عندما أقدم رجل شرطة تركي يوم الاثنين قبل الماضي على اغتيال أندريه كارلوف، السفير الروسي لدى تركيا، بدا لوهلة كما لو أن العالم كله أصيب بالصدمة. فقد حدث القتل في وقت انعدام لليقين العالمي، وذكَّرت الحادثة بعض المراقبين ببداية الحرب العالمية الأولى.
لكن الحقيقة، مع ذلك، هي أنه على الرغم من العلاقات المهتزة بين روسيا وتركيا في السنوات الأخيرة، فإن من غير المرجح أن تؤدي حادثة الاغتيال إلى المزيد من التوتر بين البلدين. وفي الحقيقة، ربما تدفعهما هذه الحادثة أقرب إلى بعضهما بعضا، حيث تدرك موسكو أن هذا الحدث يشكل فرصة مثالية لجرِّ تركيا الضعيفة وغير المستقرة إلى المدار الروسي.
لم يكن اغتيال كارلوف أول اختبار للعلاقة التركية-الروسية. فقد هددت الحرب السورية، حيث تدعم روسيا حكومة الأسد بينما دعمت تركيا جماعات من الثوار، بجر القوتين التاريخيتين إلى المواجهة أيضاً.
وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، أسقط سلاح الجو التركي طائرة روسية قرب الحدود السورية، ليكون ذلك الحادث أول مرة تقوم فيها دولة عضو في حلف شمال الأطلسي بإسقاط طائرة روسيا على مدى نحو 50 عاماً، كما يُعتقد. وبعد أربعة أسابيع من ذلك، اشتبك البلدان في حرب كلامية.
لكن تلك الحرب لم تتصاعد أبداً. وفي حزيران (تموز)، اعتذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لنظيره الروسي، فلاديمير بوتن، عن الحادثة. وكوفئ أردوغان في الشهر التالي، عندما كان بوتين –وفقاً للقصة التي قدمتها كلا الحكومتين على الأقل- أول رئيس دولة يأتي للدفاع عنه بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضده.
منذ ذلك الحين، تحسنت العلاقات بين البلدين بشكل ملحوظ. لكن استقرار تركيا –من جهة أخرى- ظل يشهد المزيد من التدهور.
عمل اغتيال السفير الروسي في قلب العاصمة التركية على تعرية مدى السوء الذي بلغته الأمور هناك. فبعد المحاولة الانقلابية، بدأ أردوغان عملية تطهير واسعة النطاق لمؤسسات الدولة. وتم طرد الآلاف من رجال الشرطة والمخابرات المخضرمين أو إيداعهم السجون. ووفقاً لبعض التقارير، قامت الحكومة بسجن ما يقرب من نصف جنرالات الجيش. كما أن سلاح الجو جُرد من كوادره إلى حد كبير.
في الأثناء، تخوض تركيا حرباً لا يمكن كسبها على ثلاث جبهات في سورية: دعم فصائل وكيلة من الثوار ضد حكومة الأسد؛ والمشاركة في عمليات ضد “داعش”؛ وثالثاً والأهم بالنسبة للحكومة التركية، محاولة الحد من مكاسب الجماعات الكردية.
بالنظر إلى هذه المعوقات، ستجد روسيا أن من السهل الضغط على تركيا. وتبدو روسيا عاكفة على تأكيد حضورها لتكون وسيط القوة الأساسي في سورية. وقد قطعت شوطاً جيداً في طريقها إلى تحقيق هذا الوضع مسبقاً، بعد أن ساعدت لتوها حكومة الأسد على تحقيق انتصار رئيسي في حلب. لكن روسيا ستحتاج إلى الموافقة التركية من أجل تعزيز نفوذها. وهناك مؤشرات على أن تركيا تستجيب.
أشار قاتل كارلوف إلى القصف الروسي لحلب كدافع للاغتيال. ويقال إن “جيش الفتح”، وهو جماعة جهادية سورية، قد أعلن مسؤوليته عن حادثة القتل. ومع ذلك، كانت حكومة أردوغان سريعة إلى التقليل من شأن سورية في القضية.
بدلاً من ذلك، أشارت تركيا بأصابع الاتهام إلى فتح الله غولِن، رجل الدين المقيم في بنسلفانيا، والمتهم بتدبير محاولة الانقلاب ضد أردوغان في تموز (يوليو). وفي الرواية التركية الرسمية، يُلمح اتهام غولِن بالإرهاب في كثير من الأحيان إلى أن الولايات المتحدة هي الطرف الملوم في واقع الأمر. وكانت الحكومة التركية والولايات المتحدة تشتبكان مؤخراً بسبب دعم الولايات المتحدة للأكراد في سورية، وبسبب مطالبات تركيا بتسليم غولِن.
من جهتها، كانت الحكومة الروسية سريعة بالمثل إلى التقليل من شأن التوترات مع تركيا في أعقاب حادثة الاغتيال، ووعدت بالعمل مع تركيا في التحقيق في الحادثة، وبالعمل معاً على محاربة الإرهاب. وهي تعرف أنها ليست هناك حاجة إلى استعداء أنقرة الآن، عندما تستطيع استدراجها بالتملق بدلاً من ذلك. وفي اليوم التالي لاغتيال كارلوف، استضافت روسيا اجتماع قمة مع تركيا وإيران لمناقشة مستقبل سورية.
ينبغي أن يثير هذا الوضع قلق الولايات المتحدة وحلف الناتو. فهدف بوتين النهائي لا يقتصر على الهيمنة على سورية، وهو ما يفعله مسبقاً، وإنما خلق تصدعات في تحالفات الغرب أيضاً.
لعل مما يبعث على الارتياح أن حادثة اغتيال كارلوف لن تقود، كما خشي الكثيرون، إلى نشوب صراع بين روسيا وتركيا. لكن فكرة وجود حكومة أردوغان ضعيفة تجد نفسها تابعاً للكرملين، بدلاً من الحفاظ على تحالفها مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، تثير القلق هي الأخرى.
جنكيز جاندار
صحيفة الغد