عندما أعلنت الدول الكبرى في صيف 2015، من فيينا، توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) مع إيران، أرفقت إعلانها هذا بعبارة بدت موجهة أكثر للمعارضين، مفادها أن الاتفاق “يفتح فصلا جديدا في العلاقات الدولية”، بعد مفاوضات عسيرة دامت أكثر من 21 شهرا وأزمة مستمرة منذ 12 عاما حول الطموحات النووية الإيرانية.
ويقضي الاتفاق برفع العقوبات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة على إيران مقابل موافقتها على فرض قيود طويلة المدى على برنامجها النووي الذي يشتبه الغرب بأنه يهدف إلى صنع قنبلة ذرية. وقال الدبلوماسيون الذين أداروا المفاوضات إن إيران قبلت بخطة تقضي بعودة سريعة للعقوبات خلال 65 يوما إذا لم تلتزم باتفاقها مع القوى العالمية الست للحد من برنامجها النووي.
في تلك الفترة، كانت إيران، تفاوض بيد وتحرك باليد الأخرى أذرعها التخريبية في الشرق الأوسط لتوسيع نفوذها. لكن كان تركيز المجموعة الدولية منصبّا على توقيع الاتفاق النووي بأي ثمن.
بعد توقيع الاتفاق، ومنذ الأيام الأولى لرفع العقوبات، سارعت الدول الموقّعة إلى عقد الصفقات الاقتصادية مع إيران. وتبدو هذه الصفقات هي السبب الرئيسي وراء قلق الدول الأوروبية من قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي، الذي هدّد خلال الحملة الانتخابية بتمزيقه.
لكن اليوم تبدو فرضية تمزيق الاتفاق بعيدة عن التحقق، فالزمن تغيّر، وكما يقول مايكل سينغ المدير الإداري لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، “سواء شئنا أم أبينا، لا يمكننا الرجوع في الزمن بسهولة. ويجب أن تتخذ كل سياسة واقعية تجاه إيران هذا الواقع كنقطة انطلاق لها”. وحتى الدول التي عارضت الاتفاق النووي في البداية ترى اليوم أنه لا يمكن إلغاؤه، وهي خطوة يمكن أن تستفيد منها إيران، بتحويلها إلى “مظلومية” تدعم خطابها بشأن استهداف الغرب لها.
وبإمكان ترامب الاستفادة إلى أبعد الحدود من الاتفاق، ويقلب الطاولة على مساعي إيران. وإذا كانت فكرة انسحاب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني ترعب الأوروبيين، فإن الفكرة في حد ذاتها تشكل مصدر استفادة لترامب. ويفسر مارك دوبويتس، الرئيس التنفيذي لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، إن قلق الأوروبيين من انسحاب ترامب من الاتفاق النووي يتيح مساحة محتملة لمعالجة الأخطاء القاتلة في اتفاق باراك أوباما النووي، ولكسر الشلل الذي اعترى سياسة واشنطن تجاه طهران في السنوات الثماني الأخيرة”، فيما يذهب مايكل سينغ إلى حد رفض أن تتحمل الولايات المتحدة مسؤولية التصدي للتهديدات الإيرانية وحدها في حين تتمتع أوروبا بمنافع الاتفاق.
إستراتجية جديدة
تعكف الإدارة الأميركية في المرحلة الحالية على وضع إستراتيجية جديدة لمواجهة الأنشطة الإقليمية الإيرانية، من خلال اتخاذ تدابير سياسية وعسكرية واقتصادية لفرض قيود على دعم طهران للميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية الموجودة في بعض دول الأزمات، مثل اليمن والعراق وسوريا.
