قذائف الكاتيوشا الأربع التي انفجرت قرب القاعدة العسكرية في منطقة مطار بغداد تشير إلى توجه جديد في المعركة التي تدور في العراق منذ بداية تشرين الأول. في هذه القاعدة قوات أمريكية إلى جانب جنود عراقيين. في الهجوم أصيب ستة من رجال قوات النخبة في وحدة محاربة الإرهاب في الجيش العراقي، التي يدربها أمريكيون.
هذه هي المرة التاسعة في الأسابيع الستة الأخيرة التي تهاجم فيها منشأة عراقية تضم قوات أمريكية. ومن بين أهداف أخرى، فقد هوجم غيرها في “المنطقة الخضراء” ببغداد، التي فيها مكاتب الحكومة والقيادة الأمريكية، وأهداف في محافظة الرمادي التي فيها قوات أمريكية. ولم يتحمل أي تنظيم المسؤولية عن هذه الهجمات. وتنسبها الولايات المتحدة إلى قوات مؤيدة لإيران.
شبيهاً بالعقد الأول من حرب الخليج الثانية، العدو الأمريكي قريب من البيت، وبالإمكان مواجهته بقوة قليلة. في تلك الأيام من أراد أن يضرب الأمريكيين فعل ذلك بواسطة عمليات وعبوات جانبية. الآن يتطور منحى جديد: مهاجمة بواسطة الصواريخ والقذائف. قدرة الولايات المتحدة على الرد على هذه الهجمات محدودة. وإذا قررت واشنطن فتح مواجهة عنيفة على الأراضي العراقية ضد قوات تؤيد إيران، فقد تطلب بغداد من الأمريكيين الانسحاب. يخاف البيت الأبيض من إثارة احتجاج جماهيري يطلب من حكومة العراق إلغاء اتفاقيات الحماية مع واشنطن.
في الوقت نفسه، نشرت “نيويورك تايمز” نقلاً عن مصادر استخبارية أمريكية بأن طهران نصبت في العراق صواريخ بالستية قصيرة المدى، يمكنها أن تصل إلى دول مجاورة، منها السعودية وإسرائيل. وهذا رد على أن الولايات المتحدة زادت قواتها في الخليج، وأصبحت تعد الآن نحو 14 ألف جندي. ورغم أن هذه ليست المرة الأولى التي تنصب فيها إيران صواريخ بالستية في العراق، إلا أنها خطوة تثير قلق واشنطن. يبدو أن إيران تستغل الاضطرابات في العراق لتعزيز قواتها هناك.
الاحتجاج في العراق الذي قتل فيه حتى الآن أكثر من 450 شخصاً، إضافة إلى آلاف المصابين، يحمل في ثناياه أيضاً تهديداً لوجود ونفوذ إيران هناك، وقدرتها على توسيع تمركزها. كثير من المتظاهرين يطلقون شعارات ضد طهران، والمليشيات المؤيدة لإيران تصادمت عدة مرات مع المشاركين في الاحتجاج، والقنصلية الأمريكية في مدينة النجف أحرقت مرتين.
في إطار هذه التوترات، أغلقت المعابر الحدودية بين إيران والعراق في جنوب العراق بشكل مؤقت.
مؤخراً، انضمت إلى الاحتجاج قبائل عراقية كبيرةكانت أيدت إيران في السابق. عدد منها قبائل تجندت في الجيش العراقي تحت قيادة صدام حسين أثناء الحرب بين إيران والعراق في الثمانينيات. وبعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003، تحولت هذه القبائل لدعم النظام الشيعي، ولها الآن علاقة وطيدة مع طهران. وفي تموز التقى عدد من رؤساء القبائل السفير الإيراني في العراق، وعبروا له عن الدعم غير المحدود. “نحن مستعدون للدفاع عن الجمهورية الإسلامية، لأن الحرب ضد إيران هي مثل الحرب ضد العراق”، قالوا. “إيران أثبتت بأنها تقف إلى جانب الشعوب المضطهدة في العالم، خاصة الشعب الفلسطيني”. ولكن مؤخراً بدأ تضامن القبائل يتآكل ويتصدع. المعضلة التي يقف أمامها رؤساء القبائل مركبة: عدد من رجالهم يتظاهرون في الشوارع ضد النظام، وآخرون تجندوا مع المليشيات الشيعية التي تعمل بتوجيه من إيران ضد الاحتجاج. ودون دعم هذه القبائل، فإن الاحتجاج ضد وجود إيران في العراق يمكن أن يتفاقم ويتحول إلى موضوع أكثر مركزية في المظاهرات.
