أضرّ انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من النووي الإيراني يوم 8 مايو/أيار الجاري، بالإضافة إلى العواقب الوخيمة المحتملة على الاستقرار في الشرق الأوسط، بعلاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين.
عملت كلٌّ من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة مع إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لمقايضة الاتفاق النووي الإيراني الذي أقرته الأمم المتحدة عام 2015.
والآن، يتوجّب على الدول الثلاث الموقعة أن تجد طريقة لإنقاذ الاتفاق ومواصلة العمل مع الرئيس الأميركي الذي يواجههم بالازدراء في أغلب الأحيان.
وباعتباري باحثاً في العلاقات عبر الأطلسية، ومُتابعاً للاتفاق النووي لسنوات، فأنا أشك بصراحة في قدرة أوروبا على النجاح في أيٍّ من الأمرين.
مفاوضات اللحظة الأخيرة
حاولت المملكة وفرنسا وألمانيا باستماتة إقناع أميركا بعدم الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، الذي يُعدّ إنجازا بارزا للسياسة الخارجية الأوروبية التي استغرقت عقدا من الجهود الدبلوماسية المضنية لإقراره.
بدأ كبار المسؤولين الأوروبيين في يناير/كانون الثاني الماضي بعقد اجتماعات منتظمة مع نظرائهم الأميركيين للبحث ومعالجة اعتراضات ترامب التي تهدف إلى منع إيران من تطوير أسلحتها النووية.
اعترض ترامب منذ حملته الرئاسية في 2016 على القيود الموجودة في الاتفاق والتي تضاءلت بمرور الزمن، ودان برنامج الصواريخ البالستية الإيرانية، كما انتقد سلوك إيران العدواني بشكل عام في الشرق الأوسط.
ومن وجهة نظر أوروبا، لا يزال النووي قائما. فقد أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن طهران قد التزمت بشروط الاتفاق، إذ إنها أوقفت عمليات تخصيب اليورانيوم، ورضخت للرقابة الدولية على أرضها.
وقد طلبت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي من الكونغرس الأميركي في يناير/كانون الثاني الماضي الاستمرار في النووي. وفي أواخر أبريل/نيسان المنصرم سافر كلٌّ من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى واشنطن شخصيا لحثّ ترامب على عدم التخلي عنه. لكن جهودهم لم تُجدِ نفعا.
كيف ننقذ الاتفاق؟
يحاول الموقّعون المتبقون -وهم روسيا والصين والدول الأوروبية الثلاث- القيام بجهود دبلوماسية مرتبكة وعاجلة لمحاولة إنقاذ اتفاقهم.
إذ يُهدّد الانسحاب الأميركي بإلغائه بسبب القوة الاقتصادية الهائلة للبلاد. وقد تجعل تهديدات ترامب بفرض “أعلى مستوى من العقوبات”، التي تستهدف كل من إيران والدول التي تنخرط بأعمال تجارية فيها، غير قابلة للتنفيذ بكل بساطة.
يشبه النووي في الأساس عملية مقايضة شيء بشيء. فقد رفعت الدول الموقعة على العقوبات وأعطت لإيران فرصا اقتصادية مأمولة، مقابل تقليصها برنامجها النووي.
وإذا لم تستطع القوى الأوروبية العظمى تقديم فوائد اقتصادية حقيقية، فقد تُعلن إيران إلغاء الاتفاق.
وإذا ما حدث هذا، يُرجّح أن تستأنف إيران عملية تخصيب اليورانيوم. ويقول محلّلون إن تلك الخطوة قد تؤدي إلى زيادة العنف في منطقة الشرق الأوسط المضطربة بالفعل، هذه المنطقة التي تقع على بعدٍ يسيرٍ من أوروبا الجنوبية.
حماية المصالح التجارية الأوروبية
أعطى البيت الأبيض، بالإضافة إلى إعادة فرض العقوبات على إيران، مهلة 180 يوما للشركات الأجنبية العاملة في إيران لإنهاء أعمالها هناك، وإلا ستواجه حرماناً من الاستمرار في النظام المصرفي والمالي الأميركي.
