في يوم صاف وبارد في منتصف كانون الأول (ديسمبر)، كانت قوات مكافحة الإرهاب العراقية تقاتل لطرد مقاتلي “داعش” من منطقتي الكرامة وسومر في شرقي الموصل. ومثل العديد من الضواحي الثماني والثلاثين في شرقي الموصل التي قال ضباط قوات مكافحة الإرهاب إنهم استعادوها، ذكر في السابق أن منطقة الكرامة قد حررت عدة مرات في وسائل الإعلام المحلية منذ أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وأن القتال ما يزال مستمراً في سومر منذ أيام. وفي الأثناء، كانت قوات الفرقة التاسعة المتعبة من الجيش العراقي –وهي واحدة من وحدات القوات الأمنية العراقية التي توجد داخل الموصل- تتصدى لهجوم مضاد عنيف آخر من “داعش” بعد أن أفرطت في التمدد في ضاحية الوحدة في الأسبوع السابق.
فوق القوات، طارت أوركسترا من الطائرات المقاتلة التي تنتمي إلى تسعة بلدان. وسيرت طائرات ضاربة من طرازات مثل “إيغل” و”رابتور” و”هاريير” و”تايفون” و”أباتشي”، والتي بلغت في مجموعها 43 طائرة، دوريات جوية. وملأت المجال الجوي مجموعة من الطائرات من دون طيار وطائرات دعم أخرى، بما فيها طائرات القيادة والسيطرة المحمولة جواً “إي 3 وإي 4″، وطائرة التشويش الألكتروني “سي-27 جيه” واسطول من طائرات التزويد بالوقود في الجو، والتي زودت المقاتلات طيلة اليوم بأكثر من 430.000 غالون في السماء.
وقال الجنرال ماثيو أيلار، نائب القائد العام لحملة الائتلاف الجوية، واصفاً القوات الجوية المتوفرة لديه: “إنها فعلاً مقدرة غير محدودة”. وفي ذلك اليوم، أعلن الائتلاف عن استهدافه ست وحدات تكتيكية تابعة لـ”داعش” وأربع عربات وأربعة أنظمة مورتر وأربعة مباني وثلاث قاذفات قنابل موجهة صاروخياً ومصنعين للسيارات المفخخة وشاحنتين ونفقين وجسراً أرضياً ومخزن إمداد و13 طريقاً. وأمنت قوات مكافحة الإرهاب العراقية في النهاية المنطقتين في وقت لاحق من ذلك اليوم، كما قال أيلار، مما يجعل العملية نجاحاً.
مع ذلك، ذكرت وسائل الإعلام العربية أن القوات العراقية كانت ما تزال تقصف سومر بعد أن قالت إنها استعادتها، بينما أشارت خرائط رسمها ناشطون إعلاميون ينسقون مع قوات الأمن الحكومية إلى أن الضاحية ما تزال في قبضة “داعش”.
كان اليوم 57 من العملية التي تستهدف استعادة مدينة الموصل مجرد يوم آخر بالعديد من الطرق. وحتى مع عدم وقف الائتلاف الدولي حملته الجوية، تصنع القوات العراقية تقدماً طاحناً في قتال حضري شديد في مواجهة عدو انتحاري مطوق. وقد تلاشت الآمال الأولية بإحراز انتصار سريع وسهل، بينما تُلحِق استراتيجية محسوبة بعناية لـ”داعش” والتي تقوم على التفجيرات الانتحارية، خسائر جسيمة في الوحدات المقاتلة العراقية الأكثر فعالية في كل منطقة تجري استعادتها. وبعد شهرين مضيا على شن الهجوم المضاد لاستعادة الموصل، ما تزال نسبة تقدر بنحو 75 في المائة من المدينة تحت سيطرة المجموعة الجهادية.
يوم 22 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، شن “داعش” ثلاث هجمات بالسيارات المفخخة على منطقة كوجالي، وهي واحدة من أول المناطق التي تم الإعلان عن تحريرها في المدينة، مما أفضى إلى مقتل 23 مدنياً ورجل شرطة على الأقل.
تصبح عملية التغطية الإخبارية لمعركة الموصل -وبشكل خاص خسائر قوات مكافحة الإرهاب العراقية- موضوعا حساساً بازدياد. واعتباراً من أوائل كانون الأول (ديسمبر)، حدت السلطات العراقية من وصول وسائل الإعلام الدولية إلى خط المواجهة. وقال اللواء فاضل البرواري، قائد قوات مكافحة الإرهاب العراقية: ” كان كل شخص يغطي حسب ما يريد، لم يكونوا ينقلون الحقيقة”.
