شكّل مقتل ثمانية جنود أتراك، بالقرب من مدينة سراقب في محافظة إدلب السورية، بقذائف مدفعية ميليشيات النظام الكيماوي، صدمة في الرأي العام، لم تكف الهجمات الانتقامية التي قالت وزارة الدفاع التركية إنها أدت إلى «تحييد» ما بين 25 ـ 35 عنصراً من قوات النظام لتجاوزها. كذا لم تفعل زيادة هذا العدد المفترض إلى 70 ـ 75 على لسان الرئيس أردوغان، قبيل رحلته إلى أوكرانيا التي بينها وبين روسيا ما صنع الحدّاد منذ إلحاق الأخيرة لشبه جزيرة القرم، وتكرار الرئيس التركي للموقف الرافض لأنقرة لهذا الإلحاق.
وبدلاً من اتخاذ القيادة الروسية موقفاً متضامناً مع شريكتها في مسار أستانة، في أعقاب مقتل الجنود الأتراك على يد ميليشيات تابعها الكيماوي، أو موقفاً وسطياً بالحد الأدنى، انشغل المسؤولون الروس بتكذيب الرواية التركية حول الرد الانتقامي على ميليشيات الأسد، ليقولوا إن الطيران التركي لم يتجاوز الخط الحدودي وإن القصف المدفعي التركي لم يؤد إلى خسائر بشرية في صفوف ميليشيات النظام. بل إنهم برروا هجمات النظام على القافلة العسكرية التركية التي كانت متجهة إلى سراقب لوضع حد لتقدم قوات النظام، بالقول إن الجانب التركي لم يبلغهم مسبقاً بمسار القافلة، في حين كانت وزارة الدفاع التركية قد أكدت أنها أعطت الشريك الروسي إحداثيات خط سيرها بصورة مسبقة. ونشرت وسائل إعلام روسية خبراً لم تؤكده مصادر رسمية حول مقتل أربعة جنود من القوات الخاصة الروسية، في الأول من شهر شباط/فبراير، في منطقة لم تحددها شمالي مدينة حلب، وذلك حين انفجر لغم بسيارتهم وسارعت عناصر مسلحة (معارضة) إلى قتل الجنود الروس الذين جرحوا في انفجار اللغم. ونشرت مواقع روسية أسماء الجنود الأربعة وصورهم. من المحتمل، إذن، أن مقتل الجنود الأتراك، في اليوم التالي، جاء بتوجيه روسي انتقاماً لمقتل جنودها الأربعة. أضف إلى ذلك قيام طائرة حربية روسية بقصف مركز مدينة الباب، شمال شرق حلب، المحسوبة ضمن إطار منطقة النفوذ العسكري التركي في عملية «درع الفرات» في سابقة هي الأولى من نوعها هناك. هذا ما يفسر عدم إدانة الروس لاستهداف القافلة العسكرية التركية من قبل مدفعية حليفهم الكيماوي، ولمجمل تصريحاتهم في تكذيب التصريحات التركية بشأن الرد الانتقامي التركي على قوات النظام.
تستمر المعارك في ريفي إدلب وحلب، بانتظار لقاء جديد بين الرئيسين الروسي والتركي لوضع أساس لتفاهمات جديدة ستكون مؤقتة أيضاً إلى أن تتغير موازين القوة فترسو على وضع نهائي
وعموماً ارتفعت وتيرة التصعيد في التصريحات التركية الموجهة ضد روسيا، بما في ذلك تصريحات أردوغان بالذات، مقابل برودة أعصاب القتلة التي اتسمت بها الردود الروسية عليها، بما يليق بشخصية الرئيس الروسي. لكن عاصفة التصعيد الميداني توقفت بالنسبة للاستهداف (المتبادل؟) بين الجيش التركي وميليشيات النظام على ما تظهر تطورات اليومين الماضيين، بموازاة استمرار قصف طيران النظام لمناطق متعددة في ريفي إدلب وحلب الغربي، وكأن التوتر التركي ـ الروسي وضع بين قوسين، بعد المكالمة الهاتفية بين أردوغان وبوتين الأربعاء.
وسبق للرئيس التركي أن أعطى إشارة قوية لتهدئة التوتر مع روسيا، في تصريحات أدلى بها في الطائرة التي أعادته من أوكرانيا إلى تركيا. فبناء على سؤال لإحدى الصحافيات المرافقات، قال أردوغان إن العلاقات التركية الروسية متعددة المستويات، ولن تتأثر بالتوتر الذي حدث بعد مقتل الجنود الأتراك. فتحدث، في هذا الإطار، عن المفاعل النووي الذي تبنيه روسيا في تركيا، والمهندسين الأتراك الذين يتلقون تدريباتهم في روسيا، وصواريخ إس 400، وخط نقل الغاز المسمى بـ«التيار التركي» لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، إضافة إلى استيراد قسم كبير من حاجة السوق التركية للغاز الروسي، والعلاقات التجارية النشطة بين البلدين، واستمرار السياح الروس في احتلال المرتبة الأولى في حجم سوق السياحة التركية. وكأن أردوغان أراد، من خلال هذا الكلام، أن يرد على موجة الاستياء من روسيا التي أعقبت مقتل الجنود الأتراك في الرأي العام التركي، كما على دعوات البعض إلى مراجعة العلاقة غير المتكافئة مع روسيا على حساب العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
الواقع أن الشراكة الروسية – التركية في الصراع السوري، لم تخرج يوماً من دائرة النقاش العام، فكان هناك تيار معارض يدافع عن وجوب التمسك بموقع تركيا في التحالف الغربي، مقابل «تيار روسي» يدفع باتجاه القطيعة مع الغرب تحت شعار «العداء للامبريالية» الذي يجمع تحت مظلته يساريين وقوميين وإسلاميين، وإقامة تحالف استراتيجي مع روسيا (وإيران)، من أبرز الدعاة إلى إعادة التموضع الاستراتيجية هذه اليساري الماوي السابق دوغو بيرنجك رئيس «حزب الوطن» (حزب العمال التركي سابقاً). الغريب أن هذا الحزب الهامشي الذي طالما فشل في إدخال نائب واحد إلى البرلمان في جميع الدورات الانتخابية التي شارك فيها، يلعب دوراً سياسياً يفوق حجمه بأضعاف مضاعفة. فهو يرى في نفسه ممثل «الدولة» (أو ما يسمى في الأدبيات التركية بالدولة العميقة) أو صاحبها والمدافع عنها في مواجهة «السلطة» التي تتعاقب عليها مختلف الأحزاب والتيارات، أو بالتحالف معها حين يحدث التطابق بين سياساتها و«المبادئ القارة للدولة». لذلك نرى الآن تحالفاً غير معلن بين هذا الحزب وحكومة الرئيس أردوغان.
لم تحل المكالمة الهاتفية بين أردوغان وبوتين مشكلة الخلافات بشأن وضع إدلب، وربما بشأن منطقة «نبع السلام» أيضاً. فهنا وهناك لم تحقق تركيا الأهداف التي غزت قواتها الأراضي السورية من أجل تحقيقها. لذلك تستمر المعارك في ريفي إدلب وحلب، بانتظار لقاء جديد بين الرئيسين الروسي والتركي لوضع أساس لتفاهمات جديدة ستكون مؤقتة أيضاً إلى أن تتغير موازين القوة فترسو على وضع نهائي.
بكر صدقي
القدس العربي