تناول موقع أوريان 21 الفرنسي الأزمة التي تأججت في الأسابيع الأخيرة بين إيران والولايات المتحدة بعد مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، وقال إنها ليست سوى حلقة جديدة في تاريخ لا يحصى من الأزمات، كان العراق أهم مسرح لها منذ 1979.
وأشار الباحث ماتيو راي في مقال نشره الموقع أمس إلى أن مقتل سليماني كان له أثر شديد ونتجت عنه ردود فعل قوية حول العالم، مشيرا إلى أن الحدث غير مألوف إذ يعترف فيه رئيس أميركي باغتيال مسؤول رفيع لبلد عدو للولايات المتحدة.
ويتساءل الباحث “هل يعني هذا شرارة انطلاق حرب عالمية أو إقليمية أم أننا نعيش عودة التاريخ الذي يربط -منذ سنة 1979- الولايات المتحدة وإيران بالمسرح العراقي؟”.
نهاية مذهب كارتر
ويرى الباحث أن 1979 كانت سنة مفصلية بالنسبة للشرق الأوسط، فقد انطلقت برحيل شاه إيران بعد أشهر عديدة من التعبئة المتواصلة، وعودة آية الله الخميني من المنفى. وفجأة، شهدت الأيديولوجيا الأميركية التي نضجت بروية منذ الحرب العالمية الثانية، شرخا مهما.
ويمثل هذا الحدث نهاية منطقية لسياسة جميع الرؤساء الأميركيين منذ الرئيس فرانكلين روزفلت، وهي سياسة “شرطيي الخليج”، كما عينهما مذهب الرئيس جيمي كارتر، أي: إيران والسعودية، حيث يتمرد أحد “الشرطيين” ضد حاميه، بل يتحداه من خلال ثورة مناهضة للإمبريالية وبتأسيس الجمهورية الإسلامية.
بل أسوأ من ذلك، تجرأ الفاعلون الأساسيون في هذه الثورة على التهجم على رمز هذه القوة العظمى من خلال السطو على سفارتها. وهكذا بدت الأزمة الإيرانية في أعين الرأي العام الأميركي كآخر درج مؤد إلى السعير، بعد الهزيمة الفيتنامية وفضيحة ووترغيت، فكانت الإجابة من خلال التخطيط التدريجي لسياسة الاحتواء والردع، كتلك التي وضعت ضد الاتحاد السوفياتي سنة 1945.
بدأت هذه المراجعة للسياسة الأميركية دون تعديل الأهداف الأساسية المتمثلة في حماية مصادر الطاقة الأساسية في المنطقة والمحافظة على دعم ثابت لإسرائيل، ووجب التصدي للتأثير الإيراني في كل مكان.
التقرب من صدام
ويرى الباحث أن هذا التغيير في المنهج السياسي نتج عنه تطور جديد في المنطقة، إذ بدأ الرئيس العراقي صدام حسين -الذي تسلم السلطة صيف 1979- في التقرب من واشنطن، رغم أن البلدين قطعا علاقاتهما الدبلوماسية منذ حرب يونيو/حزيران 1967. وعندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية في سبتمبر/أيلول 1980، حظي العراق بدعم أميركي غير معلن.
وهكذا بدأت علاقة ثلاثية جديدة، إذ باتت الولايات المتحدة مستعدة لتسليح ودعم ومد القوات العراقية بالمعلومات في حربها ضد إيران، وذلك باسم عداوة واشنطن لطهران، بل أكثر من ذلك، وبعد نقاشات مطولة، أعادت واشنطن علاقاتها الدبلوماسية مع بغداد سنة 1985، بينما كانت الحرب مع طهران قد بلغت ذروتها.
وقد انتهت هذه العلاقة الثلاثية -التي أدت إلى إلحاق الخراب بالعراق وإيران- بانتهاء الحرب سنة 1988، ووفاة الخميني، رمز المعركة ضد أميركا.
