خلال السنوات الأخيرة سعت تركيا بقوة لتصبح لاعبا إقليميا ودوليا في مجال الطاقة عبر تقديم نفسها كموقع استراتيجي لمرور خطوط الطاقة العالمية بين الشرق والغرب، في مسعى لتعزيز مكانتها عالمياً ودعم اقتصادها وتنويع مصادر حصولها على الطاقة لا سيما وأنها تعتبر دولة «فقيرة» بمصادرها وتستورد الغاز الطبيعي والبترول بكميات كبيرة من الخارج.
هذه المساعي تركزت في الأشهر الأخيرة حول إمكانية المشاركة في إنشاء خط لنقل الغاز الطبيعي المكتشف في السنوات الأخيرة مقابل سواحل إسرائيل ومصر ولبنان إلى أوروبا مروراً بالأراضي التركية، وهو ما اعتبر أحد أبرز أسباب قرار أنقرة إعادة تطبيع العلاقات مع إسرائيل والتي كانت مقطوعة منذ سنوات طويلة على خلفية مقتل المتضامنين الأتراك على سفينة مافي مرمرة مقابل سواحل غزة.
وعقب تطبيع العلاقات بين أنقرة وتل أبيب العام الماضي، ورغم عدم حصول تقارب، إلا أن اللقاءات تركزت بين وزيري الطاقة ومسؤولي الوزارة في البلدين وجرت مفاوضات فعلية من أجل إيصال الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا من خلال الأراضي التركية.
وكانت المباحثات بين إسرائيل وعدد من الدول الأوروبية تركزت حول مقترحين لإنشاء خط تحت الماء لنقل الغاز الإسرائيلي للقارة الأوروبية، الأول بناء خط أنابيب من إسرائيل إلى تركيا يمر مقابل المياه اللبنانية والسورية، والثاني تمحور حول خط يصل من إسرائيل إلى قبرص اليونانية ومنها إلى أوروبا، وسط ترجيحات سابقة بالتوافق على مرور الخط من الأراضي التركية بسبب الخلافات التركية اليونانية حول قبرص.
لكن وبشكل مفاجئ، وقعت قبرص واليونان وإسرائيل وايطاليا، الثلاثاء، بروتوكول اتفاق لبناء أنبوب لنقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا، يعتبر الأطول في العالم تحت الماء، حيث من المقرر أن يمتد الأنبوب من حقل ليفياتان قبالة الشواطئ الإسرائيلية إلى افرودايت قبالة قبرص وإلى كريت ثم إلى اليونان وايطاليا.
وقالت الدول الموقعة إن «المشروع سيؤمن وسيلة مباشرة وطويلة الأمد لتصدير الغاز من إسرائيل وقبرص إلى اليونان وايطاليا وأسواق أوروبية أخرى، وسيعزز أمن تموين الغاز إلى الاتحاد الأوروبي» حيث يبلغ طول الأنبوب نحو ألفي كيلومتر على أن تبلغ تكلفته نحو خمسة مليارات يورو، وسيخصص لنقل الغاز الذي تم اكتشافه مؤخرا قبالة الشواطئ القبرصية والإسرائيلية إلى أوروبا.
وعلى الرغم من عدم وجود تصريحات تركية حول الاتفاقية الجديدة بعد، إلا أن المؤكد حتى الآن أن أنقرة باتت ليست طرفاً في خط نقل الغاز من الشرق إلى الغرب وهو ما يمثل تراجعاً في رؤية الحكومة التركية أن تصبح مركزاً استراتيجياً لخطوط الطاقة في المنطقة والعالم.
وعلى الرغم من أن الاتفاقية ليست وليدة الأسابيع الأخيرة، إلا أنها تأتي في ظل تصاعد الخلافات بين تركيا والغرب بشكل عام وتهديدات أردوغان الأخيرة بشأن احتمال قطع العلاقات مع إسرائيل في حال اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو ما يفسر رغبة إسرائيل والغرب تجنب مرور الخط من تركيا لعدم الوقوع في دائرة من الضغوطات التركية.
لكن الأخطر من ذلك بالنسبة لتركيا التي خسرت فرصة لعب دور مهم في مشروع نقل الغاز من الشرق إلى الغرب، هو الجانب المتعلق بتصدير الغاز الطبيعي المكتشف أمام سواحل قبرص اليونانية وهو ما تعارضه أنقرة بقوة وكان سبباً في خلافات سياسية حادة مع اليونان كادت تنزلق إلى مواجهة عسكرية في كثير من الأحيان.
وبينما تسعى قبرص اليونانية بدعم من أثينا إلى مواصلة جهود التنقيب عن الغاز الطبيعي واستغلال الكميات المستخرجة وتصديرها إلى الخارج، تعارض أنقرة بشدة هذه الجهود وتعتبرها انتهاكاً لحقوق القبارصة الأتراك، وتصف هذه الخطوة بـ»الخطيرة» وألمحت إلى إمكانية العمل على منعها عسكرياً.
وسبق أن أرسلت تركيا قطعاً بحرية عسكرية لمراقبة وإعاقة عمل سفن التنقيب عن الغاز، في حين تتكرر بشكل شبه يومي المناوشات بين السفن الحربية التركية واليونانية قرب قبرص المنقسمة منذ عام 1974 والجزر اليونانية في بحر مرمرة، الأمر الذي يزيد المخاوف من أن تؤدي إحدى هذه المناوشات إلى اشتباك يمكن أن يتطور إلى مسلح بين الجانبين.
كما تبدي تركياً قلقاً غير معلن للتعاون المتسارع بين مصر وقبرص واليونان، حيث جرى نهاية الشهر الماضي اجتـــماع بين الرئــيس المـصــري عبد الفــتـــاح السيسي ونظــــيره القبــرصي ورئيس الوزراء اليوناني في نيقوسيا وتم الاتفاق على «توسيع نطاق التعاون الاستراتيجي في مجال الطاقة» بين الدول الثلاث.
بالإضافة إلى ذلك، تهدف أوروبا من وراء الشروع في استيراد الغاز من إسرائيل واليونان وربما مصر لاحقاً إلى تخفيف الاعتماد على الغاز الروسي وهو ما قد يؤدي لاحقاً إلى تقليل أهمية مشروع السيل الغربي الذي تطمح تركيا إلى دخوله الخدمة لاحقاً عقب إتمام خط السيل التركي الذي سينقل الغاز من روسيا إلى تركيا ولاحقاً إلى أوروبا في حال اكتمال المشروع.
إسماعيل جمال
صحيفة القدس العربي