جرى أخذ مستوى الإهانة والعدوانية والذم الشخصي بين قادة العالم إلى منحنى متطرف جديد على يد دونالد ترامب في كلمته التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخراً. ففي إطار استخدام خطابه المفضل المليء بالوعيد، تضمنت تعليقات ترامب قوله “تتمتع الولايات المتحدة بقوة وصبر كبيرين. لكنها إذا اضطرت إلى لدفاع عن نفسها أو عن حلفائها، فلن يكون لدينا أي خيار آخر سوى تدمير كوريا الشمالية تماماً”.
هل أصبحنا فاقدي الإحساس أمام الخطابات العنيفة التي يلقيها الرئيس؟ يزعم المدافعون عنه أن كلماته لا تعكس بالضرورة السياسة الأميركية، غير أن التهديد بتدمير دولة عدد مواطنيها 25 مليون نسمة بالكامل يعكس مزيداً من الرغبة في الذهاب إلى حرب نووية. وهناك الكثير من الأميركيين الذين يحتجو
ن على رؤيته، لكن الولايات المتحدة تبدو متساهلة نسبياً بخصوص منحاه الحربي.
في الخطاب نفسه، وبدلاً من استشراف تحسن في العلاقات الأميركية-الإيرانية، أدان ترامب قيادتها من دون ترك أي مجال للدبلوماسية، وقال: “تخفي القيادة الإيرانية دكتاتورية فاسدة خلف المظهر الزائف للديمقراطية. وقد حولت بلداً ثرياً له تاريخ وثقافة غنيان إلى دولة مارقة منضبة اقتصادياً، صادراتها الرئيسية هي العنف وإراقة الدماء والفوضى”.
وفي المقابل، وبالإضافة إلى رده بشكل خاص على تهديدات ترامب بإلغاء الاتفاق النووي في العام 2015 (بين إيران ودول المجموعة 5+1)، رد الرئيس الإيراني حسن روحاني بالقول: “كان السيد ترامب عدوانياً تجاه إيران، ونحن ننتظر من السيد ترامب أن يعتذر للشعب الإيراني”.
ثمة وراء كلمات ترامب قرع طبول مألوف جداً لأي شخص قرأ أو درس أو عاش حالة حرب؛ ورأى كيف يمكن أن تتحول التهديدات والعدوانية إلى جنون وعنف. وعندما يتعلق الأمر بالحرب، هناك نموذج متكرر ولا يُقاوم، حيث يختلط الاعتقاد بالصلاح الذاتي بالقومية لصنع مزيج سُمي متفجر يعمي المناهضين للإنسانية ويحول دون رؤيتهم خصومهم.
على الرغم من أن ترامب يشير بإصبعه إلى القيادة، فإن المضمون هو أنه يجب علينا أن نخشى ونكره عدواً ليس لديه أي متسع للتسوية؛ والذي يذهب في نهاية المطاف إلى الحرب ضد شعب كامل. ومن خلال نزع الإنسانية عن قائد ما وشيطنته، يعطي الساسة أساساً عاطفياً للاعتداء على أمة.
لا يهم أي “جانب” هو الذي تقف معه. كان هذا النوع من الخطاب نفسه موجوداً في كل العالم وعلى مر التاريخ، ولدى كل المروجين للحرب خصائص متشابهة. إنهم يصعدون إلى السلطة بإدعاءات الإخلاص للسلام؛ ويتحولون بالتهديدات إلى أكباش فداء، ثم يتبنون النزاع في نهاية المطاف.
فلنتأمل هذا المقتطف من كلمة لهتلر أمام الرايخشتاغ يوم 30 كانون الثاني (يناير) 1939: “يتم تحفيز هذه الأمم الأخرى لكراهية ألمانيا والشعب اليهودي، من قبل محرضين من اليهود وغير اليهود. وبذلك، إذا حقق المهووسون بالحرب ما يهدفون إليه، سوف يوضع شعبنا في موقف سيكونون غير مستعدين له نفسياً، والذي سيفشلون بذلك في فهمه…”. “يجب على الأمة الألمانية أن تعرف من هم الرجال الذين يريدون إشعال الحرب بأي وسيلة كانت. واعتقادي أن هؤلاء الناس مخطئون في حساباتهم، لأنها بمجرد تخصيص دعاية قومية اشتراكية للرد على الهجوم، فإننا سننجح كما فعلنا داخل ألمانيا نفسها في التغلب على العدو اليهودي العالمي، من خلال القوة المُقنِعة لدعايتنا…”.
