نشر باحث إسرائيلي دراسة عن الإعلام العبري ودوره في تشكيل الوعي الزائف، ترجمها هشام نفاع للعربية لصالح المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، وفيها كشف عن دور خطير جدا لهذا الإعلام في تأجيج العدوانية والكراهية.
يستهل الباحث الإسرائيلي يزهار بئير مدير عام ومؤسس مركز “كيشف” دراسته المطولة جدا بالقول: “في الحملة الانتخابية الإسرائيلية لعام 1999، تنافس بنيامين نتنياهو أمام إيهود باراك، وفي محاولة أخيرة ويائسة للحفاظ على حكمه فعّل ما صار يعرف لاحقاً باسم “هوس نتنياهو بالإعلام”، وذلك عندما خرج، على النقيض من قواعد اللعبة ومن القانون، لتنشيط ناخبيه في يوم الانتخابات نفسه، من خلال سبع محطات إذاعية غير مرخصة تابعة لليمين. كان ذلك قبل عهد شبكات التواصل الاجتماعي”.
كما يقول إنه في الحملة الانتخابية التالية، عام 2001، وقفت أمام رئيس لجنة الانتخابات المركزية القاضي ميشئيل حيشين وبيدي شريط لخطاب نتنياهو في يوم الانتخابات السابقة، ورجوته أن يعطيني دقيقة لإسماع جزء منه، للتحذير مما هو متوقع في هذه الانتخابات. وبعد نصف دقيقة فقط من الاستماع إلى الشريط رأيت كيف أن شرايين عنق القاضي الأشقر نزق الطباع كادت أن تتفجر.
وعلى الفور أمر الشرطة باستدعاء مديري محطات الإذاعة غير المرخصة، تحت التهديد باعتقالهم، وهم الذين لم تكن إسرائيل تعرف من هم حتى ذلك الحين. وقد قبلت لجنة الانتخابات الالتماس الذي قدمته “كيشف” وأمر القاضي حيشين بقطع بث تلك المحطات في يوم الانتخابات”.
وحسب الدراسة كانت هذه المحطات بمثابة جيوب اجتماعية، وفقاً لتعريف البروفسور عمانوئيل سيفان، إذ لم تكن معروفة لعموم الناس، لكن فعالية استخدامها السياسي بشّرت بهوس نتنياهو الإعلامي، الذي سيتعاظم من دورة انتخابية إلى أخرى. ويضيف: “في هذا القضية وفي سواها، يمكن العثور على المسدس الذي سيطلق النار في الجولات القادمة”.
هناك أخبار تجعل الناس يعرفون أقلّ
ويرى بئير أنه يجب النظر إلى الصورة الواسعة، فكل باحث جدير بلقبه يفهم أنه ليس للتاريخ بداية حقاً. لا يهم أين بدأت القصة، فهناك دائماً أبطال سابقون ومآسٍ سابقة، كما تقول الأميرة إيرولان في مقدمة “فرقة الجهاد البتلرية”.
ويقول إن نتنياهو هو أحد الأبطال، لكنه ليس البطل الوحيد. البطل الرئيسي في بحثنا هو السرديّة، حيث أن كلمات الوعي الحقيقية تبدأ بالكذبة الأولى”، موضحا أن قدرة وسائل الإعلام على تشكيل وعي زائف لا تتطلب الكذب بالضرورة، بل يمكن تحقيق النتائج أيضاً عن طريق حجب معلومات وتشجيع الجهل، لأن الجهل لا يقل غائيّة عن الوعي. منبها إلى أن شغف الجهل هو أقوى شغف في حياة الشخص وأقوى من الشغفين الآخرين، الحب والكراهية، كما قال المحلل النفسي والمنظّر الفرنسي جاك لاكان.
ويستذكر دراسة استقصائية أجرتها جامعة فارلي ديكنسون في نيوجيرزي، ووجدت أن هناك أنباء تجعل الناس يعرفون أقل. ووجدت أنه بعد مشاهدة منهجية لقناة فوكس نيوز، كان مشاهدوها أقل معرفةً ودرايةً بالحقائق مقارنة بمجموعة اختبار لم يستهلك مشاركوها أية أخبار على الإطلاق. وبالتالي، فإن وسائل الإعلام لديها القدرة ليس فقط على تأطير الواقع وملء وعي المستهلكين بالمضمون والفهم، بل يمكنها أيضاً اختراق عقولهم وإفراغها من المعلومات والفهم السياسي.
