مع كل الدعوات لمكافحة الفساد في العراق، ومع استمرار الاحتجاجات العارمة التي خلفت 500 ضحية، وأكثر من 20 ألف مصاب سقطوا منذ الاول من تشرين الاول/ اكتوبر 2019، يصدر قراران مستفزان، يكشفان إمعان الطبقة السياسية في الاستهزاء بأرواح الناس، فالقراران ينصان على تكليف رئيس المفوضية العليا المستقلة للانتخابات السابقة، وأحد أعضاء المفوضية، التابعين لرئيس مجلس النواب العراقي الحالي، وكيلي وزيري التربية والتجارة على التوالي !
بعد إعلان نتائج انتخابات مجلس النواب في العام 2018، تبين على نطاق واسع، ان حجم التزوير المنهجي في هذه الانتخابات، قد فاق ما جرى من تزوير في الانتخابات السابقة جميعها، وهو ما استدعى جملة من الإجراءات الرسمية تجاه المفوضية، بداية من قرار مجلس الوزراء بتشكيل لجنة على مستوى عال للتحقيق في تزوير الانتخابات برئاسة رئيس ديوان الرقابة المالية، وعضوية رئيس هيئة النزاهة (وهما أعلى سلطتين في الدولة لمكافحة الفساد)، ومعاون رئيس جهاز المخابرات الوطني، ومعاون رئيس جهاز الأمن الوطني (وهما أعلى سلطتين أمنيتين في الدولة)، فضلا عن وكيل وزير الداخلية لشؤون الشرطة. وقد أوصت اللجنة بضرورة مساءلة رئيس وأعضاء مجلس المفوضين انضباطيا، وتوقيع إحدى العقوبات الإدارية الواردة في قانون انضباط الدولة، وهي عقوبات تصل إلى حد العزل من الوظيفة، وذلك بسبب «تلكئهم في متابعة الرقابة وضبط السلوكيات الوظيفية لبعض من مدراء مكاتبها في الخارج وأقرانهم في الداخل»! كما أوصت بإحالة المدراء العامين لمكاتب انتخابات الأنبار وصلاح الدين، ومدراء مكاتب تركيا والأردن « إلى القضاء لاهمالهم في أداء واجبهم الوظيفية، و«اتيانهم بأفعال خطيرة تجعل بقاءهم في الوظيفة مضرا بالمصلحة العامة»!
ولكن الفقرة الأهم في هذا التقرير، كانت الإشارة إلى أن المفوضين في مجلس المفوضين الذي يدير المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، منذ تأسيسها، «كان يجري ترشيحهم عبر التوافقات بين الكتل البرلمانية»! وهو اول اعتراف رسمي بأن مفوضية الانتخابات كانت مجرد «ممثلية للأحزاب»، وبأن مهمتهم الأساسية كانت ضمان التزوير لأحزابهم وليس إنتاج انتخابات نزيهة وشفافة!
ولم يقتصر الأمر على اللجنة التحقيقية وحسب، بل وصل الأمر إلى إصدار قانون في مجلس النواب قضى بايقاف اعضاء مجلس المفوضين، والمدراء العامين لمكاتب الانتخابات في المحافظات كافة عن العمل «لحين الانتهاء من التحقيق في جرائم التزوير التي أشار اليها قرار مجلس الوزراء»، وانتداب قضاة لإدارة مجلس المفوضية ومكاتب المحافظات بدلا عنهم، وإعادة العد والفرز بالكامل (أجهضت المحكمة الاتحادية هذا القانون بطريقة مريبة عندما حولت نفسها إلى جهة تشريعية وقررت العد والفرز الجزئي الذي اختص بالطعون حصرا، وهو ما عكس تواطؤ المحكمة الاتحادية نفسها مع هذا التزوير)!