يُمكن أن تؤثّر تلك التدابير تأثيرا كبيرا على العديد من الشركات الأوروبية الكبيرة بشكل خاص. فقد وقّعت شركة النفط الفرنسية توتال (Total) وشركة سيمنز (Siemens) الصناعية الألمانية، على سبيل المثال لا الحصر، مؤخرا عقودا رئيسية في إيران. قد يكون بمقدور الشركتين التقدم بالتماس إلى حكومة الولايات المتحدة للحصول على استثناءات خاصة.
سيكون أحد الخيارات لحماية الشركات الأوروبية من العقوبات الأميركية هو إعادة تفعيل وتعديل لائحة الحظر التي أقرّها الاتحاد الأوروبي عام 1996. مُرّر هذا القانون عندما فرضت الولايات عقوبات على إيران وليبيا، إذ حمى الشركات الأوروبية من العقوبات الأميركية الثانوية عن طريق إعلان عقوبات غير قابلة للتنفيذ ضمن الاتحاد.
ويُمكن أن ينظر البنك للاستثمار في توفير تمويل خطوط ائتمان للشركات الأصغر -تلك التي لا تملك حصة في السّوق الأميركية- لخلق بيئة أكثر أمانا واستقرارا للتعامل مع إيران.
ويعتبر أكثر الخيارات الانتقامية تطرفا هو فرض الاتحاد عقوبات على الأصول الأميركية في أوروبا.
وكما صرح مدير الأبحاث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية جيريمي شابيرو مؤخرا لصحيفة نيويورك تايمز بأنه لا يتوجب على أوروبا الآن اتخاذ قرار بشأن “ما إذا كانت ستستمر في الاتفاق، بل ما إذا كانت ستصمد أمام جهود الولايات المتحدة الساعية إلى الإطاحة به”.
ما الذي ينتظر العلاقات عبر الأطلسي؟
في النهاية، أعتقد أن الشركات الأوروبية ستكون حذرة من المجازفة بالتعرض للعقوبات الأميركية. فقد ازدادت التجارة مع إيران بسرعة منذ تفعيلها في عام 2016، لكنها لا تتعدى 1% من التجارة الأوروبية مع دول العالم.
وتُعدّ أميركا الشريك التجاري الأكبر لأوروبا، إذ تشكّل معاملاتها التجارية ما تقرب نسبته من 17% من إجمالي التجارة.
وبصرف النظر عن الدبلوماسية، ومن الناحية التجارية البحتة، تدرك فرنسا وألمانيا وبريطانيا أن بمقدور أميركا أن تحرمهم من أشياء تفوق ما تمنحهم إيّاه إيران.
وهكذا نجد أن ماكرون وميركل وماي يواجهون معضلة، إذ كيف يحافظون على علاقاتهم بالرئيس الأميركي الذي أظهر لتوّه مدى استخفافه بهم.
يُعدّ انسحاب ترامب من النووي آخر حلقة من سلسلة توبيخ أوروبا. فمنذ توليه الرئاسة، نقل ترامب السّفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس -وهو ما عارضته أوروبا- وانسحب من اتفاقية باريس للمناخ. ويريد أيضا أن يفرض ضرائب جمركية على واردات أوروبا من الصلب والألومنيوم.
قد يُخفّف القادة الأوروبيون من حدة النزاع عن طريق استرضاء ترامب، والانتظار حتى تنتهي ولاية رئاسته.
ولا تزال أوروبا معتمدة على أميركا لحماية أمنها. وعلى أي حال، سيكون من الصعب الحصول على موافقة أعضاء الاتحاد الـ 28 باتخاذ إجراءات عقابية ضد الولايات المتحدة.
وفي الوقت نفسه، يُمكن أن تُلحق سياسة “أميركا أولا” التي يتبنّاها ترامب ضررا كبيرا بالنظام الدولي المتعدد الأقطاب، الذي تُعدّ أوروبا جزءا منه.
وفي أغلب ظنّي، ستُصبح العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا أكثر فأكثر علاقة زواج بلا حب.
سوف يتعاون هؤلاء الحلفاء القدامى على أساس المعاملات في المجالات ذات الاهتمام المشترك مثل مكافحة الإرهاب والتجارة. لكنَّ الرؤية المشتركة للعالم التي ميّزت هذه الشراكة منذ الحرب العالمية الثانية من الممكن جدا أن تنتهي.
المصدر : الجزيرة