ويواصل استحضار أمثلة تاريخية: “في الأول من آب 1934، كان الرئيس الألماني بول فون هيندنبيرغ يحتضر في فراشه، كان يخشى أن يسارع هتلر إلى توحيد منصبي المستشار والرئيس ليصبح الحاكم المطلق. في اليوم نفسه، كتب الصحافي والناقد الأدبي فيكتور كليمبرر في مذكراته كيف تم إخفاء أي خبر عن هيندنبيرغ في الصفحات الأولى للصحف”.
وقال إن “النازيين قامروا بمخاطرة كبرى على غباء الجمهور”. ويقول بئير إن الصحف همّشت حقيقة احتضار الرئيس، وما قد يحدث، وخدّرت الجمهور والجهاز السياسي، وفي اليوم التالي مات هيندنبيرغ، وسيطر هتلر على منصب الرئيس أيضاً وأصبح دكتاتورا.
مثلما تملي الصحافة من خلال التغطية ما هو “المهم”، فإنها كذلك تحدد من خلال عدم التغطية “غير المهم”. لقد فهم كليمبرر قوة بلورة الوعي من خلال فعل التحرير، وميل وسائل الإعلام المتأصل إلى تفضيل وجهة نظر السلطة ومجموعات النخبة، قبل أكثر من سبعين عاماً من ابتكار إيهود باراك وأريئيل شارون معادلة “ليس هناك شريك”، وقبل أن يسلم شيلدون إدلسون أول مليون إلى صحيفة “يسرائيل هيوم” الاسرائيلية المقربة من نتنياهو.
ومن هنا يستنج بئير أن المعرفة محدودة، بينما الجهل دائماً لا نهائي، وهذا ما يعرفه جميع مروّجي نظريات المؤامرة. لذلك، لا تنظروا فقط إلى ما ترويه لكم الصحافة، بل أيضاً إلى ما لا ترويه، والأهم من ذلك، كيف ترويه -هل تهمّش أم تبرز مكونات القصة كما يحلو لها لدرجة عدم روايتها بالمرة- وربما أسوأ من ذلك، هل تقود قراءها ومشاهديها إلى حياة يلفّها الضباب الترفيهي والكليشيهات السياسية التي تلهي العقل، مع عدم إثبات أي من مكوّنات القصة؟ وعلى الرغم من جميع الاختلافات عن فترات أخرى وأماكن أخرى، فإننا بالذات نعيش هذا الوضع.
السرديّة- ما هي القصة التي نرويها لأنفسنا؟
ويوضح الباحث الاسرائيلي ان مركز “كيشف” بدأ في عام 2004، مشروع مراقبة منهجية حول تغطية وسائل الإعلام الإسرائيلية المركزية للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، تحت إشراف الباحث الإعلامي واللغوي الدكتور دانيئيل دور. منوها أن من تابع الدراسات كان بوسعه معرفة كيف تم بناء الكوارث اللاحقة من خلال اعتماد سرديات إشكالية ولكن مريحة في حينه.
ويضيف: “يمكن للمرء أن يرى، كما في المأساة اليونانية، مدماكا فوق الآخر، كيف أن سردية (انعدام الشريك)، التي ولدت في الدهاليز السياسية وتم تبنيها في الخطاب الإعلامي السائد، تقود الرأي العام الإسرائيلي إلى الدعم الهائل للانسحاب الأحادي الجانب من غزة، بدون اتفاق، ومن خلال تحقير السلطة الفلسطينية. وفي النهاية، شجّعت سيطرة حركة (حماس) على القطاع”.
القاتل رقم واحد
وحسب الدراسة الاسرائيلية يمكن أيضاً رؤية كيف أن المنطق الداخلي لـ”انعدام الشريك” بدأ يطلق أفكارا لصرف ياسر عرفات، “القاتل رقم واحد”، تحضيرا لخلفه، أبو مازن، الذي سيصبح بدوره “فرخاً بدون ريش”، غير قادر على أن يكون شريكاً هو الآخر.
نفس المنطق الداخلي للسرديّة التي عززتها وسائل الإعلام وتبناها الرأي العام سمحت لنتنياهو بشطب الأسئلة حول السلام والمصالحة وإنهاء الصراع، تماما من الأجندة الوطنية لأجيال. ويضيف “بطلنا الرئيسي، أي السردية، لا تعتمد بالتالي على شخص واحد أو أكثر. إنها نتاج نسيج متشابك لمصالح سياسية واقتصادية، وتأثيرات ثقافية ودينية، ومخاوف جماعية، وتذكيتها من قبل أصحاب المصلحة في دوامة من العنف”.
