منطقة الشرق الأوسط تبحث عن زعيم، وقد وجدته. ليس مهما أن يكون عربيا أو غير عربي، من داخل المنطقة أو من خارجها. المهم أن يكون الزعيم قادرا على توحيد الكلمة، وأن يجد فيه العالم من يتحدث إليه في شأن الشرق الأوسط، إذا كان هناك شأن.
منطقة الشرق الأوسط وجدت في فلاديمير بوتين ضالتها المنشودة. الرجل لم يقصر. خلال سنوات قليلة منذ عام 2015 حتى الآن استطاع أن يجمع بين يديه أهم أوراق اللعبة السياسية في الشرق الأوسط. تمكن أولا من إزاحة الولايات المتحدة من قيادة المنطقة، وأقنع ترامب بسحب قواته من سوريا، بادعاء أنه انتصر في الحرب على الإرهاب، ومن ثم فلا مبرر للبقاء. وأقنع الأسد بأن بقاءه مرهون ببقاء الروس عسكريا في سوريا، وتفاهم مع الإيرانيين في هذا الخصوص. ووجد أرضية واسعة لبناء تحالف قوي مع إيران يمتد من الخليج إلى شرق البحر المتوسط. ووجد طريقا إلى السعودية من قناتي السلاح والبترول. ووجد طريقا إلى الضفة من قناة أبومازن، وإلى إسرائيل من قناة مليوني مهاجر من أصل روسي.
كذلك فإن بوتين استطاع بعد خسائر شديدة ومؤلمة، أن يروض أردوغان في تركيا، بعد أن كانا قاب قوسين أو أدنى من مواجهة عسكرية مرتين، الأولى بعد إسقاط طائرة روسية من طراز سوخوي، والثانية بعد اغتيال سفير روسيا في وضح النهار في العاصمة التركية أنقرة. الآن تنتصب منصات صواريخ إس- 400 الروسية في تركيا، ويبحث أردوغان مع بوتين بجدية المشاركة في برنامج تصنيع طائرات سوخوي الروسية المتطورة، في حال أخرجته الولايات المتحدة من برنامج تصنيع إف- 35.
الآن يستطيع بوتين أن يفخر بما حققه في الشرق الأوسط. وانطلاقا من فخره بما أنجز فإنه يتلو على صديقيه المسلمين، روحاني رئيس الدولة التي تعتبر نفسها قائدة الجناح الشيعي من العالم الإسلامي، وأردوغان الذي يرفع راية زعامة الجناح السني، قول الله تعالى: «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا»، هو إذن يدعو إلى توحيد كلمة القطبين الطائفيين اللذين حاولت الولايات المتحدة أن تشق المنطقة بينهما، وأن تجعل الصراع بينهما هو محور الصراع الرئيسي في المنطقة. بوتين هنا يضرب في العصب المركزي لحال الصراع في الشرق الأوسط. الأمر لم يكن سهلا على الإطلاق. الآن أصبح مكتب بوتين في الكرملين، هو مركز الاتصال الرئيسي بالشرق الأوسط، كلما ظهر شأن معقد يحتاج للتدخل. موسكو هي قناة الوصل بين أنقرة وطهران، وهي مدخل تل أبيب إلى دمشق، وطهران إلى الرياض، وأنقرة إلى بغداد وإلى دمشق، وأربيل إلى أنقرة، وهي مدخل واشنطن إلى شرق البحر المتوسط بأكمله. أيضا فإننا نلاحظ أن من لا طريق له إلى موسكو، يحاول إيجاد طريق، بما في ذلك أطراف الصراع في ليبيا وفي اليمن. ليس في الأمر مبالغة؛ فموسكو تستطيع تعقيد الأمور إذا أرادت، وتسهيلها إذا رضيت.
رحلة بوتين إلى مركز القيادة في الشرق الأسط، وراءها سنوات من العمل الجاد، وميراث طويل من الانتصارات والإخفاقات. في عام 2015 كانت دمشق أقرب ما تكون إلى السقوط في أيدي جماعات مسلحة، أقلها تطرفا تنظيمات تابعة للقاعدة، وكانت سلطة بشار الأسد على وشك الانهيار. في ذلك الوقت استشعرت روسيا الخطر؛ فسقوط الأسد، يمثل تهديدا مباشرا لقاعدة (طرطوس) البحرية الروسية، وهي القاعدة الوحيدة المتبقية لها في مياه البحر المتوسط الدافئة. روسيا التي خسرت موقعها ومكانتها في مصر في أوائل سبعينيات القرن الماضي، لم تكن على استعداد لخسارة سوريا. تقدير الروس أن سوريا كانت ستسقط للأمريكان. إنها إذن مباراة صفرية، إما روسيا وإما الولايات المتحدة في سوريا. فلاديمير بوتين قرر أن يلقي بكل ثقله وراء بشار الأسد.