قد تكون وسائل الإعلام الأجنبية ممنوعة من الوصول إلى خطوط المواجهة في الموصل، لكنها تلقى الترحيب في منزل برواري الخاص، وهو منزل فخم حيث توجد سيارة ميزاراتي مغبرة مركونة في الخارج في مجتمع محاط ببوابات. وقال برواري بينما كان جالساً في ردهة ومعه ثلاثة هواتف متنقلة وجهازان للسيطرة عن بعد وسجائر ومسدس يدوي، وكلها موضوعة على الطاولة أمامه: “لا توجد لدينا مشاكل مع الصحفيين. لكننا لا نستطيع تحمل المسؤولية عنهم أو السماح لهم بنشر توضيحات عن مواقع الخط الأمامي أو عن جنود قوات مكافحة الإرهاب القتلى”.
وكانت التقارير المليئة بالمديح عن نجاحاتهم ضد “داعش” قد جعلت من قوات مكافحة الإرهاب العراقية أبطالاً قوميين ووطنيين –وهم مؤسسة منفصلة عن وزارة الدفاع العراقية التي تتبع رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي مباشرة. ويعتبر البرواري، الكردي والمقاتل السابق في قوات البشمرغة، الذي انضم إلى الجيش العراقي في العام 2004، شخصية وطنية، وهو يفتخر بأن له أكثر من 200.000 معجب على “فيسبوك” ونحو 70.000 متابع على “إنستغرام”. وتشكل التغطية الإيجابية تحولاً كبيراً عن أعوام سابقة، عندما وصف العراقيون قوات مكافحة الإرهاب بـ “الكتائب القذرة”، ووسمتهم بعض المنافذ الإعلامية الغربية بأنهم “فرقة الموت” التابعة لرئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي.
لكن سمعتهم كمقاتلين نخبويين تجعلهم حساسين بشكل خاص تجاه تغطية الخسائر. وقال برواري: “رجالي ليسوا أبطال إثارة… إنهم يتعرضون للقتل فعلاً –وإنما ليس بالأعداد التي تُذكر في التغطية الصحفية”.
وهو يتحدث هنا بشكل خاص عن مهمة مساعدة العراق التابعة للأمم المتحدة، التي ذكرت هذا الشهر أن 1959 عنصراً من قوات مكافحة الإرهاب العراقية قتلوا في عموم البلد في تشرين الثاني (نوفمبر). وقد تسببت هذه الأرقام بردود فعل كبيرة، حيث دانت قيادة العمليات المشتركة في الجيش العراقي هذه الأرقام ووصفتها بأنها “مبالغ فيها بدرجة عالية”. وفي الرد على ذلك، قالت مهمة مساعدة العراق التابعة للأمم المتحدة أنها لن تعود إلى نشر أرقام خسائر الجيش.
يحذر برواري من أنه على الرغم من أن هناك قتالاً ضاريا قادماً، فإن من الصعب بمكان الإسراع في وتيرة العملية. وقال: “إن شاء الله سننتصر، ولكن ستكون هناك خسائر كبيرة لأن هناك قتال شوارع في داخل المدينة”.
وكان ناطق بلسان قوات مكافحة الإرهاب العراقية قد تباهى أثناء حديث لهذه المجلة في تشرين الثاني (نوفمبر) وقال إن استعادة الموصل سوف تستغرق مسألة أيام وحسب، لكن المحاولات الأخيرة للإسراع في وتيرة التقدم اصطدمت بكارثة. فيوم 6 كانون الأول (ديسمبر)، اندفع جنود الفرقة التاسعة إلى مسافة ميل تقريباً من نهر دجلة، الذي يقسم الموصل، لاستعادة مستشفى السلام الذي يعتبر واحداً من أعلى البنايات التي تقع في شرق النهر. لكن مقاتلي “داعش” شنوا في الحال هجوماً مضاداً صاعقاً عليهم، مما تسبب في إيقاع خسائر ثقيلة في صفوفهم. وقال أحد الجنود لوكالة أسوشيتدبرس إن كل الجنود المائة الذين اصطيدوا وعلقوا هناك قتلوا أو جرحوا. وفي اليوم التالي، تم توجيه قوات مكافحة الإرهاب العراقية لفتح ممر يسمح لجنود الفرقة التاسعة بالانسحاب قبل قيام قوات الائتلاف بقصف المستشفى. وأظهر فيلم دعائي لتنظيم “داعش” تم تصويره في المستشفى دزينة على الأقل من عربات قوات مكافحة الإرهاب العراقية مدمرة، والعديد من الجنود القتلى وأكواماً من المواد التي غنمتها المجموعة.