تهدف الإستراتيجية إلى محاصرة الأنشطة التي يقوم بها الحرس الثوري والرد على استفزازاته المتكررة للقطع البحرية الأميركية في مياه الخليج
وتهدف الإستراتيجية إلى محاصرة الأنشطة التي يقوم بها الحرس الثوري والرد على استفزازاته المتكررة للقطع البحرية الأميركية في مياه الخليج، وكبح جماح برنامج الصواريخ الباليستية. ويقود كل من وزير الدفاع جيمس ماتيس ووزير الخارجية ريكس تيلرسون، مع مستشار الأمن القومي اتش آر ماكماستر فريق إعداد تلك الإستراتيجية الجديدة التي تنتظر قرار الرئيس ترامب.
يشير الإعلان عن هذه الإستراتيجية مع اقتراب موعد عرض التقرير الأميركي بخصوص مدى التزام إيران بالاتفاق النووي، إلى وجود اتجاه داخل الإدارة الأميركية يعارض إقدام ترامب على اتخاذ خطوات قد تعرقل استمرار العمل بالاتفاق النووي، وهو ما دفعه إلى منح الأولوية لمحاربة التمدد الإيراني في المنطقة.
وعبّر تيلرسون، الذي سبق أن أقرّ في بداية أغسطس الماضي بخلافه مع الرئيس ترامب حول الاتفاق النووي، عن هذه الرؤية بقوله إن “إدارة ترامب تستكمل إستراتيجية للتعامل مع إيران”، مجددا الحديث على “ضرورة مواجهة التهديد الأوسع الذي تشكله لا الاقتصار على قدراتها النووية”.
ويستند هذا الاتجاه في تبرير موقفه إلى اعتبارين: أولهما، أن إيران ما زالت ملتزمة بتطبيق الجوانب الفنية في الاتفاق، وهو ما اعترفت به واشنطن نفسها، في 18 يوليو 2017، وأكدت عليه الوكالة الدولية للطاقة الذرية في أكثر من مناسبة كان آخرها في 11 سبتمبر الجاري. وثانيهما، أن القوى الدولية والإقليمية المعنية بتداعيات الاتفاق ما زالت حريصة على استمرار العمل به رغم التحفظات العديدة التي تبديها تجاهه.
وهنا، فإن تركيز ترامب على انتهاك طهران لـ”روح الاتفاق” وتهديده بأن “واشنطن لن تقبل ما تقوم به طهران”، لن يحظى بدعم من جانب تلك القوى التي تحاول تجاوز الانتهاكات التي تمارسها إيران، خاصة في ما يتعلق بإجراء المزيد من التجارب الخاصة بالصواريخ الباليستية.
من المتوقع أن يزيد اتجاه واشنطن إلى اتباع الإستراتيجية الجديدة من حدة الضغوط الإقليمية المفروضة على إيران لأنها ستضيق من هامش الخيارات المتاحة أمام الأخيرة في سبيل تقديم المزيد من الدعم للتنظيمات المسلحة والإرهابية في المنطقة، والذي بات يحظى باهتمام من جانب قوى إقليمية ودولية عديدة.
كما أنها سوف تلقي الضوء على الانتهاكات المستمرة التي ترتكبها إيران ضد قرارات مجلس الأمن، خاصة في ما يتعلق بدعمها للمتمردين الحوثيين في اليمن، الذي كشف عنه ضبط العديد من شحنات الأسلحة الإيرانية من قبل التحالف العربي والبعض من القطع البحرية الأجنبية الموجودة بالقرب من المياه اليمنية.
لكن، قد تواجه تلك المهمة إشكاليات أو عقبات عديدة، لأن واشنطن تمنح الأولوية لمحاربة تنظيم داعش في كل من سوريا والعراق، وما زالت اتجاهات أميركية عديدة تحذر من إمكانية أن يفرض العمل على كبح تدخلات إيران تداعيات غير مقصودة قد يستفيد منها التنظيم، فيما يذهب مايكل سينغ، المدير الإداري لمعهد واشنطن، إلى التأكيد على أنه رغم جدية طرح تيلرسون وصحّته إلا أنه “نسي نقطةً هامة وهي أنه من دون مقاربة مستقرة تجاه الاتفاق النووي، سوف تتسبب الأسئلة المطروحة حول مصير الاتفاق في تشتيت الدبلوماسية الأميركية الأوسع تجاه إيران، وتجاه القضايا الحاسمة الأخرى في الشرق الأوسط وعرقلتها في النهاية”.