شيطنة “العدو”
صعد هتلر إلى سُدة السلطة وهو يكرر باستمرار أنه يريد السلام (حتى وقت متأخر هو العام 1939) والاستقرار الاقتصادي لألمانيا. واقتنع عدد كاف من الشعب الألماني بأنهم عانوا بسبب الأجانب المخيفين، مما جعلهم يتبنون رؤية هتلر. وكان قادراً على إقناعهم بأن “الروس” و”الأميركيين” و”الغجر البريطانيين” و”اليهود” كانوا يتآمرون على أعظم أمة على وجه الأرض.
ثم انتقل هتلر إلى مهاجمة الدول الجارة لألمانيا، مبرراً العدوان بأنه دفاع ضروري. وكان تقلبه مثالاً على الزعيم الذي يستطيع إشعال فتيل حرب مجنونة. ومن نافلة القول إن التاريخ لا يعيد نفسه فقط، وإنما زرع القادة المتعارضون على مر القرون الكراهية عبر كامل الأطياف السياسية كمقدمة للحرب.
عندما تتفجر الأزمات الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو البيئية أو تلوح كارثة في الأفق، يبدأ القادة السياسيون بمهاجمة “العدو” كلامياً -حيث يُحددون أكباش فداء مناسبين- تمهيداً للعمل العسكري. ويشكل الميل الإنساني إلى توجيه الغضب والإحباط نحو “أجانب” الأداة المفضلة للساسة الظلاميين.
على الرغم من التقدم الإنساني للمساعي الإنسانية، ما تزال تتم تغذية الناس في كل البلدان بأنماط قومية تدين سكاناً كاملين أو ثقافات كاملة باعتبارها أقل من إنسانية وتستحق العدون عليها.
ومع ذلك، هناك بين الكوريين الشماليين، والإيرانيين، والروس والإسرائيليين والفرنسيين والأميركيين -وكل القوميات بطبيعة الحال- تنوع في المنظور والمشاعر وأسلوب الحياة، والذي يتم تلخيصه غالباً بتعبيرات لغوية مؤجِّجة. وعندما يتم ضم شعوب بأكملها سوية كـ”ألمان” أو “كوبيين” أو “صينيين”… إلخ، فإن ذلك يلغي الفردية عن الأعداء المحتملين؛ وهي ضرورة للحرب؛ وبالتأكيد إذا كانت القنابل النووية ستُلقى على ملايين المدنيين.
يبدو أن ترامب يرغب في في القضاء على الـ”كوريين”. ولا يقتصر الأمر على الشمال فحسب؛ فكما في سيناريو الحرب، سوف تسحق كوريا الجنوبية، وفق كل التنبؤات، بالرد الكوري الشمالي كـ”عقاب جماعي”.
وفي تناقض مع الاستئساد الخطير لترامب (بعد أيام وحسب من كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة) أقرت الحكومة الكورية الجنوبية حزمة مساعدات إنسانية لكوريا الشمالية بقيمة 8 ملايين دولار. وبينما يصب الرئيس الأميركي الوقود على النار من مكان قصي يبعد آلاف الأميال، يفضل معظم الكوريين العثور على طريق للسلام.
إهانات مؤلمة
يقف الرئيس أمام العالم في الأمم المتحدة ويقول عن الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون: “رجل الصواريخ في مهمة انتحارية لنفسه ولنظامه”. وبعد ذلك، يوقع على أمر لوزارة الخزينة باستهداف الشركات والبنوك التي تتعامل مع كوريا الشمالية. ولا يسع المرء إلا أن يتساءل هنا: ما رد الفعل الذي يتوقعه ترامب من كيم غير التصعيد المستمر للأعمال العدائية.
في الرد الكوري الشمالي الأول على تهديدات ترامب، قال وزير الخارجية ري يونغ-هو: “ثمة مثل يقول إن القافلة تسير حتى ولو أن الكلاب تنبح”. كما رد كيم على كل من كلمة ترامب وأمره التنفيذي بتصريح عدائي، تضمن قوله: “إن العمل هو أفضل خيار للتعامل مع هذا الشخص الخرف، الذي لا يحب أن يسمع، ويقول فقط ما يريد أن يقول”.
بينما يقوم بتصعيد احتمال اندلاع حرب رئيسية، يثبت ترامب أنه أكثر شبهاً بهتلر مما يحب معظم الناس أن يعتقدوا. فهو يدعي بأنه يريد السلام، بينما يعكف على مسار إلى الحرب. وهو يظن دائماً أنه محق ويجد بسهولة آخرين ليضع اللوم عليهم. والأكثر أهمية من أي شيء آخر هو أنه من خلال التهديد بتدمير بلد بأكمله، فإن ترامب يقترح ضمناً أن ترتكب الولايات المتحدة عملية إبادة جماعية، وربما تشعل حرباً عالمية ثالثة.
ديفيد ماكس
صحيفة الغد