فيما تغرق أحزاب يمين ويسار الوسط الأوروبية في أزمات كبيرة قد تفضي ببعضها إلى التراجع إلى المكان الثالث أو الرابع في ترتيب الجماهيرية (أو حتى الانفراط)، اجتمع زعماء أحزاب اليمين المتطرّف الأوروبي في مدينة ميلانو الإيطالية يوم السبت الماضي بقيادة رئيس وزراء إيطاليا الحالي ماتيو سالفيني، وبحضور زعماء أحزاب من تسع دول أخرى، بينهم مارين لوبان، زعيمة حزب «الجبهة الوطنية الفرنسية» العنصري، وغيرت فيلدرز الهولندي، وانديرس فيستيسين من الدنمارك، ويورغ ميوثين من ألمانيا، ونظائرهم في بلغاريا وهنغاريا وإيستونيا والتشيك.
مؤتمر الأحزاب هذه أعلن عن تجمّع «أوروبا الأمم والحرّية» الذي يهدف، كما يقول سالفيني، «لحماية الحضارة الأوروبية» مستشهدا بكاتب كاثوليكي بريطاني قديم كان يعتبر فاشيّة الزعيم الإيطالي بنيتو موسوليني «رد فعل صحّي» على «الفساد» السياسي في أوروبا.
هشمت الفاشية (ونظيرتها النازية) في ثلاثينيات القرن الماضي النظام السياسي الديمقراطي واستبدلته بأنظمة دكتاتورية شمولية، مضطهدة كل التيارات السياسية التي لم تتفق مع مثالها، وكان ضحاياها المباشرون من اليهود والغجر والأقليات العرقيّة، أما جبهة اليمين المتطرّف الأوروبي الجديدة هذه، والتي تستدعي بقوة أشباح الماضي المرعب، فتبدو أكثر ذكاء وقدرة على التأقلم مع الأنظمة الديمقراطية (حتى الآن).
وكما تحالفت نازيّة هتلر الألمانية في فترتها الأولى مع الكرملين أيام الزعيم الشيوعي جوزيف ستالين (ثم انقلبت عليه)، فقد وجدت هذه الأحزاب حليفين موضوعيين كبيرين، الأول هو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (الذي يلعب مستشاره الاستراتيجي الأول ستيف بانون دورا خطيرا في التنظير لهذا الاتجاه)، والثاني هو الزعيم الروسي فلاديمير بوتين الذي يجد في هذه الأحزاب وسيلة مثاليّة لتفتيت الاتحاد الأوروبي الذي يقف ككتلة سياسية واقتصادية وعسكرية كبيرة في مواجهة روسيا، وذراعا له في مواجهة الأنظمة الليبرالية التي حكمت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
معلوم طبعاً أن أحد أكبر الشعارات التي تجمع هذه الأحزاب هو العداء للمهاجرين عموما، وكراهية الإسلام والمسلمين، على وجه الخصوص، وبالتالي فإن اختيارهم لكلمة «الحرّية» في عنوان تجمّعهم، هو شعار يعني عكس معناه بالضبط، وقد كشفت دراسة نشرتها منظمة «الديمقراطية المفتوحة» أن 250 شخصا تعرضوا للتجريم في بلدانهم خلال السنوات الخمس الأخيرة لمجرد منحهم مأوى وغذاء وخدمات نقل أو غير ذلك من «أعمال اللطف الإنساني» للمهاجرين.
بين هؤلاء الموقوفين رجل إطفاء إسباني يواجه عقوبة السجن لمدة تصل إلى 30 عاما لإنقاذه مهاجرين في البحر، ومزارع فرنسي أعطى غذاء ومأوى لمهاجرين، وسجلت مثل هذه الحالات في 14 دولة أوروبية جاء في صدارتها إيطاليا واليونان وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا وألمانيا والدنمارك، ويعتقد ناشرو الدراسة أن ذلك مجرد «غيض من فيض» وأن الصورة الحقيقية أسوأ بكثير.
بعد أن احتلّ المسلمون موقع الضحايا «المفضّلين» على أجندة أحزاب العنصرية المتطرّفة (مقارنة باليهود الذين كانوا هدف الفاشية والنازية في القرن الماضي) صار معتادا إقرار بعض هذه الأحزاب لقوانين عنصريّة متشددة ضد المسلمين، غير أنه مما يثير التعجب أن بعض أحزاب يمين الوسط واليسار بدأت بإقرار قوانين شبيهة وذلك سعيا لأصوات ناخبي تلك الأحزاب العنصريّة المتطرفة، مما يؤدي عملياً إلى سباق في المزاودة على التطرّف ضد المهاجرين.
من نافل القول إن استهداف تلك الأحزاب العنصرية للمسلمين والمهاجرين لن يكون، على المدى الطويل، في صالح عموم الأوروبيين لأن الكراهية تبدأ ضد طرف معيّن لكنّها مرض معد يهدد الجسم السياسي والاجتماعي بأكمله، وإذا كان خطباء اليمين المتطرّف الأوروبي استحضروا أشباح النازيّة (رغم رفضهم الإقرار بذلك) تحت مسميات الحضارة الأوروبية والحرية والحفاظ على المسيحية الخ… فعليهم أن يستحضروا أيضا الكوارث الإنسانيّة المرعبة التي نتجت عنها.
القدس العربي