عندما تكافئ الدولة فاسديها فإنها تثبت، بطريقة لا جدال فيها، من أن الفساد في العراق ليس فسادا مرتبطا بالأفراد، بل هو فساد مؤسسي وبنيوي في الدولة ككل، كما انه جزء من بنية النظام السياسي نفسه، مما يجعل عملية الإصلاح مستحيلة دون إعادة هيكلة هذا النظام وبنيته بالكامل
والملاحظة التي لا بد من الإشارة اليها هنا، انه بعد إجراء العد والفرز الجزئي، وعلى الرغم من الغاء العديد من المراكز والمحطات الانتخابية الوهمية، أو التي شهدت تزويرا واسعا، لم يعاقب أحد من «المزورين»! بل سمح لهم بالوصول الى البرلمان ليتحولوا إلى مشرعين! على سبيل المثال ألغت المفوضية المؤقتة أكثر من 8 آلاف صوت لأحد المرشحين في محافظة الأنبار، ومع هذا سمح له بأن يكون نائبا من دون أن يتم مساءلته عن هذا التزوير الصريح! والأهم من ذلك ان مفوضية القضاة نفسها، قد تلاعبت بعملية توزيع المقاعد بطريقة متعمدة، ضمانا لوصول بعض المزورين إلى البرلمان، وذلك عندما امتنعت عن تنفيذ نظام توزيع مقاعد مجلس النواب رقم 12 لسنة 2018، وهو ما أتاح للمرشح المذكور أعلاه نفسه، الذي الغي له 8 آلاف صوت مزور، من الوصول إلى مجلس النواب، ولو طبق هذا النظام كان سيحرم من ذلك (ما زال هذا النائب موجودا في مجلس النواب حتى بعد قرار المحكمة الاتحادية بضرورة تطبيق هذا النظام وذلك بسبب مماطلة رئيس مجلس النواب في عرض الطعن في صحة عضوية هذا النائب، المحسوب عليه، في مجلس النواب، وهي خطوة لا بد منها دستوريا قبل الذهاب للطعن لدى المحكمة الاتحادية)!
وعلى الرغم من ذلك كله، استطاع الكارتل الذي يسيطر على الدولة /السلطة أن يفرض الأمر الواقع على الجميع، في ظل تواطؤ جماعي، كانت المحكمة الاتحادية والقضاء طرفا فيه! لهذا لم يكن مفاجئا ان كل العقوبات التي تم اتخاذها، قد الغيت لاحقا، بعد ان هيمن «المزورون» على سلطة القرار، تحديدا في مجلس النواب العراقي، وعادت المفوضية والمدراء العامون، والمدراء المعزولون إلى عملهم بكل سلاسة!
بعد اندلاع حركة الاحتجاج، كان تغيير المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، بسبب «إدراتها» للتزوير واسع النطاق في انتخابات 2018، مطلبا رئيسيا، وكان المرجع الأعلى السيد علي السيستاني نفسه، قد تعرض لهذه المسألة، عندما طالب بمفوضية جديدة «يوثق بحياديتها ومهنيتها وتحظى بالمصداقية والقبول الشعبي»، وهو ما يعكس موقفا صريحا ضد المفوضية القائمة، خاصة إذا ما ربطنا بين هذا التوصيف، وحديثه عن ضرورة إعادة ثقة المواطنين بالعملية الانتخابية.
يبدو إذا، أن الممارسات الزبائنية لا تزال تحكم الدولة العراقية، من خلال عملية «تدوير» أعضاء مفوضية الانتخابات السابقة بطريقة مكشوفة وواضحة للجميع،، وأن حركة الاحتجاج، لم تنجح حتى اللحظة في فرض مطالبها الإصلاحية على كارتل الدولة/ السلطة، وأن منطق الصفقات القائمة على الفساد لا يزال يحكم النظام السياسي في العراق، وهو ما أتاح لوزراء في حكومة مستقيلة مهمتها «تصريف الامور اليومية» إصدار هكذا قرارات بتعيين وكلاء وزراء، دون ان تكون لهم صلاحية بذلك (المفارقة هنا أن اول قرار لحكومة السيد عادل عبد المهدي كان إلغاء كل القرارات التي صدرت عن رئيس مجلس الوزراء السابق في فترة إدارة حكومة تصريف امور يومية بعد انتهاء ولاية مجلس النواب السابق)، كما أن هذه القرارات فضحت العلاقة بين الفاعلين السياسيين وأعضاء مفوضية الانتخابات السابقة، وعمليات التخادم بينهما التي أتاحت لهؤلاء المفوضين، الإفلات من العقاب، كما يثبت أن عمليات التزوير المنهجية الواسعة التي جرت لمصلحة هؤلاء الفاعلين، إنما كانت نتيجة منطقية لهذه العلاقة.
عندما تكافئ الدولة فاسديها فإنها تثبت، بطريقة لا جدال فيها، ما كنا نقوله دائما، من أن الفساد في العراق ليس فسادا مرتبطا بالأفراد، بل هو فساد مؤسسي وبنيوي في الدولة ككل، كما انه جزء من بنية النظام السياسي نفسه، مما يجعل عملية الإصلاح مستحيلة دون إعادة هيكلة هذا النظام وبنيته بالكامل.
يحيى الكبيسي
القدس العربي