مراجعة عام 2019: عام الربيع العربي والخريف الفلسطيني

مراجعة عام 2019: عام الربيع العربي والخريف الفلسطيني

دأبت منذ عام 2011 على أن أراجع أهم التطورات في العام الذي يقترب من المغيب لعلنا نأخذ منه درسا أو درسين للعام الذي ينتظرنا على ناصية الشارع بكل أسلحته المبهمة ونظراته الغريبة. وقد رأيت في هذا العام أن أحافظ على هذا التقليد.
كما دأبت منذ زمن على أن قضي نهاية العام في أرض فلسطين التاريخية لأتابع عن كثب آخر التطورات والمستجدات في الأرض الطيبة، التي تتعرض للنهب والتدمير الممنهج، وكي أتعرف عن قرب على أوجاع الناس وهمومهم ومعاناتهم، تحت سنديان الاحتلال ومطرقة السلطتين الفلسطينيتين. وأود في نهاية هذا العام أن أراجع أهم التطورات التي شهدها آخر أعوام العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وبداية عقد جديد سيحمل تحديات كونية عظمى، على رأسها التغير المناخي، والهجرة، والجوع والفقر، والإرهاب والتمييز القائم على الدين، خاصة ضد المسلمين.
شهد عام 2019 أحداثا كبرى على المستوى العالمي من بينها، صعود القوى اليمينية الشعبوية في كثير من بلدان العالم، خاصة في البرازيل والهند وبريطانيا، مستندين إلى دعم ومناصرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي ينظر إليه بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني، على أنه مثله الأعلى هو والبرازيلي جايير بولسونارو ومودي رئيس وزراء الهند، الذي تعلم من صديقه نتنياهو «إعادة تعريف الهوية الهندية» ليستثني منها المسلمين، وقام بضم مقاطعة كشمير على طريقة ضم المستوطنات في فلسطين وهضبة الجولان، كما نصت عليها شرائع ترامب، الذي يتنمّر على العرب، بينما يدينه مجلس النواب ويطالب مجلس الشيوخ بمحاكمته لعزله من منصب الرئيس.
انتفاضات وحراكات شعبية شهدتها كل من بوليفيا وفنزويلا وتشيلي وهونغ كونغ، وبعضها مدعوم من الولايات المتحدة، أدت إلى هجرة ملايين من فنزويلا وسقوط الرئيس البوليفي إيفا موراليس، وتولي النائبة الثانية في البرلمان مقاليد الحكم، جنين أنييز، التي سارعت إلى إعادة العلاقات مع إسرائيل. أما تشيلي فقد شهدت احتجاجات مطلبية بداية من 25 أكتوبر، سقط على أثرها عشرات الضحايا وآلاف الجرحى واعتقل الآلاف، وما زالت شوارع هونغ كونغ تشهد احتجاجات قوية، تسببت في إحراج الصين، التي أيضا تعاني من تشويه سمعتها، لما تقوم به من اضطهاد وتنكيل واعتقالات بين صفوف مسلمي الإيغور.
العملية الإرهابية في مسجدين في بلدة كرايس شيرش في نيوزيلندا، أثناء صلاة الجمعة في 15 مارس، كانت الأبشع خلال العام المنصرم من بين العمليات الإرهابية الكثيرة التي شهدها العالم، والتي ذهب ضحيتها 50 بريئا إضافة إلى 50 جريحا. بشاعتها تعود إلى الفاعل الأسترالي، الذي بث عمليات التصفية الدموية مباشرة، وأطلق تصريحات يفاخر بالجريمة، ويدعو العالم المسيحي الانتقام من حروب المسلمين، مركزا على سقوط القسطنطينية بيد المسلمين، وتحويلها إلى اسطنبول مذكيا نعرات قديمة تعود إلى أيام الحروب الصليبية. كما أن بشاعة الهجوم على المسجدين قد تبدو شاحبة، أمام بشاعة الهجومات المتعددة على ثلاث كنائس وثلاث فنادق في سريلانكا يوم 21 إبريل، التي خلفت 295 ضحية. الجريمة لا تبرر أخرى والإدانة يجب أن تكون شاملة لا انتقائية.

شهد عام 2019، ربيعا عربيا جديدا متجددا، نعتبره النسخة الثانية من الربيع المغدور به عام 2011، رغم التشكيك واستحضار نظرية المؤامرة

