كثير من المتابعين للشأن العراقي يعتقدون أن العراق وقع يوم 9 إبريل 2003 تحت الاحتلال الأمريكي فقط، حيث شاهدوا جندي اليانكي يتسلق تمثال صدام حسين الكبير في ساحة الفردوس، ويغطي وجهه بالعلم الأمريكي. ومع رمزية هذه الحادثة، إلا أن العراق كان يتعرض لاحتلال بغيض آخر، وربما أكثر خطورة، لكنه تم بصمت وبدون رفع الأعلام أو إسقاطها. لقد تدفق مئات الألوف من الإيرانيين من الحدود المفتوحة التي تزيد عن 1400 كلم، خاصة من الجنوب قرب البصرة وشط العرب، حيث تقترب الضفتان كثيرا شكلا ومضمونا.
على الضفة العراقية كانت تماثيل الضباط العراقيين، الذين ضحوا بأرواحهم في حرب الثماني سنوات، يشيرون بأصابعهم إلى الضفة الأخرى يتقدمهم تمثال أكبر حجما للقائد العسكري الفذ عدنان خير الله، الذي حرر شبه جزيرة الفاو من الإيرانيين وأجبرهم على قبول وقف إطلاق النار، والذي وصفه الخميني بأنه «أقرب إلى تجرع السم»، لكن شعبية خير الله قربت أجله، حيث قتل بطريقة مشبوهة، مما لا يتسع المجال هنا لتلك التفاصيل التي يعرفها كثير من العراقيين جيدا.
موسم الهجرة إلى العراق
هرع الإيرانيون من الضفة الأخرى والتقوا بجماعاتهم من العراقيين، وقادوا حملة كبرى لإسقاط التماثيل وآلاف الصور، التي كان قد نشرها صدام ومريدوه في كل أنحاء العراق، وغيروا الأسماء والمعسكرات، وكل المعالم التي تشير إلى صدام. تدفق آلاف الإيرانيين إلى العتبات المقدسة، فما بقي بيت أو فندق أو زاوية أو تكية إلا وامتلأ بالإيرانيين، وبالتأكيد دخلت الأجهزة الأمنية الإيرانية ذات الأجندات المرسومة. كما عادت القيادات الفارة منذ سنين، بدون إذن من أحد فتواصلوا مع الأمريكيين، وتشكل على الفور نوعان من القيادة: قسم آتٍ على ظهر الدبابة الأمريكية، والقسم الآخر عائد عبر الحدود من إيران. فالتقى الطرفان تحت مظلة الحاكم الأمريكي بول بريمر، الذي كان يعرف ما يريد. كان بريمر يصدر الفرمانات على طريقة الملوك، ولم تكن قراراته الخطيرة صدفة، خاصة قراره الأول اجتثاث البعث، وقراره الثاني بحل الجيش العراقي في 23 مايو، ثم قراره الخطير بإنشاء مجلس الحكم العراقي، القائم على المحاصصة الطائفية والمكون من 25 شخصا، 13 شيعيا وخمسة أكراد وخمسة من العرب السنة وواحد مسيحي وواحد تركماني. الأمريكيون كانوا معنيين بتفتيت الدولة العراقية وضرب مكوناتها الإثنية والدينية بعضهم ببعض، خدمة للمخططات الصهيونية. أما إيران فكانت معنية بالاستيلاء على القيادة أولا ونشر أزلامها وميليشياتها ورجالاتها ومخابراتها في البلاد كافة، خاصة الجنوب، لقد تحولت مدن الحلة وكربلاء والنجف والناصرية، وإلى حد ما البصرة إلى مدن تخضع للسيطرة الإيرانية وأعوانها وممثليها ورجالاتها من العراقيين. أما القيادات العراقية الجديدة فغلب عليها طابع الفساد وتشاغلوا بالنهب وتحويل الفلوس إلى الخارج.
