التصريحات الأميركية تجاه سوريا تبدو مرتبكة ومتناقضة، لكنها باتت تشير أكثر إلى “علاقة ما” مع نظام بشار الأسد. تصريح جون كيري الأخير كان الأكثر وضوحا ربما، وقد أثار ارتباكا في طرف الرافضين للنظام، وفرحا لدى “الممانعين” الذين يعتقدون أن ذلك هو الدلالة على انتصار النظام، ومن ثم على بقائه.
ربما كانت المنظورات السابقة هي التي حكمت النظر إلى الموقف الأميركي حين بدأت الثورة السورية، حيث اعتبر مؤيدو النظام أن ما يجري هو مؤامرة أميركية، وأن أميركا هي “العدو الرئيسي” الذي يسعى إلى تغيير النظام وتدمير سوريا، وهو الموقف الذي ظل ثابتا طيلة السنوات الأربع من الثورة.
المعارضة التي اعتبرت أنها مع الثورة، واشتغلت على فرض ذاتها قيادة لها، انطلقت من بديهية أن أميركا ضد النظام السوري وتريد تغييره، وبالتالي سوف تستغل ما يحدث من أجل تحقيق ذلك، لإنهاء حزب الله وطرد إيران من المنطقة. وبهذا أسست إستراتيجيتها على أساس أن التدخل الأميركي هو أمر حتمي، وأن عليها أن تعلن ذاتها قيادة لكي تستدعي التدخل.
“حين بدأت الثورة اعتبر مؤيدو النظام أن ما يجري مؤامرة أميركية، وأن أميركا هي “العدو الرئيسي” الذي يسعى إلى تغيير النظام وتدمير سوريا، كما اعتبر المعارضون أنها أيضا مع الثورة وتريد الإطاحة بالنظام”
لكن الموقف الأميركي جاء مختلفا عن كل هذه الأوهام، فقد عمل باراك أوباما منذ أصبح رئيسا على إعادة العلاقة مع النظام السوري، وقد تسارع التحسن في العلاقة في العام 2010، ومن يعد إلى التصريحات والتسريبات حينها يلمس الغزل الذي كان يصدر من الطرفين.
لقد أتى أوباما إلى السلطة بعد أزمة مالية كبيرة كانت تفرض إعادة بناء التموضع الأميركي في العالم، وبالتالي التراجع عن سياسات جورج بوش الابن، وإن ظل يريد الحفاظ على زخم السيطرة الأميركية التي بدأها بوش، على الأقل في السنة الأولى من حكمه، لكن استمرار الأزمة بعد سنتين من انفجارها رغم السياسات التي اتبعها لإصلاح الاقتصاد، جعله يعيد التفكير في كلية الوضع الأميركي، وهو ما أفضى إلى إعلان إستراتيجية جديدة تقلص من الطموح الأميركي للسيطرة على العالم، وتحصر الأولوية الأميركية في منطقة آسيا والمحيط الهادي (أي التخلي عن أولوية الشرق الأوسط، فقط مع بقاء الأهمية نفسها لمنطقة الخليج العربي). وهو ما دفع إلى محاولة تطبيع العلاقات مع النظام السوري بعد الوصول إلى نتيجة العجز عن حل الأزمة سنة 2010، والاكتفاء بإدارتها.
في هذه المسافة بين الوصول إلى نتيجة تقول بالعجز عن حل الأزمة وإقرار إستراتيجية جديدة (2010/2012) حدثت الثورات في البلدان العربية، ولذا سارعت الإدارة الأميركية لتحقيق تغيير سريع في تونس ومصر، واعتبرت أن امتصاص الأزمة يفترض مشاركة الإخوان المسلمين في السلطة، وهي المسألة التي كانت مطروحة قبيل الحرب على الإرهاب، وأعاد أوباما طرحها بعد أن حاول تعديل العلاقة مع “الإسلام” في خطاب القاهرة سنة 2009.
