قد تتمثل السمة الجوهرية لدولة «سوريا الأسد» في إلحاق السياسة فيها بالسيادة داخليا، والنظر إلى الفوارق السياسية المحتملة كتهديد لـ»الجبهة الداخلية»، وإلى الخصوم السياسيين كأعداء، وإلى الخلاف في الرأي كخيانة وطنية. وهذا مرتبط بإلحاق الداخل الاجتماعي والسياسي السوري بما يفترض أنها المعركة الوطنية والقومية ضد العدو المتربص، واعتبار المجتمع، عموم السكان، جيشا رديفا، أو جبهة داخلية في هذا الصراع الوحيد.
لكن بدل أن يقود منطق المعركة والجبهة إلى حصر الحرب بالعدو المفترض، ما جرى عمليا هو استدخال الحرب وتحكيمها في أي منازعات سياسية داخلية. خصوم النظام هم عملاء للعدو أو خونة، يسحقون بعنف لا يُحد، وتحطم بيئاتهم الاجتماعية إذا حاولوا مواجهة دولة الأسد الحرب هذا بالحرب. الحد الأدنى هو الإبادة السياسية، لكن الإبادة الفيزيائية مسلك ممكن حيال من يواجهون الدولة الأسدية بأدواتها، أو يقتبسون لأنفسهم قبسا من من هذا الإكسير السيادي: العنف. وبالتزامن تقريبا مع توريد الحرب إلى الداخل، انتقل مجال المساومات والتسويات والحلول الوسط، أي السياسة، إلى الأعداء الوطنيين، أي الأعداء السياديين، الذي صار ينظر إليهم كخصوم سياسيين، وطردت الحرب في العلاقة معهم إلى دائرة الممتنع.
وإذا كانت الولاية العامة من خصائص السيادة، إلى جانب الحرب، فقد عملت الدولة الأسدية على أن تكون لها الولاية المباشرة على آراء المحكومين واجتماعهم وتفاعلاتهم فيما بينهم، وحتى انفعالاتهم من حزن وفرح واحتفال وحداد، ما يلغي عمليا تمايز النطاقين الخاص والعام، الذي يقوم عليه الاجتماع السياسي في زماننا. وجر منطق الولاية العامة، وقد انقلب إلى استيلاء على السكان او تملك لهم، إلى عزل عموم السوريين عن العالم، وإلى النظر بعين الريبة الشديدة إلى أية تفاعلات مستقلة لهم مع منظمات خارجية، وهو ما كان يضع عموم السوريين في موقع مشابه لسكان الدول الأكثر انغلاقا في العالم من أمثال المعسكر السوفييتي السابق يوما، وكوريا الشمالية اليوم.
من باب التوضيح نذكر أن لبنان، مثلا، يعاني من المشكلة المعاكسة، توسيع منطق السياسة التعددي والتنازعي والاختلافي ليشمل دائرة السيادة الواحدة، بما في ذلك احتكار الدولة للعنف، على نحو يجد تجسيده الصارخ في تنظيم حزب الله المسلح. هذا الحزب لا يشارك في امتلاك خاصية سيادية واحدة، الحرب، إنما هو يمثل شِرْكا في السيادة من وجهة كونه أيضا تابعا لولاية أعلى من ولاية الدولة اللبنانية، هي المركز الإيراني. لبنان لم يتمكن بعد توقف الحرب الأهلية من تنظيم التمييز بين المجالين، وهو ما ساعد فيه النظام الأسدي والنظام الإيراني، وكلاهما أميل إلى توسيع دائرة السيادة كثيرا، وتقليص دائرة السياسة، وينزعان معا إلى نقل هذه العدوى إلى ما يدور في فلكهما من دول ومنظمات.
ويقتضي الفصل بين الدائرتين التمييز بين «الخيانة» و»وجهة النظر»، إن استعرنا تقابلا شائعا، أي بين ما هو انتهاك للولاية العامة وما هو رأي شرعي لفرد أو جماعة. في لبنان هناك احتمالات قوية لاعتبار الخيانة وجهة نظر، على نحو يمثل الإفراج عن عملاء للمحتل الإسرائيلي مثل العوني فايز كرم عينة عنه. في «سوريا الأسد»، بالعكس، هناك ميل إلى اعتبار الرأي خيانة، ميل ينبع مباشرة من إلحاق السياسة بالسيادة. في لبنان كل شيء نسبي، أما في سوريا فكل شيء مطلق.
وليس استتباع السياسة للسيادة خطأ إدراكيا أو تعبيرا عن تواضع مستوى الكفاءة السياسية، وإنما هو من مقتضيات السيطرة المطلقة الدائمة. الاعتراف باستقلال دائرة السياسة عن مجال السيادة يعني الإقرار بأن الداخل السوري هو ملعب للسياسة والرأي، لا يشغل فيه أمثال حافظ وبشار الأسد غير موقع وكالة مؤقتة، قابلة للتغيير بعد حين يطول أو يقصر، لكنه محدود في كل حال.
كان محرك الثورة السورية مثل غيرها من الثورات العربية هو التطلع إلى امتلاك السياسة، لكن رُفعت في وجه الثائرين السوريين أدوات السيادة المجربة: التخوين والحرب. وهو ما قاد تدريجيا إلى منازعة الدولة الأسدية هذه الخصائص، وامتلاك الحرب والتخوين ورفعهما في وجهها. وبينما ليس هناك وجه عادل للاعتراض على محاولة السكان أو أية قطاعات منهم امتلاك الحرب كشرط لامتلاك السياسة بعد أن حاولوا امتلاك السياسة سِلْما، فإن مؤدى توسع امتلاك الحرب على هذا النحو هو الحرب المعممة، على ما نراه اليوم محققا في بلدنا.