في لقاء مع وفد من الأمم المتحدة مع أحد رجال الدين الشيعة، الذي يحمل رتبة «آية الله» شكى طويلا لرئيس البعثة المرحوم سيرجيو فييرا دي ميلوا، الذي قتل في العراق، حول تدفق الإيرانيين إلى بلاده بدون رادع. «لماذا لا تحاول الأمم المتحدة حماية حدود العراق من إيران؟ كيف تتركون حدود العراق مفتوحة يتسرب منها المجرم وتاجر المخدرات، وأجهزة المخابرات والعصابات والجماعات التي تحاول أن تؤذي العراق؟». قلنا له إن حدودا تزيد عن 1400 كلم تحتاج إلى آلاف الجنود المدججين، فكيف لبعثة لا تزيد عن السبعين شخصا أن تقوم بهذه المهمة.. القادة العراقيون الوطنيون كانوا يشكون مرّ الشكوى من الأوضاع الجديدة. بعضهم قال لنا كنا تحت ديكتاتورية رهيبة، استبدلت باحتلالين أمريكي وإيراني. قال أحدهم لقد حاولنا إسقاط الديكتاتورية بالاغتيال وفشلنا، ثم حاولنا بالانقلاب وفشلنا، ثم حاولنا بالانتفاضة الشعبية وفشلنا، ولذلك أيدنا التدخل الخارجي، ولكن ليس على أساس أن يتم تسليم العراق بخيراته وموارده لإيران.
بدأ الإيرانيون ضمن مخطط مدروس ومعد له جيدا باغتيال كافة ضباط الجيش العراقي السابقين، وكافة الطيارين الذين شاركوا في حرب السنوات الثماني، فقد ذكرت وثيقة مسربة من وثائق ويكيليكس تحمل تاريخ 14 ديسمبر 2009 أن إيران شنت حملة منظمة لاغتيال الطيارين العراقيين، الذين شاركوا في قصف أهداف إيرانية خلال الحرب بين البلدين، وتمكنت من قتل 182 طيارا، وفرّ من البلاد نحو 800 آخرين. وفي الوقت نفسه نشط عملاء الموساد بمساعدة من وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي أي أيه) في استهداف العلماء العراقيين الذين ساهموا في صناعة التسليح العسكرية وإنتاج الأسلحة الكيميائية. وكشف تقرير صدر عن مركز المعلومات الأمريكي (2005) أن الموساد قام باغتيال 530 عالما عراقيا وأكثر من 200 أستاذ جامعي وشخصيات أكاديمية ما بين 2003 و2006، ويشير التقرير إلى أن جهاز «الموساد» جند 2400 عنصر محلي ودولي، إضافة إلى وحدة نخبة سرية تتضمن أكثر من 200 عنصر مؤهل من قوات البيشمركة، من أجل الإجهاز على العلماء وتصفيتهم. وقد نشر إسماعيل جليلي دراسة قيمة تحت عنوان «محنة الأكاديميين العراقيين» في موقع «شبكة البصرة» بتاريخ 14 ديسمبر 2007 جاء فيها أن «الموساد» الإسرائيلي شنّ 307 اعتداءات على الأكاديميين والأطباء، وتمكن من اغتيال 74% منهم.