لتلخيص السنوات العشر من مشروع “كيشف”، كتبت د. هاجر لاهف وشيري إيرام دراسة ما- قبل- سردية بعنوان “ليس هناك من تتحدث إليه- ليس هناك ما نفعله”، تستند إلى تحليل عرضي لأبحاث “كيشف” حول الصراع منذ آخر أيام ياسر عرفات حتى عملية “عمود السحاب” في غزة العام 2012 – الدراسات شملت التحليل النوعي لنحو 35000 خبر ومقال وتعليق وعامود رأي.
وأظهرت الدراسة أن وسائل الإعلام الإسرائيلية قدمت في مركز التغطية، صورة متشددة تدعم الحرب وتعرب عن عدم ثقتها في التسويات السياسية.
وتقول الدراسة هذه هذه التغطية المهيمنة، التي ظهرت في عناوين الصحف والعناوين التلفزيونية، أزالت مسؤولية إسرائيل عن النزاع وألقت باللوم على الفلسطينيين وحدهم في ارتكاب العنف.
وتتنبه الدراسة أنه على هامش التغطية، كانت هناك أصوات تتحدى هذه النظرة وهذا يعني أن وسائل الإعلام كان لديها أيضاً حقائق وتعليقات تتناقض مع النظرة السائدة، لكن تم استبعادها بانتظام من التغطية. أبقيت على الهامش، بحروف صغيرة في الصحف وفي أعماق نشرات أخبار قنوات التلفزيون، بعيدا عن أعين واهتمام مستهلكي الأخبار.
حجب المعلومات
أما دراسات “كيشف” فقد أظهرت برأي بئير العديد من الطرق التي يبني بها الإعلام الإسرائيلي وجهة نظر مهيمنة، تكون فيها إسرائيل الجانب الإيجابي للنزاع، بينما الفلسطينيون هم الجانب العدواني، الجانب السلبي في المعادلة. وللتدليل على ذلك يشير على سبيل المثال لدعْم وسائل الإعلام المستمر لقرار الشروع في العمليات العسكرية.
وينوه بالقول “كان الطلب على السماح للجيش الإسرائيلي “بالقيام بعمله” و”معالجة العدو” في مركز التغطية الإعلامية. وعندما كانت وسائل الإعلام تنتقد الجيش، فإن هذا نقد تكتيكي وتقني بالأساس.
وخلال العمليات العسكرية، اعتبرت الجهات العسكرية والمتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي المصدر الرئيسي للمعلومات، ولم تظهر مصادر بديلة في التغطية، ولم يتم إجراء تحقيقات صحافية مستقلة في موضوع الصراع. خلال تغطية النزاع، يتم إقصاء الأقلية العربية في إسرائيل من المجموع الإسرائيلي، بالكاد تظهر في التغطية أو تؤطّر كمن تشكل خطرا على الدولة وهناك تشكيك في ولائها.
في المقابل يشير أيضا إلى أنه لم تتم تغطية الأحداث التي قُتل فيها مدنيون من الأفراد على الجانب الآخر ولم يتم التشكيك في أخلاقية الأعمال التي قتل فيها مدنيون ولا بحث مسؤولية إسرائيل عن إلحاق الأذى بهم. أما المعلومات البديلة، مثل المعلومات الواردة من الجانب الآخر للمواجهات والأسباب الدولية، تم تقديمها بشكل هامشي فقط بكثير من النقد وبتعبير عن انعدام الثقة بها.
ويضيف بئير مغردا خارج سرب الباحثين الإسرائيليين في هذا المجال “عادةً ما تُعرض المفاوضات على أنها تمسّ بقدرة الجيش على الوصول إلى حل عسكري، وبالتالي فهي تتعارض مع المصالح الإسرائيلية. عموما تم تسليط الضوء على الأحداث العسكرية أكثر بكثير من الأحداث السياسية، وهو نمط تم نقله من خلال رسالة مفادها أن العنصر العنيف في الصراع أكثر جوهرية من محاولة حل الصراع. لقد قّدمت العملية السياسية عموما من خلال انعدام الثقة وبتوجه متشائم يشجع مستهلكي الأخبار على عدم دعمها”.
وحسب دراسته هذه تم تصوير الجانب الفلسطيني من المفاوضات السياسية على أنه عنيف ومتشدّد، وبالتالي غير قادر على الوصول إلى تسويات سياسية، وقد عُرض مراراً وتكراراً كمن ينتهك التزاماته، وبالتالي لا يمكن الوثوق به، مما جعله يتأطّر كمُتهم مسبقاً في إفشال التوصل إلى اتفاق. أما مسؤولية إسرائيل فقد تم تمويهها.
