تعرّض تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») لضربة ساحقة خلال نهاية الأسبوع المنصرم الحافل بالأحداث، بوفاة زعيمه أبو بكر البغدادي في محافظة إدلب السورية. وفي اليوم التالي، 27 تشرين الأول/أكتوبر، قُتل كما يُدّعى الناطق الرسمي باسم التنظيم – وخلف البغدادي المحتمل – أبو الحسن المهاجر. وتمّت العملية حين داهمت القوات الخاصة الأمريكية مجمّع سكني في شمال غرب سوريا بالقرب من الحدود التركية، حيث أفادت التقارير أن البغدادي فجّر نفسه بسترة ناسفة مودياً بحياته وحياة عدة أطفال. وبعد ذلك، ذكرت بعض التقارير أن المهاجر قُتل في غارة جوية عندما قُصفت ناقلة النفط التي كان يُهرَّب فيها عبر شمال سوريا.
ويُعتبر نائب البغدادي، المدعو أبو عبد الله الحسني (الحاج عبد الله)، أحد الخلفاء المحتملين للبغدادي، لا سيما في ضوء الشائعات التي تقول إنه من سلالة قريش، التي من شأنها أن توفر الغطاء الديني له كخليفة محتمل جديد. كما كانت هناك شائعات بأن عبد الله قردش، الضابط العراقي السابق، سيخلف البغدادي. لكن الأدلة تستند إلى تصريح مزيف لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» لم يصدره التنظيم فعلياً. وأياً كان الزعيم الجديد، فسوف يرث قيادةً عملياتية محلية فاعلة، على الأرض في العراق وسوريا وفي جميع أنحاء العالم على حد سواء، حيث لا تزال عمليات التنظيم جارية في “ولاياته” النائية. ولا يزال التنظيم ينعم بالتمويل الكافي، الذي، إلى جانب استمرار أيديولوجيته المتطرفة، يجعله خطراً إرهابياً وتمردياً دائماً. بالإضافة إلى ذلك، فإن انسحاب معظم القوات الأمريكية من سوريا، وهروب سجناء تنظيم «الدولة الإسلامية» من معسكرات الاعتقال في البلاد، والمشكلة الملحة المتمثلة في التعامل مع سجناء التنظيم الذين ما زالوا محتجزين في معسكرات مثل الهول، كلها أمور توفر للجماعة الجهادية فرصاً للظهور مجدداً.
تهديدٌ مستمر
على الرغم من ادعاء الرئيس ترامب بأن تنظيم «داعش» قد هُزِم، إلّا أن عملياته على الأرض في العراق وسوريا، وعلى الصعيد العالمي أيضاً، تشير إلى عكس ذلك. فمنذ أن خسر تنظيم «الدولة الإسلامية» آخر معاقله في باغوز السورية، في أواخر آذار/مارس 2019، نفذ التنظيم مئات عمليات في العراق وسوريا، حتى 24 تشرين الأول/أكتوبر. وفي سوريا، أعلن مسؤوليته عن شن 330 هجوماً في دير الزور، و 103 في الحسكة، و 99 في الرقة، و 33 في حمص، و 10 في درعا، و 9 في حلب، و 3 في محافظات دمشق. وفي العراق، أعلن التنظيم مسؤوليته عن شن هجمات إرهابية في محافظات مختلفة: 275 في ديالى و 111 في كركوك و 95 في نينوى و 94 في الأنبار و 92 في بغداد و 46 في صلاح الدين و 25 في بابل. أما خارج العراق وسوريا، فإلى جانب عملياته في مختلف “ولاياته” الخارجية، فقد أقام «داعش» ولاية جديدة أسماها “ولاية وسط أفريقيا” تقوم بعملياتها في جمهورية الكونغو الديمقراطية وموزمبيق، تجسيداً لزحفها المتواصل نحو مناطق جديدة.
وإلى جانب عملياته الفعلية، يحاول التنظيم إخراج أتباعه من السجون ومن مخيمات اللاجئين داخلياً في شمال شرق سوريا، بناءً على إملاءات البغدادي، الذي دعا إلى ذلك بأي وسيلة ضرورية في خطاب ألقاه في منتصف أيلول/سبتمبر 2019. وتشمل المواقع ذات الصلة مخيم “الهول” السيء السمعة، حيث يعيش 68 ألف امرأة وطفل مع ملحق للأجانب يضم 11 عشر ألف شخص، بعضهم عناصر متطرفة لا تزال موالية لقضية تنظيم «داعش». وقد شكّل المؤمنون فيه جهاز “حسبة” (شرطة الأخلاق) لإجراء محاكمات سرية أودت بحياة العديد من النساء والأطفال الذين انتهكوا قواعد تنظيم «الدولة الإسلامية». وسمحت هذه الظروف المحيطة لأنصار «داعش» بالاستمرار في التصرف كما لو أن الخلافة ما زالت تسيطر على أراضي. وإذا كان تنظيم «الدولة الإسلامية» قادراً على إخراج أتباعه من السجون ومخيمات المشردين داخلياً، فلن يقوم بتجديد قواته القتالية فحسب، بل سيساعد أيضاً في إعادة بناء مشروع الخلافة، الذي يتضمن رعاية جيل من الأطفال ليصبحوا جهاديين في المستقبل.