وبفعل التعثر المديد طوال أكثر من خمسين شهرا للتحول من منطق السيادة والجيش والجبهة الداخلية والخيانة واستدخال الحرب إلى منطق السياسة والتنازع السلمي ووجهات النظر وإقصاء العنف إلى الخارج، ينفتح شرط الحرب المعممة اليوم على مواجهة سيادة بسيادة، أي على منطق حروب الدول، وفي أشكالها الأعتق. أعني منطق سحق دولة الخصم وتدمير مدنها وزرع أرضها ملحا (أو بطاطا، على ما يفضل الشبيحة الأسديون) مثل زمن الامبراطوريات القديمة، وليس فرض الإرادة عليها أو الحد من خياراتها كما في حروب الدول الحديثة.
ما كان يلزم سوريا هو وضع حد لإلحاق السياسة بالسيادة، ومأسسة هذا الحد، وليس إلحاق السيادة بالسياسة وفقا للمثال اللبناني. حصر السيادة بالدولة يوجب توسيع الملعب الداخلي، وخفض مرتبة الحكام إلى ساسة دنيويين، يعيشون من السياسة. ومن أجل أن يبقى الباب بين السيادة والسياسة مُرتَجا، فضل الأسديون فتح الباب بين السيادة والإبادة. في أصلها، السيادة حق الإبادة الذي يحوزه السيد حيال الأتباع أو المهزومين في الحرب. ومنذ تشكلت الدولة القائمة على المواطنة لم يعد في الدول أتباع أو مهزومون، صار الجميع إخوة وأخوات متساوين، لكن أحيل منطق الحرب إلى «الخارج»، وصار القتل اختصاص دولة. صحيح أنه جرى تقييد الإبادة في اتفاقات دولية معلومة، لكن لم ينقض زمن بعيد على حروب أجهزت على الملايين وعشرات الملايين، بين أمم الغرب صانعة الشرائع والمعاهدات الحديثة، وبينها وبين غيرها.
بإلحاق السياسة بالسيادة في «سوريا الأسد»، ما يجري عمليا هو اعتبار البلد ساحة حرب، والخصوم السياسيون أعداء مباحين، والاستئثار بحق الإبادة، على نحو تكرس في مذابح كبيرة وإعدامات كثيرة في الحرب الأسدية الأولى (1979- 1982) ثم على نطاق أوسع في الحرب الأسدية الثانية (2011- …). وليست المذابح الطائفية التي بدأت في بابا عمر وكرم الزيتون والحولة والقبير في حمص وما حولها، ثم في بانياس والبيضا في محافظة طرطوس، غير تحقيق لمنطق الإبادة، أي للنظر إلى الداخل بعين السيادة القاتلة، لا بعين السياسة الحافظة للحياة.
وليس بعيدا عن المذابح السيادية بحال ممارسات واستعدادات مجموعات إسلامية سلفية، في سجلها سلفا إنجازات في هذا الشأن، وتبدو طاقتها الإبادية الكامنة كبيرة على ما يشهد حديث للجولاني في قناة «الجزيرة» مؤخرا (لعل الثالوث الذي يكثف هوس القناة هو: الدين، الحرب، الامبراطورية). السياسي والتعددي ملحق بالسيادي والواحد لدى الإسلاميين أيضا، ونقل التوحيد من مجال علم الكلام إلى السياسي والاجتماعي شائع، ومُعرِّف للتيار السلفي الجهادي. ومثلما الإبادة هي الأصل في السيادة، فإن التكفير هو الأصل في التخوين، والتأسيس الرمزي للإبادة الفيزيائية. وعتبة تكفير القول المختلف منخفضة جدا عند القوم، ومعها بالطبع عتبة إباحة الدم.
نواجه اليوم حصائل ركون السيادة للإبادة كي لا تفتح باب السياسة. ومنها تشظي السيادة ذاتها إلى سيادات وتحول البلد إلى ساحة حروب متعددة. لكن بمجرد أن نتكلم على سيادات بالجمع يمحي الفرق بين السيادة والسياسة (التي هي نطاق التعدد والجمع)، وينقلب السيد إلى سياسي خاص بين سياسيين غيره. وهذا ظاهر جدا من وجه أن السيد الأسدي يقف مزعزعا في مواجهة أطراف سورية أخرى، وليس أقل ظهورا من وجه أنه يندرج في منطق السيادة الامبراطورية الإيرانية كطرف تابع، هذا بينما السيادة لا تتبع ولا تندرج.
هل يمكن إغلاق باب الإبادة وفتح باب السياسة، وإرساء سيادة الدولة في سوريا على ذلك؟ لا لا يبدو أن هناك فرصا لذلك في أي مدى منظور. التسويات الممكنة في شروط أزمة تأسيسية تمحي الحدود فيها بين السيادة والإبادة والسياسة، هي تسوية بين سيادات، أي تقسيم للبلد متفق عليه بين أسياد يلغون السياسة في دويلاتهم، أو تقسيم للولاية العامة السيادية وفق النموذج اللبناني الذي يلغي السيادة عمليا، هذا إن لم تتناسل الإبادات إلى أمد لا ينتهي.
بوجود مثل نظام الولي الفقيه في إيران وتوابعه العراقية واللبنانية والأسدية، وداعش وجبهة النصرة، وطامحين آخرين، يبدو أفق الإبادات وحده مفتوحا. لكنه أفق مثير للتفكير في معاني السياسة والحرب والحياة والموت، هذا إن كنا نبحث عن عزاء.
ياسين الحاج صالح