حسب الانسايكلوبيديا البريطانية ان الاركان الثلاثة لأية دولة هي الشعب والحكومة والسيادة. لقد نجح الاستعمار الامريكي باحتلال العراق في تغييره بصورة جذرية. انه تمكن من القضاء على سيادة العراق وشعبه وحكومته الموحدة. فقبل كل شئ لا تملك الحكومة العراقية سيادتها على ارض العراق. فالدولة الاسلامية (داعش) تسيطر على ثلثه ولا تستطيع حكومة بغداد في الوقت الحاضر فرض سيادتها على هذا الثلث. انها تعمل كل ما في وسعها من طرد داعش من العراق عن طريق الالتماس بامريكا او ايران او حتى روسيا. الا ان الخبراء يؤكدون بان الحرب الجارية ستستمر على الاقل لثلاث سنوات بل لعشرين سنة. فالسيدة موغيريني، وزيرة خارجية الاتحاد الاوروبي، صرحت في 25/5/2015 بأن الحل العسكري ليس كافيا ً وان ((البعض يتوقعون ان يكون النزاع بين السنة والشيعة في هذه المنطقة “حربا ً لثلاثين عام.” )) بينما صرح الجنرال ريموند اديرنو بأن (( هزيمة تنظيم الدولة الاسلامية قد تستغرق عشرة الى عشرين سنة)) ( راجع رأي اليوم الغراء في 17/7/ 2015 )
من الجهة الاخرى، وبغض النظر عن نصوص الدستور حول فدرالية العراق، لا تملك حكومة بغداد اية سيادة او حتى اية سلطة في المنطقة الخاضعة لحكومة اربيل. انها لا تستطيع حتى التأثير على تصرفات جندي (بيشمرغة) واحد ينال راتبه من حكومة اربيل. بل على العكس ان حكومة بغداد مجبرة ان تقدم كمية هائلة من عوائد النفط الى اربيل دون مقابل. فالسيادة اذن مفقودة.
ليست للعراق حكومة موحدة بل هناك ثلاث حكومات :
1 – حكومة داعش في الموصل
2 – حكومة اربيل المستقلة de facto
3 – واخيراً حكومة بغداد الاسيرة بيد العملية السياسية المخرّبة من جهة والخاضعة لارشادات المرحعية الدينية الجاهلة في النجف التي تمكنت، لجهلها، من شل تصرفات الحكومة الطائفية الخاضعة لها منذ الاحتلال وحتى الآن.
لوجود ثلاث حكومات هناك ثلاث شعوب. فالشعب الكردي خاضع لاربيل التي ترفض الاعتراف بحكومة بغداد. وان سألت كردياً عن بلده اجاب بأنه من ” كوردستان”. حتى الكردي الذي يعتبر نفسه عراقيا ً يرفض الخضوع لاوامر حكومة بغداد لأن ذلك يجبره على القبول بارشادات مرجعية النجف. لقد نجحت داعش في كسب القيادة العسكرية للبعث وجماهير واسعة من سكان نينوى وديالى وصلاح الدين والانبار الى درجة ان جيش داعش الذي احتل الرمادي كان فيها عدد هائل من اتباع داعش من اهالي تلك المدينة. ثم ان حيدر العبادي، رئيس وزراء العراق وقائده للقوات المسلحة، يرفض دخول اللاجئين من الرمادي الى بغداد، اولئك الذين تجنبوا الزحف الداعشي على مدينتهم. فالحرب القائمة هي لاخضاع سكان هذه المناطق لحكومة بغداد مع الحذر من تسليحهم لأنهم قد ينحازون لداعش. فالهجوم الداعشي، الذي بدأ بحجة الدفاع عن السنة، ادى الى تحويل السنة، نعم السنة لا الشيعة، الى لاجئين لا مكان لهم للعيش في وطنهم. هذه الحقيقة وحدها تثبت بطلان الادعاء الداعشي بانها تحارب لانقاذ السنة من الظلم الشيعي.