وأقنعت الحادثة العديدين بأن قوات مكافحة الإرهاب هي الوحيدة القادرة على القيام بمهمة استعادة الموصل. ويقول برواري الشيء نفسه: “سوف نستمر في القتال على الجبهة وأعطاء المناطق المحررة للجيش والشرطة للمحافظة عليها”.
ومع ذلك، يخشى مراقبون من أن يفضي الاعتماد على مقاتلي قوات مكافحة الإرهاب العراقية إلى توقف العملية برمتها إذا استمرت الوحدات النخبوية في تلقي خسائر ثقيلة.
ومن جهته، قال ديفيد ويتي، الجنرال المتقاعد من القوات الخاصة في الجيش الأميركي والمستشار السابق لقوات مكافحة الإرهاب العراقية: “لم يتم تصميم هذه القوات أبدا للخروج وتطهير الضواحي”. وكانت هذه القوات قد أسست لتنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب، مثل إنقاذ الرهائن أو القبض على قادة المتمردين. وبنيت قوات مكافحة الإرهاب تدريجياً بتدريب أميركي لتقوية حوالي 13.500 جندي في العام 2013 قبل البدء في القتال الرئيسي ضد “داعش”.
وقال ويتي: “هذه أصول ذات قيمة عالية، والتي من غير الممكن استبدالها. إن التدريب السريع لا ينفع مع قوات العمليات الخاصة”.
بعد تقارير من وسائل إعلام عربية محلية، يبدي ويتي قلقاً من أن رقماً عالياً في عدد القتلى قد يؤثر على فعالية قوات مكافحة الإرهاب العراقية. ويقول: “سمعت عن نسبة تتراوح بين 20 إلى 35 في المائة من الخسائر” في صفوف قوات مكافحة الإرهاب العراقية. وأضاف: “هذا رقم عالٍ بالنسبة لوحدة نخبوية من ذلك الحجم. ولا أعرف إلى متى تستطيع الاستمرار في ذلك”.
يأمل الائتلاف الدولي في أن تفضي زيادة الدعم الجوي إلى تغيير ميزان العملية. وقد رفع الائتلاف راهناً طلعاته الجوية بزيادة تبلغ 50 في المائة، مستخدماً ضعفي قدرة الأسلحة خلال الأوج السابق في الهجوم المضاد لقوات مكافحة الإرهاب العراقية لاستعادة الموصل. وقال أيلار: “ليست هناك أي عملية دعم جوي أكثر اتساعاً وأكثر دقة في التاريخ”.
مع قدوم التهديد الأكبر للقوات العراقية من العمليات الانتحارية والسيارات المفخخة وأجهزة التفجير البدائية لدى “داعش”، قام الائتلاف بتعديل حملته الجوية لاستهداف شبكات التصنيع لدى المجموعة، وإحداث صدوع في الطرقات لتبطيء حركة الانتحاريين لوقت طويل وكاف حتى تقوم القوات البرية بتدميرهم. ووفق أيلار، فإن جهود الائتلاف تحدث تأثيراً. ويقول: “أصبحنا نشاهد دروعاً أقل وكمية متفجرات أقل في السيارات المفخخة –أصبحت تجهز بتسرع أكبر وبقدر أقل من الفعالية”.
وفي الأثناء، ما تزال سلطات الائتلاف والسلطات العراقية تصران على أن النصر سيتحقق لا محالة. وقال أيلار أن مقاتلي “داعش”، “لا يعملون لكي يكسبوا -إنهم يعملون على التأخير”. ولكن مع تحول المعركة الآن إلى نوع من حرب الاستنزاف، فإن الكلفة النهائية لاستعادة الموصل قد تكون أعلى مما يرغب أي أحد في الإقرار به.
كامبل ماكدياميد
صحيفة الغد