بغض النظر عن الموقف تجاه الإيديولوجية التي قامت عليها “ثورة أكتوبر”، وتقييم طبيعة الحكم الذي أقامته، فقد استطاعت روسيا بنتيجتها أن تقف على رأس معسكر سياسي واقتصادي وإيديولوجي منافس لمعسكر الرأسمالية سبعة عقود، بل أن تشكل تهديدًا حقيقيًا له، ما مكّنها من أن تترك آثارًا كبيرةً في صياغة النظام السياسي والاجتماعي العالمي من قبل وحتى اليوم. فالعالم 1991 اختلف كثيرًا عن العالم 1917، وبالطبع، ليس بتأثير ثورة أكتوبر وحدها، لكنها لعبت الدور الرئيس فيه، فقد كانت سمة العصر بعد 1917 هي الصراع بين النظامين والمعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. وتحاول هذه السطور تلمس بعض تأثيراتها.
بعد قيام هذه الثورة، وعلى صعيد الأنظمة في الدول الرأسمالية الغربية، وخصوصا في أوروبا، نمت التيارات السياسية المنتظِمَة في أحزاب اجتماعية تتبنى توجهاتٍ تركّز على العدالة الاجتماعية في توزيع الدخل والثروة، وعلى حقوق المشتغلين في مواجهة رأس المال، كما شهدت الحركة النقابية قوة دفع جديدة، وجرأةً في رفع مطالبها ضمن مناخٍ مشجّع أحدثته تلك الثورة. وبالتالي، كان لها أثر حاسم في حصول المشتغلين على أجور وحقوق عمل أفضل، كما دفعت أنظمة رأسمالية عديدة إلى أن تقدم التعليم المجاني، وتؤمن عبر أشكال من التأمين خدمات صحية للجميع، بغض النظر عن مستويات الدخل، ما أخرج تلك المجتمعات من استقطاباتها السابقة، حيث كان من لا يملك مالاً يكاد يحرم من التعليم والصحة والسكن.
على صعيد دول العالم الثالث، ساند ذلك المعسكر حركات التحرر الداعية إلى الاستقلال من الاستعمار، بل وقدم لها الدعم بالسلاح إلى جانب دعمها الإعلامي والسياسي، وفي أروقة الأمم المتحدة. وشهد العالم موجة استقلال المستعمرات السابقة، وخصوصا بعد الحرب العالمية
الثانية، ونالت جميع الدول المستعَمَرَة (بفتح العين) استقلالها. وعلى الرغم من أن الشروط العالمية تغيرت، واقتنعت الدول الاستعمارية أنه يمكنها أن تحقق مصالحها بطرق أخرى غير مباشرة، ولكن ما أرغمها على التفكير بهذه الطريقة هو الوضع السياسي العالمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وكان أبرز تلك الظروف تحول الاتحاد السوفيتي إلى “معسكر اشتراكي/ شرقي”، ما شجّع على قيام ثوراتٍ تقاتل من أجل التحرّر من الاستعمار في بلدان عديدة، كما حرّض من أجل قيام الثورة الشيوعية في الصين، والتي كانت الثورة الروسية ملهمتها. وبالنتيجة، أصبحت الصين اليوم ثاني اقتصاد عالمي بعد الأميركي، وتجتهد لتتجاوزه، ربما خلال عقدين مقبلين. كما تحضّر نفسها لدور عسكري وسياسي أكبر في المستقبل القريب.
لعل من أبرز نتائج ثورة أكتوبر الروسية، وما جرّته خلفها من ثورات وتغيرات على الصعيد العالمي، أن دول العالم الثالث استطاعت أن تقوم بتأميم شركاتٍ استعماريةٍ، كانت تستغل خيراتها، وخصوصا في الصناعة المنجمية، وصناعة استخراج النفط والغاز. فنتيجة لهذا الوضع العالمي، قامت في سبعينيات القرن الماضي موجة من لتأميم قطاع النفط والغاز واستيلاء الدول الوطنية على القطاع، بدلاً من الشركات التي استولت على هذا القطاع في فترات الاستعمار. فأصبح عائد تلك القطاعات يصبّ، في معظمه، في خزائن الدول الوطنية، بدلًا من خزائن الشركات الاستعمارية السابقة. ولولا وجود المعسكر الاشتراكي، لما تجرأت أي دولة على تأميم هذه القطاع. فدرس حكومة مصدق في إيران 1952 كان ماثلاً أمام الجميع، حين قلبت شركة شل حكومة مصدق وأعادت الشاه، بعد أن أقدمت تلك الحكومة على تأميم قطاع النفط الإيراني عام 1952، حين كانت روسيا تلملم جراح الحرب العالمية الثانية، ولم تكن تملك القوة والتأثير الكافيين بعد، ولم يكن المعسكر الاشتراكي قد اكتسب قوة كبيرة بعد.
