بعد قرابة عام على خروج تنظيم “داعش” من معقله الرئيسي في مدينة “سرت” الليبية، لا يزال يمثل خطراً على ليبيا ودول الجوار، في ظل محاولته إعادة انتشاره في الجنوب، الأمر الذي يطرح تساؤلا مهما حول استراتيجية “داعش” في تلك المرحلة، خاصة أنه تمكن أخيرا من السيطرة على الطريق الرئيسي الذي يربط بين سرت وسط البلاد، وسبها في أقصى الجنوب، من خلال قوافل المقاتلين التي تنشط في تلك المنطقة.
ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية أدركت مبكراً مخاطر إعادة انتشار التنظيم، مما دفعها إلى شن غارات جوية على معسكرات “داعش” عند أطراف مدينة سرت، في يناير 2017، كخطوة استباقية لإحباط محاولاته تجميع عناصره لاستعادة بنيانه التنظيمي، وشن هجمات إرهابية جديدة على سرت، ومدن أخرى في ليبيا.
جدير بالذكر أن حكومة الوفاق الوطني في ليبيا كانت قد أطلقت عملية عسكرية حملت اسم “البنيان المرصوص” في مايو 2016، تمكنت خلالها من استعادة مدينة سرت من قبضة “داعش”، بعد سيطرته عليها خلال عام 2015، كما تم طرد مقاتلي التنظيم من عدة مناطق أخرى في درنة وبنغازي، خلال الفترة من 2015 إلى 2017، ليبدأ مقاتلوه رحلتهم نحو الجنوب لتعويض تراجعهم وانحسارهم.
ملامح إعادة التمركز:
بعد خروج مقاتلى “داعش” من سرت مطلع ديسمبر 2016، اضطروا إلى اللجوء للوديان الصحراوية والمناطق النائية في جنوب سرت. ومع مرور الوقت، تمكنوا من إعادة تنظيم صفوفهم، والعمل على شكل مجموعات صغيرة، تتمتع بخفة الحركة، وسرعة التنقل، نظراً لاعتمادهم على التسليح الخفيف الذي يسهل الانتقال به من مكان إلى آخر.
وظهر هذا التوجه من خلال الإصدار المرئي الذي حمل عنوان “فما وهنوا لما أصابهم”، الذي نشرته وكالة أعماق، والذى يكشف عن بعض المعسكرات التدريب الخاصة بالتنظيم في الجنوب الليبي.
وتتحرك المجموعات الداعشية في المناطق غير المسيطر عليها أمنيا، التي تفصل بين قوات “البنيان المرصوص”، برئاسة فايز السراج، وقوات “الجيش الوطني”، بقيادة المشير خليفة حفتر. وقد بث التنظيم أخيرا مقطع فيديو، نشرته وكالة أعماق، يُظهر عملية انتشار لعدد من عناصره وهم ملثمون، ويستوقفون السيارات، ويقيمون الحواجز في منطقة أبو قرين بين مدن مصراتة، وسرت، والجفرة.
وقد تمكن التنظيم بعد توجهه إلى الجنوب من شن عدد من الهجمات الإرهابية، مثل الهجوم الذي استهدف بوابة للجيش الوطني تقع على مسافة 100 كيلو متر جنوب الجفرة، مما أسفر عن مقتل 12 جنديا، في أغسطس الماضي، ثم أتبعه بهجوم آخر في الشهر نفسه، فجر فيه سيارة مفخخة عند بوابة تفتيش بالنوفلية، جنوب شرق مدينة سرت.