ان الجرد الموضوعي للشعب العراقي يكشف بان الملايين تركوا العراق الى كافة انحاء العالم بغية التخلص من الموت وللحصول على الحياة الآمنة. ثم هناك، حسب احصائيات هيئة الامم المتحدة، ما يزيد عن اربعة ملايين من العراقيين الذين تركوا محل سكناهم وفقدوا مصدر عيشهم، وهم الأن لاجئون داخل العراق وعدد هؤلاء في ازدياد مستمر. ان معظم هؤلاء لا مكان لهم بل لا أمان لهم لأن السلطة التي تحكمهم لا تثق بهم بل تمنعهم حتى من الخضوع لسلطانها. ان الكلدو اشوريين والمسيحيين بصورة عامة واليزيديين والصابئة والارمن وقسما ً كبيرا ً من التركمان يشكلون جزءا ً متميزاً من هؤلاء. ثم هناك مجموعات صامتة مبعثرة في طول العراق وعرضه لا حول لها ولا قوة تنتظر موعد خلاصها من هذه الازمة التي لم تخلقها. ان السلطة الشيعية والهمج الداعشي، وحدهما، مسؤولان عن الحرب الظالمة التي فرضاها الطرفان على شعبنا المقهور.
ان الباقين مسلمون، تابعون الى ” الامة الاسلامية”، قبل ان يكونوا عراقيين، مصنفون كسنة او شيعة. لقد صدرت الاوامر لهؤلاء من مرجعياتهم، الداعشية اوالنجفية، ان يرفعوا السلاح ويقتلوا العدو الطائفي، لان الجهاد فرض الالهي لا يحيد عنه غير الكافر. هكذا تأمر الايات القرآنية المنزلة من السماء. ان عليهم ان يتعلموا هذه الايات ويرتلوها، بصوت جهور، حين ينفذون فريضة القتل. والقتيل يذهب الى جهنم وبئس المصير والقتلة الى ” جنات تجري من تحتها الانهار خالدون فيها ابدا.” هكذا قررت المرجعيتان الدينيتان الظالمتان.
يصف الكاتب اللبناني محمد قواص في جريدة العرب، في 22/5/2015 المشهد بالقول: (( في تلك المطحنة لا مكان للعقل، بل المطلوب وفق قواعد تلك اللعبة أن يخرج من الصدام منتصرا ً بغض النظر عن وسائل ذلك النصر وثمنه … أيا ً تكن حيثيات الحدث وخلفياته، وسواء اتت أسبابه ذاتية او مشبوهة مستوردة من وراء البحار، فان مطحنة تدور بحيوية تنشط داخلها كل جماعات الاسلام السياسي في المنطقة. تتواجه الجماعات السنية والجماعات الشيعية في ميادين النار في العراق وسوريا واليمن. فيما الرأي العام المتمذهب يقف وراء جماعاته داعما ً ومبررا ً ومعولا ً على “المجاهدين” في حسم الصراع المؤجل منذ صفين. في ذلك أن المنطقة تعيش أقصى حالات الاهتراء الذهني المستسلم للغرائز البدائية الاولى.)) فنظرية (( انصر اخاك ظالماً او مظلوماً )) مقبولة عند الطرفين.
هذه هي حقيقة العراق، بلد شعب مشرّد ومقسّم. بلد الموتى والقتلة المسلمون بامتياز. وهؤلاء فخورون يخضعون لارشادات السيستاني ( الشيعي) وابو بكر البغدادي (الداعشي) وعزت الدوري ( النقشبندي).
ان الخطوة الاولى لانقاذ العراق من حاضره المؤلم هي ايجاد المأوى والطعام للمشردين المرفوضين من دخول اراضي حكومة اربيل لكونهم عرباً او مسيحيين او شيعة لا يملكون تزكية بارزانية للحصول على اجازة الدخول. او انهم سنة لا يجدون الكفيل لدخول المناطق الخاضعة للسيستاني الذي رفض الجنسية العراقية لنفسه. كل هذا بحجة ان الداعشي او الحشدي يفضل الموت للرحيل الى جوار ربه. وبالرغم من كون الفرد منبوذاً من اهله و بلده وحكومته تجده منحازا ً بتطرف لهذه الكتلة المجرمة او تلك. فالمهمة الصعبة التالية هي انقاذه من هذا الانحياز الاعمى ومن الخرافات السماوية التي تزكي القتل والبطش والخراب.