في هذه الأثناء تحكم في العراق حكومة انتقالية مشلولة. رئيس الحكومة الانتقالية، عادل عبد المهدي، قدم استقالته الشهر الماضي، لكن لم يتم العثور على بديل له حتى الآن. الحكومة الانتقالية مقيدة أصلاً، لكن دون رئيس حكومة وحكومة متفق عليهم، فإن قدرتها على اتخاذ قرارات من أجل تهدئة النفوس، على الأقل بشكل مؤقت، غير موجودة. الأحزاب المختلفة في الدولة تتقاتل على هوية من سيقف على رأس الحكومة الانتقالية التي ستكون إحدى مهماتها الأساسية الإعداد للانتخابات البرلمانية.
أمام إيران التي تحاول طرح مرشحين، وقف الزعيم الانفصالي مقتدى الصدر الذي طلب في هذا الأسبوع أن يكون رئيس الحكومة الجديد شخصاً من إحدى حركات الاحتجاج، وهذا اقتراح يخيف طهران التي ستجد نفسها أمام رئيس حكومة مناهض لها. المشكلة هي أنه لا يوجد لحركات الاحتجاج زعيم متفق عليه أو معروف، ولا يوجد أي حزب أو تيار تتفق هذه الحركات على أن يمثلها. عدد من حركات الاحتجاج لا تعتبر مقتدى الصدر نفسه زعيماً أصلياً يمكنه التحدث باسمها، على الرغم أن قواته التي تسمى “وحدات السلام” انضمت إلى المتظاهرين للدفاع عنهم من مقاتلي المليشيات الشيعية.
المواجهة الشديدة بين الصدر وخمصه قيس الخزعلي، مؤسس مليشيات “عصايب الحق” المؤيدة لإيران، والذي يسعى إلى إنشاء نظام في العراق يشبه النظام المعمول به في إيران، تحول السياسة العراقية الداخلية إلى ساحة تحسس بين من يؤيدون طهران ومن يعارضونها. هذا بالضبط هو الوضع الذي حاولت إيران عدم حدوثه من أجل أن تزيل عن نفسها صورتها كمن تسيطر على العراق.
أمس، نشر رئيس الأركان في الجيش العراقي بياناً للمتظاهرين جاء فيه: “جيش العراق وقوات أمنه يقفون إلى جانبكم للدفاع عنكم إلى حين تحقيق طلباتكم التي يحميها الدستور”. بهذا، تبين لطهران أنها يمكن أن تواجه تحدياً أكثر صعوبة في من قمع المتظاهرين. وإذا أرسلت إيران إلى العراق قوات إضافية لقمع الاحتجاج، فقد يكون يقف الجنود في وجهها إلى جانب المتظاهرين.
ستضطر طهران إلى أن تقرر في وقت قريب إذا كانت مستعدة للمخاطرة بتشكيل “حكومة تكنوقراط” التي تعني تآكلاً عميقاً لنفوذها السياسي في العراق، والاعتراف بفشل المليشيات الشيعية في الحفاظ على مصالحها هناك. أو التدخل بشكل أكثر عنفاً مثلما فعلت ضد المتظاهرين في إيران. تجربة السابق تعلم أن إيران تعرف كيفية الانسحاب عندما تكون الظروف في غير صالحها. ولكن عندما تكون في خضم الصراع لإنقاذ مكانتها في لبنان وسوريا، وعندما تكون الشوارع في مرحلة غليان فيها، فيمكن أن تتبنى مقاربة استعراض العضلات العنيف.
القدس العربي