تمويلٌ احتياطي
على الرغم من خسارة مناطق خلافته وما ارتبط بها من مصادر دخل مربحة، لا يزال تنظيم «الدولة الإسلامية» يتمتع بموارد جيدة. فوفقاً لفريق الأمم المتحدة لمراقبة العقوبات المعني بتنظيمَي «الدولة الإسلامية» و «القاعدة»، يُقدَّر أن التنظيم يملك ما يتراوح بين 50 مليون دولار و 300 مليون دولار كاحتياطات من فترة الخلافة. ووفقاً للتقارير تم استثمار بعض هذه الأموال في أعمال مشروعة مدرة للدخل في العراق والبلدان المجاورة. وثمة احتمال بأن تكون أموال أخرى مدفونةً تحت الأرض أو مخبأة على هيئة متاجر. وعلى الرغم من أن التنظيم واجه مشاكل في السيولة مؤخراً وفقاً لبعض التقارير، وربما يستكشف وسائل جديدة لجمع الأموال، إلا أنه كان قادراً حتى وقت قريب على تمويل الخلايا النائمة وغيرها من العمليات في معاقله الجوهرية السابقة – العراق وسوريا – وكذلك إرسال أموال متواضعة إلى ولاياته. ومع ذلك، تتمتع معظم ولايات تنظيم «الدولة الإسلامية» بالاكتفاء الذاتي إلى حد كبير، بعد أن كانت فيها تنظيمات مع آليات تمويل قائمة مسبقاً قبل تعهدها بالولاء لبغدادي. وعلى غرار النواة في سوريا والعراق، قامت ولايات تنظيم «الدولة الإسلامية» بجمع الأموال محلياً من خلال الابتزاز وعمليات الخطف للحصول على فدية.
وبعد أن حُرم التنظيم اليوم من أراضيه، من المرجح أن يلجأ إلى الابتزاز كوسيلة لجمع الأموال، كما فعل سلفه، تنظيم «االقاعدة في العراق»، من خلال الاستفادة من مشاريع إعادة الإعمار وفرض ضرائب على حركة النفط. وبالإضافة إلى الابتزاز، قد يقوم التنظيم بإحياء أشكال أخرى من وسائل جمع الأموال، مثل عمليات الخطف للحصول على فدية، بعد أن بدت هذه الأخيرة وكأنها تنخفض من حيث نسبتها من عائدات التنظيم مع تراجع الأهداف ذات القيمة الأعلى على غرار عمّال الإغاثة الغربيين. ومع ذلك، استمر التنظيم في جني الأموال من الاتجار بالسكان المحليين.
ومن المرجح أن تكون الخلايا المحلية لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» مموّلة بشكل كاف، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن التنظيم طلب من الخلايا أن تكون مكتفية ذاتياً. وتحقيقاً لهذه الغاية، تم توفير التمويل الأساسي مع توقع قيام الخلايا بإنشاء مؤسسات مدرة للدخل أو الاعتماد على أموال شخصية.
استمرار الصدى الإيديولوجي
في آذار/مارس 2019، وفي تسجيل صوتي بثّه التنظيم على تطبيق “تليغرام” عبر وسائل التواصل الاجتماعي بعد حادثة إطلاق النار على مسجدين في نيوزيلندا، كسر المهاجر صمتاً دام ستة أشهر ليستخدم مأساة كرايستشيرش من أجل حث أتباعه على ممارسة العنف، حيث قال: “إنّ مشهد القتل في المسجدين لحريٌّ به أن يوقظ الغافلين ويحضّ أنصار الخلافة للثأر والانتقام لدينهم”. وأثناء ضغطه على باقي مقاتلي التنظيم في سوريا لمواصلة القتال، دعا أيضاً “جنود الخلافة” في ولايات التنظيم إلى الاستمرار في “الاستعداد للحرب والاجتهاد بشأنها”.
وأطلق البغدادي نفسه دعوات مماثلة في الفيديو الذي سجّله في نيسان/أبريل 2019، وهو أول ظهور له منذ إعلانه عن تشكيل التنظيم من منبر “مسجد النوري” في الموصل في تموز/يوليو 2014 – دعا فيه إلى مواصلة القتال في سوريا، وأشاد بالهجمات التي ألهمها تنظيم «الدولة الإسلامية» في سريلانكا والسعودية وحث القيام بعمليات إضافية في الخارج.
