لم يكن التعرف على حي الحضراب في ضاحية شمبات في الخرطوم بحري سهلا، فقد كان أشبه بمنطقة حرب، حيث المتاريس تغلق كل الشوارع، والسواد الناتج عن الحرائق يغطيها، بينما اكتست الجدران بشعارات الثورة ورسومها.
ويتملك التوجس كل غريب يدخل إلى المكان، فنظرات الريبة تحاصره، وربما بادرك شباب ليسألوك عن وجهتك وأنت تدلف إلى الحي. يبدؤون بسلام فاتر وحذر قبل أن يرحبوا بك بحرارة ويدلوك على وجهتك بعد التأكد من هويتك.
وحوّل المحتجون أحياء عريقة في الخرطوم إلى ما يشبه المناطق المغلقة التي يلوذون بها ويشدون إليها الرحال كلما دعا تجمع المهنيين لمواكب التنحي (المظاهرات المطالبة تنحي الرئيس).
وتشكل ثلاثة أحياء في مدن ولاية الخرطوم الثلاث ما يشبه مثلث الرعب للأجهزة الأمنية منذ انطلاق الاحتجاجات في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وأضحى حي بري في الخرطوم والعباسية في أم درمان وشمبات في الخرطوم بحري مراكز تغذي الحراك دون توقف.
من يسير في شوارع حي الحضراب في شمبات كمن يتجول في معرض كبير، فالشعار الأشهر في احتجاجات السودان “تسقط بس” -فضلا عن شعارات الثوار المتداولة- يزين غالب جدران الحي.
ويقطن شمبات أكثر من أربعين ألف نسمة، وتقع على بعد 8.5 كلم شمال وسط العاصمة الخرطوم، ويعود اسم الحضراب إلى أسرة عريقة في الضاحية تنتسب لرجل دين يدعى حضرة.
ومن اللافت أن الشعارات لم تكتب على عجل، بل رسمت بعناية وإلى جانبها رسوم للضحايا الذين سقطوا خلال الاحتجاجات، خاصة صورة الشاب صالح عبد الوهاب الذي سقط يوم 9 يناير/كانون الثاني في موكب (مظاهرة) بأم درمان.
الجزيرة نت التقت خمسة من الشباب وثلاثة من ربات المنازل ورجلا ستينيا داخل أحد بيوت حي شمبات العريق. أحد الشباب كان يأتي بهم تباعا بغرض التأمين إلى الصالون، حتى اكتملت الجلسة وبدؤوا سرد حكاياتهم مع شهرين من الاحتجاجات.
رصد وتحرٍّ
“من دخل شمبات فهو آمن” جملة يرددها الشباب بفخر، وهم يقولون إنهم اكتسبوا خبرة في تنظيم الاحتجاجات وحمايتها منذ احتجاجات سبتمبر/أيلول 2013 وقبلها في جمعة “لحس الكوع”.
ويقول أحد الشباب إن النسيج المتماسك لسكان الحي فضلا عن البيوت المتصلة مع بعضها بمنافذ، سهل كثيرا من تأمين المواكب التي تنظم داخل شمبات، رغم أن العديد من الشباب والشابات يأتون من مناطق أخرى في الخرطوم، لكن لا بد أن يكون لكل منهم مدخل معروف.
وقبل بدء المواكب يقسم الشباب المهام بين المراقبة والرصد وبين بناء المتاريس، بينما تتحرى مجموعات أخرى مع كل من يدخل المنطقة، وأحيانا يصل الأمر إلى حد التفتيش إذا تعاظمت الشكوك حول شخص ما.
ويضيف الشاب أن الأساليب التأمينية التي يتبعونها قللت من ضحايا الاعتقالات، وكان الخميس الماضي (موكب التحدي) أكثر الأيام التي شهدت اعتقالات، فقد اعتقل ثلاثة شباب وذلك بسبب نقص المتاريس.
متاريس الشوارع
وتضطر جرافات تحرسها قوات الشرطة إلى الوصول للحي قبيل كل موكب لفتح الشوارع وإزالة الأنقاض، حتى تسهل حركة سيارات الدفع الرباعي التابعة للقوات النظامية.
وبحسب شاب آخر، فإن الحي يشهد الآن نقصا حادا في الأنقاض التي يستخدمونها في صناعة المتاريس بعد نحو شهرين من الاحتجاجات، قائلا “الخميس الماضي اضطررنا لنقل كتل من الخرسانة والطوب من منزل قديم تم هدمه”.
المصطلحات التي كان يستخدمها الشباب في توصيف وسائل وأساليب حماية المظاهرات كانت أقرب للغة الممارسين لعمل أجهزة تنفيذ القانون، مثل “القوة المهاجمة، والرصد والمتابعة، والتأمين”.
أغلب الشباب تعرض لأكثر من إصابة بسبب قنابل الغاز المدمع والرصاص المطاطي والهراوات، وحتى بنوع من قنابل الصوت التي تطلق يدويا.
ربات المنازل
أما ربات المنازل فبدون أكثر ارتياحا بعد توقف استخدام القوات الأمنية الرصاص كما ذكرت إحداهن قائلة “الحمد لله توقف الرصاص والموت.. الغاز المسيل للدموع هين.. بيوتنا وقلوبنا مفتوحة للثوار حتى تسقط بس”.
وتضيف أنها أدمنت المظاهرات، وكلما تمر بالشباب تسألهم عن موعد الموكب، وتشير إلى قدميها بقولها إنها دائما مستعدة بانتعال حذاء خفيف للمشاركة في الاحتجاجات.
السيدة “س” من أكثر ربات المنازل في الحي حماسا، تقول للجزيرة نت إنها تؤيد احتجاجات الشباب لأن مستقبلهم أصبح مجرد أزمة ويجب عليهم تغيير النظام.
وتؤكد أنها وكل نساء الحي حريصات على تأمين المحتجين وتوفير الطعام والعصائر والمأوى لهم، خاصة للذين يأتون من خارج الحي فهم أولى بالحماية “طالما أتوا إلينا فلن نخذلهم”.
ورغم تعرض المنازل التي تؤوي المحتجين للأضرار عند اجتياح الحي، تقول إن هناك تقبلا من جميع البيوت للأضرار التي تلحق بهم، وتذكر أن الصالة التي نجلس فيها وغرفة ملحقة بها امتلأت بنحو خمسين شابا وشابة في موكب الخميس، وحينها حمى الشباب الأبواب والنوافذ.
ولئن كان ثمة رابط بين أحياء شمبات والعباسية وبري، فهو العراقة وتماسك النسيج الاجتماعي الذي جعلها مناطق عصية على تجريدات السلطات الأمنية التي خسرت عددا من مركباتها وهي تحاول لجم المحتجين بين أزقتها وميادينها.
المصدر : الجزيرة