أهداف داعشية:
يهدف تنظيم “داعش” من وراء إعادة الانتشار في الجنوب الليبي إلى تحقيق مجموعة من الأهداف تمثل الاستراتيجية التي سوف يتبناها خلال المرحلة القادمة، وذلك في إطار حرصه على استعادة حيويته التنظيمية. ويمكن تحديد أهم هذه الأهداف في الآتي:
(*) الاستفادة من المناطق الصحراوية، حيث يمثل الجنوب الليبي فرصة لتنظيم “داعش” لإعادة تشكيل قوته من جديد، نظراً لأنها مناطق صحراوية شاسعة، وصعبة التضاريس، ويصعب السيطرة عليها بشكل كامل من قبل الجيوش النظامية، وذلك من أجل بناء قواعد له، تتمتع بالحماية الطبيعية، وتمثل نقطة انطلاق لإعادة مد نفوذه إلى المناطق الاستراتيجية، خاصة المدن الساحلية. ولعل ذلك ما دفع قيادة (أفريكوم) إلى التصريح في سبتمبر الماضي بأن التنظيم يستغل المناطق غير الخاضعة للسلطة في ليبيا، وذلك لإقامة معسكرات للتدريب، وتسهيل حركة المقاتلين الأجانب.
(*) إعادة بناء الهيكل التنظيمي، حيث أصبح مقاتلو تنظيم “داعش” يعانون الشتات، بعد هزيمتهم في معقلهم الرئيسي في سرت، مما دفعهم إلى التوجه والانتشار جنوبا لإعادة بناء الهيكل التنظيمى، وخلق معاقل آمنة، تمثل قاعدة انطلاق لشن الهجمات الإرهابية، خاصة في ظل ضعف الرقابة على الحدود في الجنوب مع الجوار الإفريقي، مما يمكن التنظيم من استقدام مقاتلين مرتزقة من دارفور، وتشاد، والنيجر.
(*) استغلال الهشاشة الحدودية، إذ يهدف تنظيم “داعش” من وراء الانتشار في الجنوب إلى التمدد نحو دول الجوار عبر استغلال المناطق الحدودية مع كل من تشاد، والجزائر، والنيجر، وذلك حتى يتمكن من خلق ظهير آمن له، يمكن اللجوء إليه في وقت الأزمات، إضافة إلى رغبته في تجنيد عناصر جديدة من تلك الدول التي يمكن أن تمثل موردا بشريا بالنسبة له، لاسيما في ظل احتياجه إلى أعداد من المقاتلين تلبى احتياجاته التوسعية، ونشاطه الإرهابي، وتأمين وحماية مناطق نفوذه، خلال المرحلة القادمة.
(*) توفير مصادر التمويل، حيث يعانى تنظيم “داعش”، خلال الفترة الأخيرة، نقصا حادا في التمويل، بعد خروجه من سرت وبعض المناطق الساحلية، التى كان يستفيد منها في تهريب البشر (الهجرة غير الشرعية). لذا، يرغب التنظيم – من ناحية – في تعويض ذلك من خلال إعادة الانتشار في جنوب ليبيا، لأن ذلك سيسمح له بالعمل في مجال التهريب عبر الحدود، مثل تهريب السلع والبضائع، والأدخنة، والمشتقات النفطية، والمخدرات، وهو ما قد يوفر له موارد مالية جيدة، تمكنه من الإنفاق على نشاطه الإرهابي، ومن ناحية أخرى عدم ترك التجارة الحدودية لغريمه، تنظيم القاعدة، الذي يجنى أموالا طائلة من عمليات التهريب عبر الحدود.
أخيرا، بالرغم من حالة التفاؤل الذى أعقب هزيمة تنظيم “داعش” في سرت، فإن خطر التنظيم لا يزال قائما، في ظل التحركات المستمرة لعناصره في الجنوب بشكل غير مسبوق، مستغلًا استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي، وغياب سلطة مركزية قوية قادرة على بسط نفوذها على كامل البلاد، مما يشير إلى رغبته في استعادة نفوذه، الأمر الذي يفرض ضرورة التعامل مع ذلك الانتشار، ومنعه بكل الوسائل، قبل أن يستفحل خطر التنظيم، ويهدد كل دول المنطقة.
علي بكر
مجلة السياسة الدولية