لقد دفعت الثورة الروسية مفاهيم المساواة بين البشر ضمن المجتمع الواحد، وبين مجتمعات الأرض، بغض النظر عن اللون والجنس والقومية والدين (فالأمير والفقير، الأسود والأبيض جميعهم ولدوا بالطريقة نفسها والأدوات نفسها). كما وضعت الثورة الروسية حقوق المرأة على برنامج الأحزاب والقوى المجتمعية، وبالتالي نالت المرأة كثيرا من حقوقها.
على صعيد الفن والأدب والسينما، حرضت الثورة الروسية، وما أحدثته وراءها من تغييرات، تيارًا إنسانيًا مهيمنًا يدعم العدالة، ويدعم قضايا الشعوب، ويعد الدور الروسي الحاسم في هزيمة النازية وبروز المعسكر الاشتراكي، محفزا لنشوء تيار يساري جارف، ضم روائيين وشعراء وسينمائيين ومفكرين ومثقفين كباراً على مستوى العالم، وأصبح الفكر الماركسي الأبرز عقودا، وخصوصا بين خمسينيات القرن العشرين وسبعينياته. ولم يكن هذا التيار بتلك القوة قبل الثورة الروسية، وبدأ بالتراجع بعد سقوطها.
بالقطع، لا يمكن أن ننسب كل ما حققته البشرية في القرن العشرين للثورة الروسية. ولكن، لا يمكن إنكار الدور الكبير والحاسم الذي لعبته، وهو الدور الذي لم يدرس بعد. فما ساعد الثورة الروسية على إطلاق كل هذا التحولات العالمية أنها لم تأت حدثًا منفردًا من فراغ، بل كانت نتاج حركة ثورية بدأت بالنمو والتصاعد في الدول الأكثر تطورًا في أوروبا الغربية والعالم حينذاك، منذ منتصف القرن التاسع عشر، وتبلورت في اتجاهات ونتاجات فكرية وتنظيمات سياسية قوية، انتظمت أحزابها في منظمات أممية، وتعد “الاشتراكية الدولية” استمرارًا لتلك النهضة الثورية، بغض النظر عن التحولات الأيديولوجية والفكرية والسياسية والتنظيمية لهذه الحركة، وهي حركة تضم اليوم أكثر من 160 حزبًا في القارات الخمس.
ولا أدل على الدور الذي لعبته الثورة الروسية من أن ضعف المعسكر الاشتراكي الذي بدأ بالبروز منذ سبعينيات القرن العشرين، ثم انهياره في نهاية ثمانينياته، قد حرّض موجةً من
العودة إلى ليبرالية متوحشة، تمنح كل شيء لرأس المال، ولا شيء للمشتغلين إن استطاعت، وبدأت الرأسمالية تسترد تلك الامتيازات التي اضطرت لمنحها من قبل. ولكن أفكار المساواة والعدالة التي ترسخت في ثقافة الناس، والنظام السياسي الديمقراطي الذي يجعل أصوات الناس تَرفَعْ الحكام إلى سدة الحكم تشكل اليوم درعًا واقيًا في مواجهة الهجوم المستمر لتقليص مكاسب المشتغلين، من أجل زيادة حصص أصحاب الربح في الثروة والدخل وتوزيعهما. ولكن لم تستطع العودة إلى ما كان عليه الوضع قبل الثورة الروسية، فقد أصبح هذا جزءًا من ثقافةِ تلك المجتمعات ومعتقداتها الراسخة التي لا تستطيع قوى الرأسمال النيل منها أكثر.
لقد مثلت الثورة الروسية التجربة الكبرى الأولى التي تبيّن أن في الوسع إيجاد نظام سياسي اقتصادي اجتماعي بديل للنظام القائم على الملكية الخاصة الكبيرة الاحتكارية لوسائل الإنتاج والقائم على تقديس الربح. وإن فشلت تلك التجربة، فإنها تبقى، كأي تجربة فاشلة، مقدمة لمحاولات أخرى، تتجنب أخطاءها وتبني على ما قدمته من دلالات إيجابية.
الدرس الأهم في نتائج قيام الثورة الروسية، والدور الذي لعبته سبعة قرون، هو أهمية التعدّدية القطبية في العالم من أجل التخفيف من آثار الاحتكار السياسي والعسكري على الصعيد العالمي، وتغول القوة العظمى الأوحد، أيا كانت هذه القوة. والخشية اليوم أن يؤدي صعود الصين إلى الترويج مرة أخرى للنموذج الشمولي السياسي الذي يقمع الحريات العامة وحقوق الإنسان والحقوق الاجتماعية أيضاً، على الرغم من أن النظام الصيني اليوم أقل شموليةً وتشددًا من نظام ماو تسي تونغ، وأكثر انفتاحًا، وخصوصا على الصعيد الاقتصادي. ولكن الأثر السلبي ما يزال ماثلاً مع صعود الدور الصيني.