كابوس خسارة الروس في سوريا عام 2015 جدد آلاما تاريخية تعود إلى نحو 100 عام، عندما خسرت روسيا نصيبها من أملاك الدولة العثمانية، بسبب حال الاضطراب السياسي والعسكري، والثورات التي عاشتها في أول عقدين من القرن العشرين. جيوش روسيا القيصرية في ذلك الوقت كانت تشتبك في حروب مريرة في الشرق الأقصى ضد اليابان، بينما دبلوماسيتها كانت تلعب دورا محوريا في دعم الثورة على العثمانيين في منطقة البلقان. في الوقت نفسه كان وزير خارجية روسيا سيرجي سازونوف يجري محادثات جادة مع دبلوماسيين بريطانيين وفرنسيين، بشأن كيفية اقتسام أملاك الدولة العثمانية. سازونوف هو من نحت المصطلح السياسي الذي وصف الإمبراطورية العثمانية بأنها «رجل أوروبا المريض». ومع أن كتب التاريخ تردد الوصف، إلا أنها لا تهتم كثيرا بدور سازونوف التاريخي، الذي أسهم أيضا في رسم خرائط إعادة توزيع ممتلكات العثمانية، التي تضمنتها وثائق سايكس بيكو التي نشرتها الحكومة البلشفية. سازونوف خرج من لعبة الدبلوماسية الروسية، وفقدت روسيا أملاكا كثيرة للعثمانيين، كانت ضمن نصيبهم، منها إسطنبول ومضيق البسفور. وبعد انتهاء الحرب، انفردت بريطانيا وفرنسا بتقسيم مناطق شرق البحر المتوسط، وتم حرمان روسيا منها، لأنها خرجت مبكرا وعقدت اتفاقا مع ألمانيا.
منطقة الشرق الأوسط وجدت في بوتين ضالتها المنشودة، فمنذ عام 2015 حتى الآن استطاع أن يجمع بين يديه أهم أوراق اللعبة السياسية فيها
روسيا حاولت في الحرب العالمية الثانية أن تستعيد بعض نفوذها في آسيا الوسطى، فشجعت إقامة دولة مهاباد الكردية على الحدود بينها وبين كل من تركيا وأذربيجان والعراق وإيران. كما عادت بقوة إلى البلقان. لكن جمهورية مهاباد لم تستمر أكثر من عدة أشهر، ثم سحقها الشاه. بينما في البلقان استطاعت روسيا تثبيت نفوذها بقوة في منطقة البلقان وشرق أوروبا.
في سبتمبر 2015 اتفقت موسكو مع كل من طهران وبغداد ودمشق، على إقامة مركز معلومات مشترك لتنسيق العمليات، وأقر نواب رؤساء الأركان خطة بهذا الشأن في العراق، وتم إعلان إقامة المركز في بغداد. في اليوم نفسه الذي تم فيه إعلان إقامة المركز، ألقى بوتين كلمة أمام أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة، أعلن فيها بوضوح تام «أنه لا بديل عن العمل مع دمشق من أجل إنزال الهزيمة بالإرهاب». في ذلك الوقت كان الشعار الرئيسي الناظم للسياسة الأمريكية في سوريا هو «إسقاط بشار الأسد» وليس تصفية الإرهاب. أولوية إسقاط الأسد كانت أيضا هي شعار السياسة التركية والخليجية تجاه سوريا. بعد يومين من كلمة بوتين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بدأت روسيا حملتها العسكرية في سوريا، وهي الحملة التي غيرت قواعد اللعبة تماما، ومنعت سقوط الأسد، وأسهمت في زعزعة النفوذ الأمريكي، ثم تهميشه تماما، وقلصت نفوذ التنظيمات المسلحة المتطرفة إلى الحد الأدنى.
في هذه الفترة كانت تركيا تقف في المعسكر الآخر، ترفع شعار إسقاط الأسد، باعتباره الأولوية القصوى، بل إنها كانت تتحرك في اتجاه استفزاز الروس ومحاولة جرهم إلى معركة فرعية في سوريا. بوتين كان متنبها لذلك. عندما أسقطت المقاتلات التركية من طراز إف- 16 طائرة روسية من طراز سوخوي في نوفمبر 2015، تحامل بوتين على نفسه، ولم يفتح الباب لتوسيع المواجهة، خصوصا بعد أن قدمت تركيا طلبا إلى مجلس الأمن لمناقشة الواقعة، فهدأ الحال وتجنبت روسيا الدخول في صراع مفتوح مع تركيا. في العام التالي، تعرضت روسيا لضربة قاسية في تركيا، عندما تم اغتيال السفير الروسي لدى أنقرة في حادث مدبر نفذه ضابط شرطة تركي، كان قد حصل على إجازة مرضية ليوم واحد فقط، نفذ فيه حادث الاغتيال، وهو لا يرتدي زيه الرسمي. مرة أخرى بلع بوتين مرارة الحادث، وقرر أن يمضي في طريقه، لمحاولة جر إردوغان من التحالف الغربي. وقد كان.
بعد أقل من عام على حادث مقتل السفير الروسي، وبعد نحو عامين من حادث إسقاط السوخوي الروسية في أجواء قريبة من الحدود التركية ـ السورية، حقق فلاديمير بوتين نصرا سياسيا واستراتيجيا، يمثل علامة فارقة على خريطة النفوذ الروسي في الشرق الأوسط. في نوفمبر عام 2017 عقدت في منتجع سوتشي الروسي، القمة الأولى بين بوتين وأردوغان وروحاني، فيما سيصبح منذ ذلك الوقت تحالفا ثلاثيا قويا، يلعب دورا محوريا في إعادة تشكيل السياسة، وإعادة رسم الحدود في الشرق الأوسط. مركز تنسيق العمليات الذي كان قد تأسس في العراق، انتقل إلى سوريا، وتحول إلى مركز ثلاثي يضم روسيا وإيران وتركيا. واستطاع مهندس الدبلوماسية الروسية سيرجي لافروف أن يصمم مجموعة من القنوات المهمة لنمو هذا التحالف، الذي تعقد اجتماعاته،على مستوى الرؤساء الثلاثة، مرتين في العام.
بوتين الآن هو الرجل القوي في الشرق الأوسط، لا ينافسه أحد. هو الزعيم المفدى!
الشرق الأوسط