغريب أن نعتقد أن مثل هذه القطعة من الجنة مازالت تنتمي إلى العالم العربي؛ فإذا ما نظرنا إلى أحوالها، سنجد أن لبنان لا يحكمها رئيس بعينه حتى الآن ولم تحدد لها حكومة معنية بتسيير أمورها، بالإضافة إلى انقطاع مستمر في التيار الكهربائي (عادة ما تنقطع الكهرباء عن منزلي ثلاث مرات يوميًا، فتستمر العتمة في بعض الأحيان إلى ست ساعات، إن لم يتوافر وجود مولد كهرباء)، وقد تبدو لكم القراءة على ضوء الشموع رومانسية مثل أجواء شعر ميلتون، ولكنها تتحول إلى ملل شديد بعد فترة.
ومما لا شك فيه، أن الحرب السورية قد تركت آثارها على لبنان؛ من تفجير للمساجد ومحاولات انتحارية لتفجير السفارة الإيرانية، وسيطرة داعش على المدينة اللبنانية “عرسال” لفترة وجيزة، وذبح الجنود اللبنانيين الأسرى، فكانت بمثابة إنذار قابل على إحياء سيناريو الحرب الأهلية القديمة بها، فقد حظي مقاتلو حزب الله في جنوب لبنان بجنازات عسكرية بعد عودة عشرات القتلى من المعارك السورية، بينما قاتل العديد من المسلحين السنة والشيعة في مدينة طرابلس شمال لبنان، ولكن بالرغم من كل ما أحيط بها، لم تقحم لبنان نفسها في أي حرب جديدة.
لديَّ العديد من النظريات التي تدور حول تفسير سبب تماسك لبنان حتى الآن؛ إذ تحتوي لبنان على أعلى المعدلات العربية من الشباب المُتَعلّم وأكثرهم موهبة، فلن تنتصر جبهة بعينها على الأخرى، لتكون هذه إحدى الدروس المستفادة من الحرب الأهلية اللبنانية – بعد فقدانهم لما يقارب 150 ألف قتيلاً، وهو بالطبع رقمٌ لا يُقارن لما يحدث في سوريا الآن – على الرغم من تمسك الأقلية المسيحية بمنصب رئاسة الجمهورية، بينما مازال مقاتلو حزب الله محتفظين بأسلحتهم.
تعمدت العديد من الأسر اللبنانية – من الطبقات المتوسطة والعليا – بإرسال أبنائهم للخارج في جينيف وباريس ولندن ونيويورك؛ من أجل حماية أرواحهم أثناء الحرب اللبنانية التي استمرت من العام 1976 وحتى 1990، ليتعلموا في الجامعات الأجنبية مثل أوكسفورد وهارفارد وسوربون، فترعرعوا حتى مرحلة البلوغ في وسط الحياة الغربية؛ حيث اعتادوا على الحياة المُتسمة بالكرامة والحرية كحقوق إنسانية طبيعية وليست مميزات كمالية للحياة.
وفوجئوا لدى عودتهم إلى بلادهم بانتشار الطائفية والعنصرية بها، إضافة إلى الفساد المتفشي والصراعات الأسرية “زوما”، إلى جانب الإقطاعيين الموقنين بحقوقهم الملكية في الوصول إلى السلطة، ولكنهم نجحوا في إقناع الحكومة بتقنين الزواج المدني، على الرغم من رفض شيوخ الديانة الإسلامية وأساقفة المسيحية لهذه المبادئ.
ولكن كالعادة، تسود العادات القديمة وتغلب على كل شيء؛ فأنا أتذكر صديق لي مسلم كان يدرس في الجامعة البريطانية، وكنا نتقابل في بريطانيا من وقت لآخر، كان يستمتع بالحريات المقدمة له في الغرب، ولكن فجأه حزنت عندما طلب من أمه أن تبحث له عن عروس مسلم ليتزوجها، فقد عاش حياته بالطول والعرض وفجأه أراد من أمه أن تجد له عروس صغيرة تنتمي إلى الدين المتلائم معه.