لكن بعدها بسنتين، أرسل صدام حسين جيشه لغزو الكويت، مما جعل واشنطن تؤسس لتحالف واسع لطرده من هذه الدولة. وهكذا أضحت الولايات المتحدة وإيران -بطريقة غير معلنة، إذ لم تكن طهران طرفا في هذا التحالف- في نفس المعسكر المعادي للعراق؛ لكن هذا لا يكفي لتصالح أعداء الأمس، كما برهنت على ذلك الأحداث التي تلت سنة 1990.
فرضت الأرضية العراقية نفسها كمسرح لهذا الصراع غير المباشر، وقد رحبت إيران بلاجئي الانتفاضة العراقية بعد حرب الكويت عام 1991 التي قمعها صدام حسين بعنف شديد دون أن يحرّك التحالف الدولي ساكنا.
وبعد تحرير الكويت وتلك الانتفاضة، عمدت الولايات المتحدة إلى وضع العراق تحت الوصاية من خلال فرض مناطق حظر الطيران في الشمال والجنوب، وحصار شديد على الشعب العراقي. كما سعت أن تدفع باتجاه تغيير النظام، لكن النظام العراقي اغتنم الموقف لإيجاد موارد جديدة ضرورية لبقائه.
وبعد ذلك أصبح العراق يتعرض بانتظام لحملات قصف لكن دون جدوى، وبات صدام حسين بالنسبة للأميركيين -كما الإيرانيين- تشخيصا للمعضلة الحقيقية لمنطقة الخليج.
تغيير النظام
وفي أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول، قررت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن تغيير النظام العراقي، وهنا يبدأ فصل جديد في العلاقات الإيرانية الأميركية. إذ -كما ذكر مؤخرا المؤرخ الفرنسي جان بيار فيليو- كل تراجع أميركي وسط الفوضى التي سببها الاجتياح العنيف، يعود بالمنفعة على إيران.
فقد استفادت طهران من التناقضات الأميركية غداة الإطاحة بصدام حسين، ونجحت في التسلل إلى العراق من خلال الشروخ التي فتحتها إعادة الهيكلة الداخلية للبلاد وفق المعايير الأميركية للديمقراطية. فقد شرع الفاعلون المحليون في البحث عن حلفاء أجانب بهدف تعزيز مكانتهم على الساحة الوطنية، وبات الصراع بين إيران والولايات المتحدة يحتد من خلال ممثلين عنهما.
استفادت إيران كليا من إعادة الهيكلة السياسية، إذ ما لبثت الشعارات التي تحث على التحول الديمقراطي في العراق أن أسفرت عن تقسيم طائفي شديد للمشهد السياسي، وقد شجعت واشنطن هذه الظواهر، ولا سيما خلال الانتخابات التشريعية، ظنا منها أنها تكسر بذلك قمع السنوات السابقة ولا تحد من حرية أحد، دون أن تعي أن المشهد البرلماني سينقسم وفق هذه الانتماءات الطائفية والعرقية.
كان الفائز الأساسي بانتخابات 2005 في العراق داعيا لعنف طائفي أدمى البلاد، وهكذا بدأت سلسلة متعددة من الاصطدامات أفقدت الأميركيين السيطرة على البلاد: سنة ضد شيعة، وشيعة ضد شيعة، وعناصر من تنظيم القاعدة ضد الأميركيين، ومسلحون عراقيون ضد الأميركيين، لم تفتأ نقاط التشابك في التزايد لتجبر القوة الراعية على مراجعة جهاز سلامتها ثم نظرتها لفترة ما بعد صدام.
غيّر وصول الجنرال ديفيد بتريوس في يناير/كانون الثاني 2007 من توجه السياسة الأميركية، إذ أعطى الأولوية للتأطير الحضري للحفاظ على استقرار المدن، كما تمت دعوة قادة العشائر للمشاركة في الحرب على تنظيم القاعدة بمقابل مالي، أو ما عرف بتجمعات “الصحوة”.