عندما توصل الأمريكيون إلى قناعة بأن فيتنام جديدة تكتب صفحاتها في بغداد وأخواتها، عملوا على ضرب السنة بالشيعة في العراق
لقد تواءمت المصالح الأمريكية والإيرانية تماما في تلك الفترة، بينما كان القوميون والبعثيون والإسلاميون الوطنيون، يطلقون أعظم حركة مقاومة ضد المحتلين، ولم يوجهوا بنادقهم يوما إلا إلى الجنود الأمريكيين. وعندما توصل الأمريكيون إلى قناعة راسخة بأنهم لا شك مهزومون، وأن فيتنام جديدة تكتب صفحاتها في بغداد وأخواتها، أعادوا حساباتهم وعملوا على ضرب السنة بالشيعة في العراق. فقاموا بتأديب مقتدى الصدر أولا، لأنه تضامن مع مقاومي الفلوجة أثناء حصارها في نوفمبر 2004، ردا على وصول متطوعين من المقاومة لنصرة مدينة النجف والحلة أثناء الهجوم عليها من إبريل إلى أغسطس 2004. عقد بعدها الجنرال براميتس صفقة مع العشائر تحت ما سمي بالصحوات، للابتعاد عن صنيعتهم «أبو مصعب الزرقاوي» ثم جاءت حادثة تدمير المقامين المقدسين للإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء في فبراير 2006، لتتحول بعدها المواجهات الدامية بين السنة والشيعة. في تلك الفترة بنيت الميليشيات الشيعية، والتي كانت تهدف أصلا لا مقاومة الأمريكيين بل للانتقام من السنة، تحت حجة مقاومة الإرهابيين من أنصار القاعدة. تلك كانت فترة شهر العسل بين أمريكا وإيران، لدرجة أن أول من زار بغداد وهي تحت الاحتلال الأمريكي كان محمود أحمدي نجاد، يوم 2 مارس 2008.
الحراك الشعبي في كل من العراق وإيران
إن الذي غير معادلة التعايش بين الولايات المتحدة وإيران هو الحراك الشعبي في العراق وإيران، حيث واجه النظامان تحديا حقيقيا. ففي العراق انفجرت الجماهير ضد الطغمة الفاسدة وحماتها من الإيرانيين، الذين استفادوا من منظومة الفساد، خاصة في قطاعي البترول والكهرباء. فقد طالبت الجماهير بـ»دولة حرة حرة وإيران تطلع برّة». فانبرت لها الميليشيات بالنار تجندل المئات، أما الحراك في إيران فيطالب بحقوقه الأساسية بعيش كريم، بعد أن شهدت البلاد ما هو أقرب للانهيار الاقتصادي بسبب الحصار. فما كان أمام الميليشيات الإيرانية، حزب الله العراقي والحشد أساسا، وبأوامر من إيران، إلا التصعيد المنضبط مع الولايات المتحدة، ابتداء من 15 أكتوبر 2019. هذا التصعيد وصل حد المواجهة المباشرة بعد مقتل أمريكي (من أصل إيراني) والرد بقصف عدد من المعسكرات يوم 29 نوفمبر، أدت إلى مقتل أكثر من 30 عنصرا من الحزب غرب العراق، أعقبت ذلك مسيرات حاشدة ضد السفارة الأمريكية، وانتهى الأمر بمقتل قاسم سليماني، وإطلاق زخات من الصواريخ الإيرانية على قاعدتين أمريكيتين لم يقتل فيهما أحد. إيران حاولت استثمار مقتل سليماني بتوحيد الأمة خلفها، وحكومة العراق حاولت أن تستثمر الحادثة بمحاولة الظهور وكأنها دولة مستقلة، فطالب البرلمان الحكومة بالعمل على إنهاء الوجود الأجنبي في البلاد. كلا البلدين فشلا في أهدافهما فقد عاد الحراك إلى شوارع طهران، خاصة بعد حادثة الطائرة الأوكرانية، كما عاد إلى بغداد وبقوة دفع أكبر.
ما كشفته الأحداث الأخيرة هو رفع الغطاء عن ترابط الاحتلالين، وأن امتصاص النقمة ضد حكومة فاسدة في بغداد وحكومة مستبدة في طهران قد فشل، وأن الحراك الشعبي في البلدين، رغم المخاوف التي يتعرض لها المشاركون، مستمر حتى إشعار آخر. وإلى أن ينتصر الحراك في العراق ستظل البلاد تحت الاحتلالين. فمتى يفيق الشعب العراقي من أقصى البلاد إلى أدناها وينفض عنه غبار «الانصياع والتبعية» ويعود العراق وليس فيه جوع، كما حلم شاعره العظيم بدر شاكر السياب قبل أكثر من ستين عاما.
عبدالحميد صيام
القدس العربي