كل ستة أشهر تقريبًا أقابل مسلمًا أو مسيحيًا يهدده أسرته إذا ما تزوج رجلاً أو امرأة من ديانة مختلفة عنهم، وحضرت أحد المؤتمرات في بيت دين على جبال الشوف ستناقش فيه فكرة الطائفية؛ حيث اقترح أحد الأكاديميين الغربيين تأكيده على ضرورة تشجيع الشباب اللبناني على الزواج ممَن يحبونهم مهما اختلفت ديانتهم، ولكنني أرى أن الآباء هم من يجب أن يوجهوا لهم مواعظهم وليس الأبناء.
وماذا هم فاعلون بالفساد؟ فالفساد ما هو إلا سرطان ينتشر في الشرق الاوسط رغم أنف الكل (وبالطبع لابد أن أعترف أن الفساد موجود في الكثير من الدول الغربية)؛ فبطبيعة عملي كصحفي عادة ما أقابل رجالًا ونساءً ذوي ماضٍ مريب، سواء كان باحتيالهم على بنك ما أو لُطّخت أيديهم بدماء الحرب الأهلية، أو حاولوا الإساءة إلى سمعة أحد السياسيين؛ فأنا أعرف صاحب محل خضراوات قتل شخصًا بسبب خلافات عائلية.
وفي حين تهدد البنوك التي تفرض رسوم فاحشة على الحسابات الجارية لعملائها؛ اعتاد البنك الخاص بي في بيروت – وهو بنك لا يعتمد على فرض رسوم عالية ويملكه رئيس وزراء لبنان السابق سعد الحريري – بإرسال خطابات تنص على تعهدي بألا أخرق أي من قوانين البنوك الفيدرالية الأمريكية، حيث تخشى البنوك من أي تهديد بغسيل الأموال الأمريكية – فأي بنك لا يتعامل بالدولارات يعتبر خارج السباق – واستمر البنك الخاص بي في إرسال هذه الرسالة عامًا بعد الآخر حتى مللت منه، وأرسلت إليهم خطابًا موجّه من المحامي الخاص بي ينص على أنهم لا يحق لهم قانونيًا أن يقوموا بمثل هذه الإدعاءات مع مواطن بريطاني، وبذلك انتهت المسألة بسلام ولم تتكرر مرة أخرى بعد ذلك.
وحتى مع وجود الفساد بنسب صغيرة؛ فوجوده في حد ذاته يشجع على انتشاره، ولكن ماذا يجب أن تقوم به لبنان فيما يخص وجود شقيقتها السورية بجوارها؟ تنص الإحصائيات على وجود 10 مليار من الأموال السورية في البنوك اللبنانية ومستثمرة في العقارات اللبنانية، وبالطبع لك أن تتخيل مدى غضب ما يقارب من 80 سوريًا وضعتهم أمريكا على القائمة الاقتصادية السوداء، ولكنه أمر حقيقي.
وبسبب رواد إمبراطوريات الاحتلال في الشرق الأوسط في الماضي – فرنسا – انفصلت لبنان عن سوريا؛ فالعديد من العائلات اللبنانية لهم أصول سورية، وهو ما يعادل ثلث سكان “طرابلس” شمال لبنان، مع العلم أن العديد منهم يحملون الجنسيات الأمريكية، وبالطبع لهم الحق في أن يكون لديهم حسابات في البنوك اللبنانية، فلن يستطيع أحد تتبع هذه الأموال إذا ما قرروا سحبها واستعمالها في دمشق.
يحمد اللبنانيون ربهم على وجود الجيش اللبناني؛ حيث أعيد تكوينه بعد انتهاء الحرب الأهلية؛ فهو القوة الوحيدة التي لم تتسم بالطائفية في لبنان والمؤسسة الوحيدة التي لم تتوقف عن العمل حتى الآن، ولولاه لتجددت الحرب الأهلية من جديد في لبنان، حيث كان من المفترض أن يُعيد السعوديون تسليحه بما يعادل 3 مليار دولار مقابل توفير الأسلحة من قبل فرونسوا هولاند صديق الملك سلمان، ولكن لم ينفذ السعوديون وعدهم بعدما أثير غضبهم جراء هجمات شيعة حزب الله على المملكة، ولذلك لازال الجنود اللبنانيون يدافعون عن بلادهم بالبنادق البريطانية القديمة التي استخدمت من قبل في “بالفاست”، وفي سيارات “الهامفي” الأمريكية، ومروحيات “هيوي” المستخدمة في حرب فيتنام قديمًا.