وفي ليبيا ترددت أميركا كثيرا قبل أن تشارك في التدخل العسكري بخجل، لكنها على الصعيد السوري بدت غير مبالية، وبعيدة عن أن تنخرط في الحدث، وكان يبدو أنها لا تمتلك رؤية لما يمكن أن تفعل، خصوصا بعد “تصالحها” مع السلطة قبيل الثورة، وكما تسرب فقد بدأت مفاوضات مع الدولة الصهيونية برعايتها.
وكل التصريحات حول الوضع السوري كانت عائمة، وتشير إلى القلق بشأن ما يجري، وتطالب بالوصول إلى تفاهم بين السلطة والشعب، ولم تنطق بضرورة تنحي بشار الأسد إلا في وقت متأخر، وبخجل كذلك، وهي من خلال ذلك لم تكن متحمسة لسياسة تركيا وقطر وفرنسا التي كانت قد توصلت إلى ضرورة تغيير النظام بعد ضغط على السلطة لمطالبتها بالإصلاح.
ولهذا دعمت هذه الدول تشكيل المجلس الوطني لكي يكون مدخل التدخل الذي طرحته على حلف الناتو، والذي أُفشل نتيجة الرفض الأميركي، وقد فاجأت أميركا حلفاءها بدعم الدور الروسي في سوريا بعد أن طلب أوباما من روسيا بداية سنة 2012 رعاية مرحلة انتقالية في سوريا كما جرى في اليمن، وهو ما تبلور في التوافق على بيان جنيف في 30 يونيو/حزيران 2012، الذي أعطى لروسيا الدور المركزي في الحل.
“كل تصريحات الأميركيين حول الوضع السوري كانت عائمة، وتشير إلى القلق بشأن ما يجري، وتطالب بالوصول إلى تفاهم بين السلطة والشعب، ولم تنطق بضرورة تنحي بشار الأسد إلا في وقت متأخر، وبخجل كذلك”
لقد باعت أميركا سوريا لروسيا كما أشرت مرارا منذئذ، وظهر أن اهتمامها بسوريا ليس أساسيا، بعد أن قررت نقل أولويتها إلى آسيا والمحيط الهادي، وباتت معنية بالتفاهم مع روسيا. وفي كل هذه المرحلة رفضت تسليح المعارضة، وأصرت على تشكيل معارضة توافق على الحل الروسي. لكن روسيا لم تستطع رعاية ناجحة للحوار.
وبعد تصاعد العنف الدموي والدمار، كانت الإدارة الأميركية -ولا شك- فرحة أن هناك من يقوم بما قامت به في العراق، وكانت تحلم بأن يتحقق في سوريا، لتدمير كل المنجزات التي تحققت خلال عقود سابقة. ولهذا سهلت كل الأشكال التي تساعد على تصاعد هذا الشكل من الصراع، وعلى محاولة تحويله إلى صراع طائفي، وسهلت دخول تنظيم القاعدة ومن ثم تنظيم الدولة (داعش) في الصراع، لأنها كذلك كانت تريد سحق الثورة بعد أن باتت الثورات تشكل خطرا داهما، وهو ما كان يظهر في خطابها المراوغ والمتقلب، والذي كان يهدف إلى اللعب في الصراع ومده ومنع حسمه. ولقد نجحت في ذلك دون أن يكون لها دور مباشر، وأعتقد أنها ما زالت تعمل على “الخطة” نفسها.
حين قررت الضغط على إيران، عموما وفي العراق خصوصا، وجدت أنه يمكن أن تكون الورقة السورية جزءا من هذا الضغط. لهذا مدت “الحرب ضد داعش” إلى سوريا مع تأكيدها أنها لا تهدف إلى إسقاط النظام، أو حتى الاحتكاك به، كما ظهر في الأشهر الماضية. لكن باتت سوريا أحد أوراق التفاوض والمساومة مع إيران، وإذا كانت تريد تعديل وضع الدولة العراقية بحيث يكون لها تأثير مباشر عليها بعد أن فقدته إثر انسحابها نهاية سنة 2011، فإن سوريا هي ورقة قابلة للتنازل لأنها لا تجد أن لها مصالح تفرض عليها التمسك بها.