وعلى الرغم من وفاة هذين الزعيمين، ستبقى أصداء مثل هذه الرسائل تتردد بين عناصر التنظيم وأتباعه ومجنّديه المحتملين الذين ينجذبون إلى التنظيم لمجموعة من الأسباب التي تختلف باختلاف الأشخاص – من الهروب من المظالم المحلية، التي يقابلها تنظيم «الدولة الإسلامية» بحس الانتماء والتمكين، إلى الإيمان بقيام دولة خلافة تحكمها الشريعة الإسلامية. فالظروف الكامنة التي تدفع الناس لتبنّي الإيديولوجيات المتطرفة والحركات العنيفة – بدءاً من سوء الحكم والفساد الردئ إلى قمع الوسائل المشروعة والسلمية للتعبير عن الرأي – لا تزال قائمة في جميع أنحاء المنطقة، كما يتضح من الاحتجاجات الأخيرة في لبنان والعراق. وفي سوريا والعراق على وجه الخصوص، لا تزال الظروف مهيأة لأنواع خيبة الأمل واليأس التي دفعت السنة سابقاً إلى أحضان كل من تنظيمي «القاعدة» و «الدولة الإسلامية».
وفي غضون ذلك، فحتى مع قيام تنظيم «الدولة الإسلامية» بالتخطيط لشن هجمات في الغرب، لا يزال التهديد الإرهابي المهيمن الذي يمثله التنظيم في الدول الغربية هو تأثير أيديولوجيته على المتطرفين العنيفين المحليين – أي مواطني الدول الغربية وسكانها. وفي أيار/مايو، قال مدير “جهاز الأمن الداخلي” البريطاني،”MI5″، إن 80 في المائة من الهجمات الإرهابية التي أُحبطت في الغرب شملت أفراداً من تنظيم «الدولة الإسلامية». وأوضح، “لقد كان التقييم الأساسي أن الخلايا المنَظَّمة على هذا النحو ربما تكون أقل أهمية مما كانت عليه وأن عملية التطرف الفردي هي التي تشكل مصدر قلق خاص”.
ووفقاً لـ “نشرة الاستخبارات المشتركة” لمجتمع المخابرات الأمريكي، التي نُشرت في أعقاب شريط الفيديو [الدعائي] الذي ظهر فيه البغدادي في نيسان/أبريل، فإن “معظم المتطرفين العنيفين المحليين لا يَحشدون عموماً للعنف رداً على أحداث معينة، وعادةً ما يتأثرون بمجموعة من العوامل الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية والشخصية”. ومع ذلك، يضيف التقرير أن الأحداث الرئيسية – مثل شريط الفيديو الذي ظهر فيه البغدادي في نيسان/أبريل أو استقراءاً إلى الحدث الأخير، أي وفاته – يمكن أن تعزز “أولئك الذين يترددون في التزامهم بـ تنظيم «الدولة الإسلامية»”. وفي الواقع، وعلى المدى القصير، فإن موت البغدادي قد يدفع ما تبقى من قيادة تنظيم «داعش» أو، على الأرجح، أفراد من عملاء تنظيم «الدولة الإسلامية» أو متطرفين عنيفين محليين لمحاولة تنفيذ هجمات للانتقام لموته وإثبات استمرار قابلية التنظيم على البقاء والمرونة.
الخاتمة
في أعقاب الغارة التي استهدفت البغدادي، هناك عامل آخر يستحق الاهتمام وهو احتمال وقوع هجمات شديدة الخطورة مدفوعة بـ “التظلم المُدرَك المتعلق بإجراءات الحكومة الأمريكية”، وفقاً لما قاله مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية آنذاك دان كوتس. إلّا أن مدير الاستخبارات الوطنية حذر أيضاً من أن تنظيم «الدولة الإسلامية» قد سبق أن طوّر “تمرداً قوياً في العراق وسوريا كجزء من استراتيجية طويلة الأجل” لتمكين عودة خلافته. وفي الوقت نفسه، توقع مدير الاستخبارات الوطنية “أنه من شبه المؤكد أن يستمر تنظيم «الدولة الإسلامية» في إعطاء الأولوية للهجمات العابرة للأوطان”. وبينما تقلصت تدفقات تمويله إلى حد كبير منذ هزيمته وفقدانه للأراضي، إلّا أن التنظيم يحتاج إلى أموال أقل بكثير لتنفيذ هجمات تمردية وإرهابية من احتياجاته السابقة لإدارة دولة مزيّفة.
وأخيراً، وعلى عكس وفاة أسامة بن لادن، الذي حدث في منطقة كان فيها تنظيم «القاعدة» تحت قيادة الأجانب، فإن قيادة تنظيم «الدولة الإسلامية» هي إما عراقية أو سورية. ودائماً ما كان تنظيم «داعش» أكثر اندماجاً محلياً في العراق وسوريا من تنظيم «القاعدة» في أفغانستان وباكستان. ويدل ذلك على أن تنظيم «الدولة الإسلامية» سيكون على الأرجح أكثر مرونةً وأن مخزن مجنّديه وزعمائه المستقبليين سيكون أكبر من أي مخزن امتلكه تنظيم «القاعدة» بعد أن ضعفت قيادته الأصلية في أفغانستان وباكستان.
معهد واشنطن