ومع غياب منصب الرئيس اللبناني، أصبح اللواء “عباس إبراهيم” أقوى رجل في لبنان، وهو رئيس الأمن الداخلي اللبناني، إضافة إلى كونه مسلم شيعي يُعرف بصلاته القوية مع قطر، وساعد في المفاوضات حول الإفراج عن الجنود والراهبات اللبنانيات المحتجزين من قبل جماعة نصرالله الإسلامية، ودائمًا ما أنصحه أن يحافظ على سلامته لأنني أخشى عليه؛ فنادرًا ما تجد رجلاً مثله في لبنان كشخص في مثل شجاعته، فعلى الرغم من أن العديد يرغبون في قتله إلا أنه يستحق أن يعيش.
ولبنان لها الحق أن تعيش بسلام أيضًا، ولكن يبدو أن اللواء السابق “ميشال عون” يرغب في تحقيق طموحاته بأن يصبح الرئيس اللبناني القادم، في محاولة خداع جديدة؛ فقد كان لواء في الجيش اللبناني وفي لحظة ما اعتبر نفسه رئيسًا للبلاد وقرر من تلقاء نفسه الدخول في حرب مع سوريا في العام 1990، وبعد استشهاد المئات من جنوده من قبل القوات السورية (وهو ما قوبل بنفس الأعداد بالنسبة للجيش السوري)؛ هرب “عون” للاحتماء في السفارة الفرنسية منطلقًا إلى باريس ليعود مرة أخرى منتصرًا إلى لبنان، مستندًا إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد وحلفائه من حزب الله، وبذلك اعتقد العديد من اللبنانيين باختلال عقله.
ولكن لم يكن هناك من يماثل سعد الحريري رئيس الوزراء السني الأسبق، في حجم غضبه تجاه “عون”؛ فسعد الحريري يؤمن بأن والده قتل من قبل أفراد الأمن السوري في العام 2005، ولكن ومع اندهاش العالم كله؛ أعلن سعد الحريري بعد جولات له في السعودية وفرنسا، دعمه لعون ليكون رئيسًا للبنان.
وفي أقوال أخرى، يتقرب الحريري من رجل ينتمي إلى النظام الذي قتل والده، فهل يعلن الحريري هذا الموقف لأنه يريد أن يصبح رئيس وزراء لبنان مرة أخرى، حتى وإن كان رئيس وزراء حكومة عون؟ في لبنان يشترط أن يكون رئيس الجمهورية مسيحي ماروني، بينما يجب أن يكون رئيس الوزراء مسلم سني، والمتحدث الإعلامي للبرلمان اللبناني شيعي، ولكن المتحدث الشيعي للبرلمان هو “نبيه بري”، وقد أعلن مرارًا أنه لن يرضخ لكون “عون” رئيسًا لهم تمامًا مثل 13 عضوًا على الأقل، من حزب الحريري.
النظام اللبناني يعيش فيه كل لبناني سواء كان مسيحي أو مسلم سني أو شيعي في أجواء حب متبادل يتسم بالترقب الحذر، ولكن عادة ما يخلب الحب أي شعور سلبي آخر إذا ما أراد الناس أن تتوقف الحروب الأهلية.
لكي تتحول لبنان إلى بلد حديث لابد أن تتخلى عن تحفظاتها الطائفية ليستطيع أي لبناني مهما كانت ديانته أن يكون رئيسًا للبلاد، ولكن إذا ما أزلنا الطائفية من لبنان؛ لن تكون هناك لبنان لأن الطائفية هي كيان لبنان.
ولكن بالرغم من كل ذلك، سوف تبقى لبنان على قيد الحياة؛ فهي تختلف عن غيرها من البلدان العربية، حيث تتمتع لبنان بنسبة كبيرة من الحرية والتعليم وحبها للكتب وبعدم تخليهم عن تاريخهم؛ سواء كان من بقايا الرومانية أو قلاع الصليبيين أو مساجدهم العتيقة أو حبهم الفينيقي للسفر والمغامرة ولذلك عادة ما تجد رحلات الطيران اللبنانية مكتظة بالركاب؛ فاللبنانيون هم أبطال أنفسهم.
روبرت فيسك
التقرير