بالتالي لا تكمن المشكلة في أن أميركا يمكن أن تحاور الأسد، فهذا لا قيمة له ما دامت لا تريد التحصل على مصالح في سوريا، وباتت ترى أنها غير معنية بها في ظل سياستها العالمية التي تبتعد عن “الشرق الأوسط” (وتبقى في الخليج). بل المشكلة تكمن في أنها تساوم على سوريا مع روسيا والآن مع إيران، ومن ثم تنطلق من أنها ورقة بيدها لا يعنيها مصيرها إلا كونها ورقة.
هذا الأمر هو الذي يفسر الخطاب الأميركي المتردد والمتقلب والغامض إلى حد ما، فأميركا تناور بالورقة السورية، لهذا لا تريد دعم المعارضة، لأنها لا تريد أن تنجح الثورة، على العكس تريد أن تتشوه وتتطرف، وتتحول إلى مجزرة، ولا تريد إسقاط النظام، لأنها لا تريد أن تسيطر في سوريا بعد أن أخذت في الانسحاب من المنطقة.
“ما تلتزم به أميركا هو ألا تساعد في اختلال ميزان القوى العسكري، وما تقوم به الآن من تدريب لقوات من المعارضة هو لأجل الحرب ضد داعش وليس ضد النظام. أي أنها تحرف الصراع إلى سياق آخر بعيدا عن النظام تحت حجة “الحرب ضد داعش” “
لا شك أن أميركا حققت ما أرادته أصلا، أي التدمير والقتل، لكن ليس بيدها بل بيد السلطة نفسها. وهي الآن تُدخل الورقة السورية ضمن الأوراق التي تلعبها مع إيران، في سياق التوافق على دور إيراني إقليمي، لكنها أيضا تبقي الورقة السورية للمساومة مع روسيا رغم تصاعد الصراع بينهما الآن، لهذا ما زالت تؤكد على العودة إلى مبادئ جنيف1.
إن ملخص الموقف الأميركي يتمثل في التأكيد على أن الحل سياسي، وأنه من الضروري استمرار بنية الدولة، علما بأن جنيف1 أقرت تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحية بالتوافق بين النظام والمعارضة، دون إشارة لمصير بشار الأسد.
وربما يعود ذلك الغموض في جنيف1 بشأن مصير الأسد إلى حالة الشد والجذب بين أميركا وروسيا التي ظلت تتمسك ببقاء بشار الأسد، وهو الأمر الذي تفعله إيران الآن. لهذا يظل بشار الأسد هو المعني بإرسال وفد التفاوض، ولا يجري البحث عن بديل من داخل السلطة، وأميركا ليست معنية بهذا البديل، على أمل أن تقوم روسيا أو إيران بذلك. حينها يمكن أن يتحقق الحل.
لا شك أن أميركا تريد أن تصل روسيا وإيران إلى قناعة باستحالة بقاء بشار الأسد في حال كانت هناك نية للوصول إلى حل، لكن دون أن تكون هي المبادرة، فهي لا تبدو متعجلة، لهذا تظل هذه المسألة هي “العقدة” التي تمنع الوصول إلى حل على أساس مبادئ جنيف1.
ما تلتزم به أميركا هو ألا تساعد في اختلال ميزان القوى العسكري، وهذا ما تقوم به بكل جد، وما تقوم به الآن من تدريب لقوات من المعارضة يتحدد دوره في الحرب ضد داعش وليس ضد النظام، أي أنها تحرف الصراع إلى سياق آخر بعيدا عن النظام تحت حجة “الحرب ضد داعش” التي أعلنت أنها أولويتها.
خلاصة الأمر أن الوضع يراوح بين التخثر بمساعدة أميركية، والتوافق مع روسيا وإيران ليجري فرض حل يقوم -بالتأكيد- على إبعاد الأسد.
سلامة كيلة
نقلا عن الجزيرة