في 2010، واصلت الحكومة الجديدة التي يترأسها نوري المالكي سياسة الانتماء الإقليمي وعودة الاستبداد. وقد استفاد المالكي من رحيل القوات الأميركية في 2011 واعتزم تهديد القوات الأخرى الفاعلة في البلاد، بناء على خطاب مكافحة الإرهاب.
وهكذا توقفت فجأة تجمعات “الصحوة” التي كان زعماء العشائر يستفيدون منها، فرحل كثير منهم إلى بلدان الخليج حيث يمكنهم التمتع بالثروة التي جمعوها، وتركوا وراءهم أفراد عشائرهم في مواجهة مضايقات وتهديدات قوات مكافحة الإرهاب. وفي هذا السياق، نجح بعض الناشطين الإسلاميين في جمع مؤيدين وأنصار وتأسيس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق الذي نما بسرعة واستولى على العديد من المناطق.
تنظيم الدولة
يبدأ فصل جديد في هذا الصراع عندما تجد الحكومة العراقية نفسها في ربيع سنة 2014 في مواجهة التقدم السريع لتنظيم الدولة الذي نجح في الانتصار على القوات العراقية التي نخرتها السياسات القمعية والانقسامات، في الفلوجة أولا ثم في الموصل.
وقاد توسع رقعة تنظيم الدولة -ولا سيما في سوريا- وبداية إعداماته المثيرة لغربيين، إلى عودة الولايات المتحدة وحلفائها. وشهدت الساحة العراقية تطورا خاصا، إذ باتت إيران والولايات المتحدة -رغم اختلافهما في جميع الملفات بالمنطقة- تساندان نفس الفاعلين العراقيين وباسم قضية مشتركة وهي: مكافحة الإرهاب.
في آخر المطاف، طُرد تنظيم الدولة من الأراضي العراقية بفضل تعبئة هائلة لوسائل تقنية غربية وموارد بشرية عراقية، لكنها لا تزال تحظى بوجود سري ناشط.
لكن انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب غيّر الوضع، فخطابه يختلف عمن سبقه، لكنه في الوقت نفسه لا يبدو صاحب رؤية ذات أهداف سياسية واضحة.
وقد أظهرت الإدارة الجديدة -لأسباب داخلية- ارتباطا قويا بحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ودعمتها في أكثر من مناسبة، وقد كان الحد من التأثير الإيراني من مظاهر هذا الدعم، كما تجسد ذلك من خلال السماح لإسرائيل بمضاعفة الضربات ضد حزب الله أو ضد المنشآت الإيرانية في سوريا، لكن الثقل الروسي -وروسيا أيضا حليف لإسرائيل- حد من هذا التصعيد.
وفي نهاية العام الماضي، كان للوضع السوري مرة أخرى تداعيات على المسرح العراقي، إذ قصفت الولايات المتحدة كتائب حزب الله التابعة للحشد الشعبي في محافظة الأنبار على الحدود السورية العراقية.
وخلال جنازة قتلى القصف في بغداد، خرجت الأمور عن السيطرة في المنطقة الخضراء وتم الهجوم على السفارة الأميركية، مما دفع بالرئيس ترامب إلى إعطاء الأمر باغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، نائب رئيس الحشد الشعبي.
بعدها بأيام، قصفت إيران قواعد أميركية في العراق، لتصبح بلاد الرافدين مجددا مسرحا للعبث الإيراني الأميركي.
وبينما يشهد العراق انتفاضة مهمة تدعو الشعب إلى استعادة السيطرة على مصيره، فإن 40 سنة من التاريخ تعود فجأة لتصبح حدث الساعة. إذ ما فتئت إيران والولايات المتحدة منذ 1979 تستعملان الأرض العراقية لتعديل نفوذهما وتأثيرهما في المنطقة، وها هي طبول الحرب تقرع أمام شعب يتخبط مع موروث من الحروب والاستبداد منذ سنة 1979، ومع وضع إقليمي معقد.
المصدر : أوريان 21