لحد الآن لم تتكون منظمة قادرة على القيام بهاتين المهمتين، منظمة مكونة من الذين يرفضون الانحياز لكلا الكتلتين. منظمة تعمل على توحيد المنكوبين وانقاذهم من الحرب على الاقل. بل على العكس تعمل امريكا مع اعوانها المحليين لتوسيع الفوضى الخلاقة بغية تفتيت العراق رسميا ً. ولهذا سافر مسعود البارزاني الى واشنطن ليعامله اوباما وكأنه رئيس دولة. ثم الى هنغاريا ليحثه رئيس وزرائها على الانفصال من العراق، كما حثه نتنياهو قبل اشهر. هذه النشاطات العلنية تؤكد على قرب تكوين دولة مرادفة لاسرائيل، دولة مسيطرة على نفط كركوك، يمكن استخدامها للهجوم على ايران ثم الضعط على روسيا الاتحادية ومنظمة بريكس المنافسة لامريكا. لقد اوصت لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني الحكومة لتوثيق علاقتها مع حكومة اربيل تحضيرا ً (( لتأسيس الدولة الكردية في المدى المتوسط.)) فالحرب القائمة بين السنة والشيعة يمكن ان تتوسع الى حرب قومية بين العرب والاكراد ثم الى حرب في كل المنطقة، تشمل ايران بل السعودية على اقل تقدير. والرابح هو امريكا وحدها، لأن الحرب القائمة تقتل الشعب وتضعفها بينما البترول يبقى مخزوناً تحت الارض للاستخراج في المستقبل ، بعد ان يفقد الشعب قابليته في الدفاع عن نفسه.
تؤكد امريكا مرارا ًعلى استمرار الحرب الطائفية الى أن يتم تشكيل حكومة شاملة في بغداد مقبولة من قبل الطرفين. لكن قيادة داعش التي يسيطر عليها القادة العسكريون البعثيون ترفض مثل هذه الحكومة. انها تؤكد على ان هدفها هو العودة الى الخلافة الاسلامية التي كانت تحكم العراق وكل الاراضي الممتدة من الصين عبر ايران وحتى المحيط الاطلسي. فالحرب القائمة ليست موقتة ولا محصورة في العراق بل منتشرة الى سوريا وليبيا واليمن ومالي ونيجريا واجزاء من لبنان ومصر والصومال وكينيا وباكستان وهي مستمرة في الاتساع. فبالرغم من اختلاف اهداف داعش عن اهداف امريكا انهما متفقان على تجاوز تقسيمات سايكس بيكو بكثير. اذن على الشعب العراقي المقسم ان ينتظر ليعلم ما سيحل به في العقود القادمة.
هناك اكانية انقاذ العراق وذلك عن طريق تعاون ايران ومصر والجزائر ، مثلا ً، والعمل مع جبهة متنورة ومتمدنة تمثل مختلف الاتجاهات السياسية العراقية، غير المنحازة قومياً او طائفياً او دينياً، لتنفيذ الضروريات التالية:
1 – تشكيل حكومة مدنية قديرة تعترف بأن العراقيين متساوون في كل الحقوق والواجبات دون تمييز. ومنع تقسيم المسؤوليات، بما في ذلك رئاستي الجمهورية والحكومة، حسب النسب القومية او الطائفية او الدينية. عند ذلك فقط يشعر الكل بالمساوات.
2 – الغاء العملية السياسية التي وطدت الطائفية والعنصرية. واخلاء سبيل المشاركين فيها.
3 – الغاء الدستور ورفض كل بنوده وابطال كافة القوانين التي صدرت بموجبه.
4 – حل كافة الاحزاب والمنظمات الانعزالية، القومية منها والطائفية، التي اثبتت على انها تميز قسماً اوعرقاً او طائفة من الشعب دون غيره ومنع قادتها من العمل السياسي.
5 – فصل الدين عن السياسة ومنع المرجعيات، السنية والشيعية، من التدخل في شؤون الدولة.
6 – الغاء كافة المليشيات كالحشد الشعبي وكفيلق البدر وعصائب الحق وجيش المهدي والبيشمرغة التابعة للحزبين الكرديين ومنظمات الصحوة. من الضروري الانتباه الى ما صرح به السيد اياد جمال الدين بأن (( المليشيات، من امثال منظمة بدر وعصائب الحق لا يخضعون للحشد الشعبي بل هي مليشيات مستقلة)) تقتل كما تشاء. ( استمع اليه على ” فضائية البغدادية سحور سياسي اياد جمال الدين.” )
7 – تكوين جيش عراقي محترف وموحد يقتصر واجبه على تحرير العراق من الاحتلال الداعشي ثم الاختصاص في الدفاع عن الوطن من العدوان الخارجي.
8 – الدفاع عن مطاليب الشعب اليومية كحق العمل وحق الاضراب عن العمل وحرية الفكر وحق الحصول على الطعام والماء والكهرباء والثقافة والصحة.
9 – الاعلان عن حق كل الافراد والطبقات والطوائف والقوميات العراقية المتآخية في المشاركة في الجبهة التي هي ملك الشعب العراقي كله دون تمييز. فلنتحد للدفاع عن شعبنا.
كمال مجيد
صحيفة رأي اليوم