الهجمات المتتابعة على منشآت النفط في السعودية، كانت الحدث الأبرز في منطقة الخليج، بداية بمهاجمة ناقلات النفط الأربع في خليج عمان في مايو، تلاها بعد أسبوعين إسقاط طائرة أمريكة مسيرة ذاتيا، وصولا إلى أكبر عملية قصف لمنشآت أرامكو في منطقة الظهران بتاريخ 14 سبتمبر، التي أدت إلى خسائر جسيمة، ليس فقط في ما أحدثته من خراب، بل في تمكن خصوم السعودية من إلحاق الأذى في مركز العصب الحساس للسعودية. قررت بعدها الولايات المتحدة إرسال قوة عسكرية تقدر بثلاثة آلاف عنصر لترابط في منطقة الخليج، تتحدث الأنباء مؤخرا عن رفع العدد إلى 14000 مع نهاية العام.
شهد عام 2019، ربيعا عربيا جديدا متجددا، نعتبره النسخة الثانية من الربيع المغدور به عام 2011، رغم التشكيك واستحضار نظرية المؤامرة، التي لا يتمسك بها إلا من هم مهددون بخسارة مواقعهم وامتيازاتهم. لقد تشابهت الأحداث والتطورات، إلى حد بعيد بين النسختين. شهد هذا العام انتفاضة كرامة يقودها شباب الأمة طافت شوارع العالم العربي، بعد أن انطلقت الشرارة هذه المرة من السودان وعبرت كسابقتها الحدود فحطت رحاها في الجزائر، عاصمة العناد والشباب والبطولة، وانتقلت إلى بغداد بعد مرور عابر في عمان والقاهرة، ثم أفرغت حمولتها في لبنان، بلد الحرية والإبداع والتعددية العرقية والثقافية. شباب الأمة رفعوا أصواتهم عاليا ضد أوطان أسيرة، لطغمة فاسدة بغيضة كتمت أنفاس الشعوب، وضيقت هامش الحرية، وصادرت حقوق المواطن الأساسية، وعاملت الشعب كأنه غير موجود إلا في الشعارات، طالبت بطاعة ولي الأمر، ونزلت بالهراوات على رؤوس من يعارضها مرة، وبالرصاص القاتل والمناشير والبراميل المتفجرة، وحبال المشانق مرات. أنظمة بليدة متشابهة، فرطت بالأرض والشرف، ولم تحافظ على سيادة الوطن ووحدة أراضيه، وافتعلت معارك مع إخوتها وجيرانها، وأقامت الاحتفالات، ورقصت بالسيوف لمن دمروا الجار العربي.
ولأن الربيع في نسخته الأولى غدرت به قوى الردة والظلام والعسكر، ولم يفلت من الثورة المضادة إلا تونس، التي ظلت عصية على الانكسار، عاد الربيع العربي بطبعته الجديدة في أكثر من عاصمة، وبأكثر من شكل. تعددت الأشكال وتشابهت المطالب، سقط أولا الطاغية الأقبح عمر البشير، ولحق به نظام بوتفليقة الذي كان يشكل إهانة للشعب الجزائري، الذي تتجاوز نسبة الشباب فيه 70%، ثم أطيح في العراق ولبنان برئيسي الوزراء، وما زالت الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات. الربيع في طبعته الثانية ما زال قائما، وإن حقق نصف انتصار في السودان والجزائر، إلا أن الأمور لم تستتب بعد في لبنان، أو العراق الذي كرس مفهوم تاريخية العنف كما ثبتها المؤرخ باقر ياسين في كتابه «تاريخ العنف الدموي في العراق».
تكاد تكون القضية الفلسطينية الآن في أسوأ أوضاعها لثلاثة عوامل أساسية، أولها العامل الفلسطيني المتمثل في الانقسام الحاد الجغرافي والأيديولوجي، بين الضفة الغربية وغزة، أو بين حماس وحركة فتح، الذي انعكس على عزوف الشارع الفلسطيني عن التحرك بشكل جاد وواسع ومتواصل لمواجهة الاحتلال. كما أن الفصائل الأخرى أصبحت هامشية وتعمل على أسلوب «رد الفعل» لمسلكية الطرفين الأساسيين، بدون أن يكون لها أي دور فاعل في تحريك الشارع الفلسطيني. والبعد الثاني المتمثل في تغيير الأولويات العربية، وتسارع حدة التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، وتخاذل العرب في الوقوف مع عدالة القضية الفلسطينية والمبادئ التي توافق عليها العرب. لقد بدأ العديد من العرب مسيرة التخلي عن القضية الفلسطينية، وتُرك الفلسطينيون وإخوتهم الأردنيون في الساحة وحيدين وبقية الدول العربية كل يغني على مصالحه. أما البعد الثالث فوجود إدارة أمريكية تغالي في دعمها للتطرف الإسرائيلي أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، لدرجة أن ترامب وبخ بعض اليهود الأمريكيين واتهمهم بأنهم لا يحبون إسرائيل بما فيه الكفاية. لقد تابع ترامب الحرب التي أعلنها على الفلسطينيين، والتي بدأها يوم 6 ديسمبر 2017 عندما قرر أن يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ثم قام بإغلاق ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن. كما قررت هذه الإدارة الرعناء أن تعيد تعريف من هو اللاجئ الفلسطيني وتلغي حقه، وتشطب كلمة احتلال من أدبياتها. كما اعتبر وزير الخارجية بومبيو، أن المستوطنات لا تتعارض مع القانون الدولي. إن الإدارة الأكثر صهيونية في تاريخ الولايات المتحدة، تعمل الآن على اعتماد قانون لتسهيل هجرة الفلسطينيين من كل فلسطين لتبقى فقط للإسرائيليين.
الناس هنا مشغولون في اتفاقية «مناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة، المعروفة باسم «سيداو» التي انضمت إليها السلطة، وقد سمعت خطبة جمعة عن الموضوع وأنطق الشيخ الاتفاقية ما ليس فيها، انتظرته إلى أن خرج كافة المصلين وسألته: يا شيخنا هاجمت اتفاقية «سيداو» فهل قرأتموها»؟ فقال لا فقلت له فكيف تفتي في شيء ليس لك به علم؟
الشيء الإيجابي في نهاية هذا العام أن المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية السيدة فاتو بن سودة، بعد خمس سنوات أقرت بأن هناك أرضية للتحقيق في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبتها إسرائيل. لكن قبل تلك الخطوة طلبت من الدائرة التمهيدية حسم موضوع «ولاية المحكمة» على الأراضي التي تشكل السلطة الفلسطينية. وهي خطوة لئيمة ليست ضرورية، وستأخذ وقتا طويلا قبل حسم الجدل، ثم إذا ما أقرت مسألة الولاية، تبدأ مرحلة التحقيق.. لكن نحن نقر بأنها خطوة إيجابية وهناك ضرورة للمتابعة.
وكل عام وأنتم بخير.

القدس العربي