تتسارع الأحداث في مجرى المواجهة العسكرية، في كل من العراق وسوريا، لصالح المركز، في كل من بغداد ودمشق. ومن المؤكد أن ذلك لم يكن له أن يتحقق من غير توافقات دولية، وتحديداً بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية.
ويبدو أن هناك تقاسم وظائف بين القوتين العظميين، فأمريكا تركز ضرباتها في المناطق المستهدفة بنينوى، بعد أن استكمل ما بات معروفاً بتحرير الأنبار. وروسيا تركز ضرباتها على حلب الشرقية. وفي الحالتين، تقترب المعارك من مرحلة الحسم، لصالح الحكومتين العراقية والسورية. إيران رغم الصخب الشديد الذي تطلقه أجهزة إعلامها، تظل ملحقة وتابعة للقوتين. فهي تقاتل في العراق، إلى جانب قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة. وفي سوريا، تقاتل ضمن الاستراتيجية العسكرية الروسية. وفي الحالتين، تتوقع أن ينالها شيئاً من الكعكة.
ما نهدف إليه في هذه القراءة ليس التركيز، على الجانب العسكري، الذي يبدو أنه يسير في كلا البلدين إلى الحسم العسكري. وإنما إسقاطات ذلك على الواقع السياسي، والتغيرات المتوقعة في الاصطفافات والتحالفات في المنطقة بأسرها.
وأهم معطى سياسي في هذه التحولات، هو توافق القوتين الإقليميتين، المجاورتين، إيران من الشرق، وتركيا من الشمال، على مجموعة من التقاطعات، بخلاف ما كان يجري بينهما منذ قيام الجمهورية الإسلامية.
فالموقف الأمريكي، الذي بدا مسانداً لانقلاب فتح الله غولن، ضد الرئيس رجب طيب أردوغان، وقرار الاتحاد الأوروبي، تجميد قبول عضوية تركيا فيه، وموقف روسيا فلاديمير بوتين، وحلفائها المساند، للحكومة التركية ضد الانقلاب، كلها دفعت بتركيا إلى السعي للتوجه شرقاً وجنوباً، بدلاً من الشمال والغرب.
وقد عبّد بوتين لأردوغان هذا الطريق، قبل عدة أشهر، حين جرت إعادة ترتيب العلاقة بين البلدين، بما يضمن لروسيا تغيراً استراتيجياً في الموقف التركي تجاه الأزمة السورية، وحرمان المعارضة العسكرية، من اعتماد تركيا كقاعدة آمنة للقوى المسلحة في سوريا، يمكن اللجوء لها في مناورات المواجهة المحتدمة مع الحكومة السورية، بما يضيف لها ولحلفائها أوراق قوة في هذه المواجهة.
هناك حديث تركي رسمي، عن وجود بدائل تركية، تغنيها عن الاتحاد الأوروبي. والإشارة هنا واضحة، إلى أن تركيا ستقلب للغرب ظهر المجن، وستلتحق بمجموعة «البريكس» و«منظمة شنجهاي». وسيشكل هذا أحد التقاطعات الرئيسية بين كل من إيران وتركيا، حيث ينحو كلاهما إلى تأكيد حضوره في التجمعين.
وهنا نحن إزاء تحول جوهري في خريطة التحالفات الاستراتيجية بالمنطقة، يسعفها ويردفها رغبة عدد من البلدان العربية، التي تنوي إعادة تموضعها في الصراع المحتدم بالشرق الأوسط.
المشهد السياسي في العراق، من الصعب التنبؤ به، فهناك احتمال بروز صراع حاد بين حكومة المركز، في بغداد والأكراد الذين يتطلعون إلى ضم الموصل لكردستان العراق. وهناك احتمال صراع بين المكون السياسي الشيعي، والمكون السياسي السني، على قاعدة مطالبة السياسيين السنة، باستقلال ذاتي، لأقاليم الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى، التي عرفت بالمثلث السني. وهو ما يتوقع أن ترفضه إيران، لأن ذلك سيحرمها من عمقها الاستراتيجي، في سوريا.
إن النصر العسكري المنتظر، على داعش في الموصل وتلعفر، لن يكون موسم هدوء في الجبهة العراقية، بل بداية لاحتدام صراع سياسي مرير، لن يكون مع «داعش»، بل مع الأكراد، وأيضاً مع المكون السياسي السني.
وفي هذا السياق، من البديهي أن يتفق الإيرانيون والأتراك، ضد الأكراد، فكلاهما لا يرغب في قيام دولة كردية على حدوده، الغربية بالنسبة لإيران، والجنوبية بالنسبة لتركيا. أما فيما يتعلق بقيام حكم ذاتي في المحافظات التي تضم أغلبية سنية في العراق، فالمرجح أن تساند تركيا تلك المطالب، خاصة وأن كثيراً من المتنفذين السياسيين العراقيين السنة، ينتمون إلى الإخوان المسلمين، أو يتعاطفون معهم في أقل تقدير.
وهنا سيكون الأتراك والإيرانيون مجبرون على التوصل إلى تسويات، قد تصل حد قيام شكل مخفف من أشكال الحكم الذاتي، لا يلغي أرجحية حضور المركز، ولا يكون شبيهاً بحال الأكراد في شمال العراق. وسوف تضغط تركيا على زعماء السنة، للقبول بهذه التسوية. لكن ذلك لن يتحقق على الأرض بسهولة، بل ستسبقه مفاوضات ومناكفات.
بالنسبة لسوريا، تؤكد كل المؤشرات، أن الجيش السوري سوف يتجه جنوباً، بعد تأمين الجبهتين الشمالية والشرقية. وهو أمر يبدو منطقياً جداً. فالعراقيون لن يأمنوا عدم عودة تنظيم «داعش» للأنبار ونينوى، ما لم تتم هزيمة هذه القوات في المحافظات السورية المحاذية للأراضي العراقية، وتحديداً دير الزور والبوكمال والرقة.
الاتجاه جنوباً، متوقع قريباً جداً، حيث ستدور المعارك في محافظة درعا. وسيشكل انتصار القوات النظامية السورية، نقطة جوهرية لصالح النظام، حيث سيتجه بعدها، مدعوماً بحلفائه إلى إدلب والرقة، وريفي حمص ودمشق، وفي الجولان.
والخلاصة هي أن المنطقة بأسرها حبلى بمتغيرات كبرى في خريطة التحالفات الجيوسياسية.
يوسف مكي
صحيفة الخليج