عززت سياسة قطر مساعي إيران لتكريس تدخلها في دول الأزمات، وسهلت أيضا الصفقات التي أبرمها حلفاء إيران مع بعض التنظيمات الإرهابية في سوريا
ولن تتوانى طهران عن استخدام الخيارات المتاحة أمامها لمواجهة التحركات الأميركية المحتملة، حتى لو اقتضى ذلك توسيع نطاق التفاهم مع التنظيمات الإرهابية التي تحاربها واشنطن، وفي مقدمتها داعش، الذي راجت معلومات كثيرة حول قيام إيران بالتنسيق معه مبكرا في العراق.
محور أنقرة- الدوحة
من المرجح أن تواجه تلك الإستراتيجية إشكالية العلاقات القوية التي تؤسسها طهران مع بعض حلفاء واشنطن في المنطقة، على غرار تركيا وقطر، اللتين تبنتا سياسات ساعدت إيران في أكثر من ملف، وكان التفاهم كبيرا بينهما وطهران.
ودعمت أنقرة جهود طهران في التحايل على العقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليها قبل الوصول للاتفاق النووي، وهو ما جددت وزارة العدل الأميركية الإشارة إليه في 6 سبتمبر الجاري، ووجهت اتهامات لوزير تركي سابق ومدير سابق لأحد المصارف التركية باستخدام النظام المصرفي الأميركي في إجراء تحويلات لصالح إيران، وهو ما رد عليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتأكيد أن “تركيا لن تكون جزءا من العقوبات المفروضة على إيران”.
وعززت سياسة قطر مساعي إيران لتكريس تدخلها في دول الأزمات، وسهلت أيضا الصفقات التي أبرمها حلفاء إيران مع بعض التنظيمات الإرهابية في سوريا كجبهة فتح الشام أو جبهة النصرة، على غرار صفقة المدن الأربع التي تم التوصل إليها في أبريل 2017.
تسعى كل من أنقرة والدوحة عبر مثل هذه التصريحات إلى توجيه رسائل لأطراف عديدة، ومنها واشنطن، بأنه من الصعب مسايرتها في الضغط على طهران أو الدخول في مواجهة معها على امتداد الإقليم، وأن التحالف مع إيران سيظل مستمرا، مهما كان الثمن.
يبقى موقف روسيا متغيّرا رئيسيا في تقييم مدى إمكانية تطبيق تلك الإستراتيجية، فروسيا ما زالت تعوّل على دور إيران في سوريا رغم وجود مؤشرات تزيد من احتمالات اتساع نطاق الخلافات بينهما، خاصة في ظل التحركات التي تقوم بها إيران والميليشيات الحليفة لها على الأرض.
وترى موسكو أن النتائج التي حققها تدخلها الجوي في الصراع السوري لم تكن تتحقق دون التنسيق مع إيران وبعض الحلفاء، الذين قاموا بالدور الأكبر على الأرض.
ومع أن هذه الإستراتيجية يمكن أن تساعد في تقييد تحركات إيران، وهو ما يمكن أن يصبّ في صالح السياسة طويلة المدى التي تتبعها روسيا في سوريا، إلا أن ذلك لا يعني أن موسكو تقبل بسهولة أي توجه من جانب واشنطن يؤدي إلى توجيه ضربات قوية ومؤثرة لهذا الوجود، بشكل يفضي إلى خلط أوراقها وإرباك حساباتها في سوريا.
لكن، من المتوقع أن لا تثني هذه الإشكاليات في مجملها الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن إصراره على مواجهة أدوار إيران الضارة في المنطقة، كمدخل رئيسي لمراجعة الاتفاق النووي وتحويله من اتفاق “سيء” إلى اتفاق يضمن الحد الأقصى من تحجم دور إيران وتهديداتها.
العرب اللندنية