وفقاً لدراسات “كيشف”، غالباً ما يتم تصوير القيادة الفلسطينية على أنها متدنية أخلاقيا، شغوفة بالحرب وشهوة العنف، وهي على استعداد لتهديد مواطنيها لتحقيق أهدافها. وبالتالي، فهي “ليست شريكة” للمفاوضات. أو عوضاً عن ذلك، يتم تقديم القيادة الفلسطينية على أنها ضعيفة، مما يمنعها من التوصل إلى تسوية سياسية. منبها إلى أن سردية “انعدام الشريك” لا تبرّر هنا من خلال شيطنة الطرف الآخر، بل بإظهار ضعفه بمعنى أن الجانب الفلسطيني لا يستطيع التوصل إلى السلام، ليس لأنه لا يريد ذلك، بل لأنه غير قادر على تحقيق ذلك.
وتُظهر مجموعة الأبحاث الواسعة كيف أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تقدم لقرائها نظرة متحيزة وأحادية الجانب، تشمل تمثيلا إيجابيا مفرطا لإسرائيل وسلبياً للفلسطينيين، وهناك قلة في تمثيل الأحداث والأفعال التي تضيء إسرائيل بضوء غير إيجابي أو تضيء الجانب الآخر بضوء إيجابي. وهذه النظرة بالتالي تبني الواقع على أنه خطير وعنيف، لا فرصة فيه لحل سياسي. إنها مسرحية مستمرة لسردية متشابهة، تعود وتتكرر في ظروف مختلفة.
“حرب حتى اللحظة الأخيرة”
ويكشف عما هو أشد وأخطر بالقول ” في أحد الأيام، عندما جاء الكاتب دافيد غروسمان (رئيس “كيشف”) لزيارة مكاتب الجمعية، تجرأت على تقديم بعض النتائج من الدراسة التي أجراها “كيشف” حول التغطية الإعلامية لحرب لبنان الثانية (2006)، وهي الحرب التي قُتل فيها ابنه، أوري غروسمان.
ظهرت في تلك الحرب، أحيانا بشكل متطرّف أكثر، جميع العناصر المألوفة لنا في تغطية النزاعات العسكرية؛ باختصار، دعم وسائل الإعلام الساحق للحرب وانعدام كامل لنقد مجرياتها. لقد أخبرتني محررة الأخبار في إحدى القنوات في ذلك الوقت عن كبير المعلقين الذي غادر الاستوديو على عجل وسألوهم “إلى أين؟” فأجابوا: للقاء رئيس الحكومة، للضغط عليه لتوسيع نطاق العملية العسكرية. منبها بالقول إن تمويه الحدود بين وسطاء الإعلام وصناع القرار تفاقم أكثر بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، في اليوم الأخير للحرب، عندما حثت جميع وسائل الإعلام الرئيسية رئيس الحكومة على عدم وقف الحرب حتى دخول الاتفاق حيز التنفيذ. “حرب حتى اللحظة الأخيرة”- زعق العنوان الرئيسي في “معاريف” على سبيل المثال.
وبالفعل، أمر (رئيس الحكومة) إيهود أولمرت الجيش بمواصلة القتال وحتى توسيعه في اليوم الأخير، وهو قرار مأساوي أدى إلى مقتل 33 جندياً إضافياً، بمن في ذلك الراحل أوري غروسمان.
ويتابع بئير “حين قدمت لدافيد غروسمان عناوين الصحف في اليوم الأخير من الحرب، وهو يوم وفاة أوري، انكمش في كرسيه. إذا كان هناك أي شخص قد اعتقد بأن وسائل الإعلام لا يمكنها حقاً التأثير في قرارات مصيرية حاسمة أثناء الحرب، يبدو لي أن هذا كان دليلا قويا على العكس من ذلك”.
ويخلص الباحث الإسرائيلي للتساؤل فما الذي نفعله في هذه الأثناء في مواجهة طوفان المعلومات وأمام الحاجة إلى إبقاء عقولنا صافية في مواجهة جبل التضليل، والأخبار الملفقة وسوء سلوك منتجي المعلومات؟
ويضيف خاتما “أعتقد أن التوصية الرئيسية التي يمكنني تركها هنا هي تنشيط المنطق السليم. قارن بين مصادر المعلومات، وفعّل الحس النقدي وتعلم “القراءة بين السطور”. وفي غياب دليل قاطع، فإن الدليل الذي سيكون دائماً في متناول يدنا هو الحدْس”.