نعم ولكن…
لن يكون استنتاجنا هو التعلّق بوهم عودة ثورة أكتوبر الروسية، أو ما يماثلها، فالنظام الذي أقامته سقط، وسقط لأنه فشل، وفشل لأن عيوبه، مع استمرار الوقت، زادت عن نقاط قوته، فخسر الرهان مع الرأسمالية.
كان من سوء طالع الثورة الاشتراكية أنها قامت في روسيا الأقل تطورًا صناعياً وذات التاريخ الاستبدادي المديد. وكان لينين ورفاقه يعتقدون أن ثورتهم ستكون “الصاعق” الذي يفجر قنبلة
الثورة الكامنة في بلدان أوروبا الغربية. وفعلاً قامت الثورة في ألمانيا في 1918، وأدت إلى قلب السلطة الألمانية في أغسطس/ آب 1919 وقيام “جمهورية فايمر”، لكن هذه الجمهورية لم تأخذ منحى راديكاليًا كالثورة الروسية، ثم تم وأدها في 1923، وبقيت الثورة الروسية وحيدةً حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد كان هذا، إضافة إلى الهجوم العسكري على الثورة من دول أوروبا الغربية، ثم الحصار الذي فرضته عليها تلك الدول، وإضافة إلى بذور الاستبداد في أفكار ماركس ولينين. وقد دفعت جميع هذه العوامل ثورة أكتوبر إلى التشكل في نظام سياسي شمولي مستبد، كَتَمَ أنفاس الناس، ومكّن جهاز الأمن من رقابهم، وإقامة دولةٍ متغولةٍ التهمت كل شيء، عكس أفكار ماركس الذي تحدث عن اضمحلال الدولة جهازا طبقيا، وأقامت سلطة الحزب الواحد بدلًا من سلطة الشعب “السوفييتات” التي كانت شكلية، فقد التهم النظام فردية الإنسان وحريات الناس وكراماتهم، فقتل قدراتهم الإبداعية.
على الصعيد النظري، أثبتت التجربة السوفييتية أن الإدارة المركزية الصارمة، والدولة الشمولية، هي نموذج فاشل اقتصاديًا، إذ يقتل قدرات الاقتصاد الإنتاجية، خصوصا أن الثورة الروسية ونموذجها السوفييتي قد تبنّى فكرة بالية عن دور التكنولوجيا ودور قطاعات الخدمات، وصاغ فهمًا خاطئًا لقيمة العمل الذهني، ودور الاستهلاك في تحفيز الإنتاج وتطويره، فتراجعت قدراته الاقتصادية منذ سبعينيات القرن العشرين.
لأنه صلب وجامد، فَقَدَ النظام السوفييتي قدرته على التغيير، ويبدو أنه قد فرّخ بيروقراطية معادية للتغيير أكثر مما أنتج قوى مؤيدة له، فأجهض أي توجه نحو التغيير الذي بدأ مع فترة خروشوف في المؤتمر الـ 20 للحزب الشيوعي السوفييتي، بعد وفاة ستالين 1953، ولكن البيروقراطية الروسية قيّدت قدرات خروشوف على التغيير، ثم أزاحته سنة 1964 وورثه البيروقراطي بريجينيف الذي بقي في منصبه حتى بلغ من العمر أرذله، وتوفي في عام 1983. وعندما حاول غورباتشوف الإصلاح مع البيروسترويكا بعد 1985، كان الوقت متأخرا من جهة، وارتكب الخطأ القاتل، حين أراد الإصلاح دفعةً واحدةً، والانتقال من النظام السوفييتي الشمولي إلى نظام ليبيرالي غربي بين ليلة وضحاها، فانقلب النظام القديم برمته، وحل محله نظام مافيوي فاسد، نهب روسيا وخيراتها، وما زالت امتداداته مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حتى اليوم. وهو عكس ما فعلته الصين مع دينغ تشاو بينغ منذ 1978 التي اتخذت منهجًا تدريجيًا في التغيير لم يتوقف حتى اليوم.
لكن التاريخ لا يتوقف هنا ولا ينتهي، فليس له نهاية، وستبقى البشرية تضع نصب عينيها القضايا الكبرى التي تحتاج إلى حلها من أجل حياةٍ أفضل، ولا يوجد من هو أكبر وأعرض من قضية تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة بعدل، و”ربط حصة الفرد من الدخل بمقدار مساهمته في إنتاجه” ربطًا عادلا. ولكن، لن يتم هذا الربط من سلطة يفرضها نظام انقلابي شمولي، يأتي عبر ثورة عنيفة أو انقلاب عسكري، بل عبر صناديق الاقتراع في نظام ديمقراطي، يختار فيه الناس بدائل ممكنة، ويدعمون خيارات اقتصادية وسياسية واجتماعية، تتم صياغتها عبر المزج بين التجريب وصياغة نماذج نظرية جديدة، تهدف إلى تحقيق الديمقراطية الاقتصادية، لتقترن بالديمقراطية الاجتماعية، على الرغم من أن مثل هذه التجارب والتنظيرات ما تزال ضعيفة ومشتتة، ولكنها واعدة.