يخوض كل من الرئيس ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي معركة انتخابية ضد قضاء يلاحق الإثنين، الأول بتهمة الإخلال بشروط وظيفته كرئيس والثاني الإسرائيلي بتهم الفساد والرشوة. هكذا علق توماس فريدمان في «نيويورك تايمز» في مقاله في 28/1/2020 على صفقة القرن. بل أكمل فريدمان قائلا: «لو كنت مكان كوشنر وأريد للعالم أن يتعامل مع الخطة بجدية لما كنت أطلقتها الآن. إن الرائحة تفوح من الخطة».
وبالفعل فإن «صفقة القرن» تعبر وهي في الجوهر أطروحة نتنياهو وترامب خير تعبير عن موقف الإدارة الأمريكية في عهد ترامب حيث تتداخل العنصرية بالصهيونية بالعقائدية الدينية للإنجيليين المتعصبين مع الشعبوية. الخطة المطروحة ليست بخطة بل قدمت أساسا بهدف رفضها من قبل الفلسطينيين والعرب، فهي دون الحد الأدنى من جميع القرارات الدولية والقانون الدولي والمبادرة العربية للسلام. الهدف الحقيقي من الخطة تشريع ضم مناطق غور الأردن والمستوطنات والعمل بنفس الوقت على تمكين إسرائيل من استكمال مشروعها في تهويد القدس في ظل موافقه أمريكية علنية. وكما أعلن دانيال ليفي المفاوض الإسرائيلي السابق في المراحل التي تلت اتفاق أوسلو في مقال له في «الأمريكان بروسبيكت» في 30/1/2020: «الخطة رسالة كراهية من الولايات المتحدة وإسرائيل للفلسطينيين».
وإن دققنا بالصفقة وصفحاتها 180 لوجدنا أن إسرائيل تريد وضع الفلسطينيين في كماشة ثم الضغط عليهم في حياتهم وأعمالهم ووجودهم لإخراجهم من ما تبقى من فلسطين. هدف الخطة يتجاوز فلسطين لأنه يسعى أيضا لعدم استقرار الأردن من خلال إبعاد مزيد من الفلسطينيين نحو الأردن. إسرائيل أخذت من ترامب الحد الأقصى الذي يسمح لها بتشريع جرائم ارتكبتها في الارض الفلسطينية كالمستوطنات في الضفة الغربية وفي القدس، لكن هذا الموقف هو الحد الأدنى وليس الأقصى، فإسرائيل ذاهبة نحو مصادرة المزيد والمزيد. لهذا ستأخذ إسرائيل بعد مدة جبلا وتقول إنه لدواع أمنية وستأخذ منازل وتصادرها لصالح المستوطنين في قلب الخليل وتقول إن ذلك حماية من الإرهاب، وستطرد مواطنين من القدس بحجة عدم دفع ضريبة وستزيد عدد من يقطنون السجون بين المؤبد والسنوات الطوال.
لهذا من الوهم الاعتقاد بأن «صفقة القرن» هي بداية حل، بل على العكس من ذلك فهي بداية صراع جديد أكثر زخما. بل لنعي طبيعة الوضع الراهن لا بد من تذكر أن الحل الأقرب للواقع وقع في أوسلو عام 1994 وذلك عند قيام السلطة الفلسطينية بعد مفاوضات بين منظمة التحرير وبين سلطة الاحتلال الإسرائيلي. لكن منذ قيام متطرف يهودي إسرائيلي باغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين عام 1995 تراجعت عملية السلام وسط توحش الاستيطان والضم.
إسرائيل أخذت من ترامب الحد الأقصى الذي يسمح لها بتشريع جرائم ارتكبتها في الأرض الفلسطينية كالمستوطنات في الضفة الغربية وفي القدس، لكن هذا الموقف هو الحد الأدنى وليس الأقصى، فإسرائيل ذاهبة نحو مصادرة المزيد
كان رابين هو الذي وقع على عملية السلام، لكن قطاعا رئيسيا في الحركة الصهيونية لم يكن ليتقبل فكرة ايقاف الاستيطان وسياسات الضم وتسليم أراض فلسطينية للفلسطينيين. ومنذ عملية الاغتيال لليوم وصل عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس الشرقية ومحيطها الى 800 ألف. لقد قام اليمين الصهيوني بمصادرة المستقبل وفكرة الدولة الفلسطينية من أجل إسرائيل الكبرى. هنا تقع المعضلة الأكبر التي تؤسس لمزيد من الصراع.
ان فكرة الدولة الفلسطينية المطروحة في وثيقة ترامب نتنياهو دولة فلسطينية بالاسم. فمعظم الأراضي الزراعية ومصادر الثروة الفلسطينية تم ضمها لإسرائيل ومعظم الضفة لم تعد قادرة على إدامة كيان حقيقي محاصر من كل الجهات ومخترق من كل الأبعاد. إن المستوطنات تحيط برام الله ونابلس والخليل وكل مكان في الضفة الغربية، فهي محاصرة كما أن غزة محاصرة من كل الجهات.
كل ما طرح في الوثيقة تم بلا مفاوضات مع الفلسطينيين، بل لا يوجد أي مكان في الصفقة عن حق اللاجئين في العودة بما في ذلك أقرباء الدرجة الأولى والثانية والثالثة أو من طردوا من أراضيهم منذ عام أو أعوام، كما إن الصفقة لا تشمل القدس الشرقية بصفتها عاصمة الدولة الفلسطينية ولا تشمل الأرض أو الاستقلال أو الحدود أو حق التصرف والانتقال عبر البر والجو، ولا تعكس الصفقة أي إمكانية للتواصل بين مناطق الفلسطينيين، في الجوهر لم تقدم الصفقة شيئا يتجاوز واقع الاحتلال، بل أجدها قامت بتصفية كل ما يتعلق بالحل النهائي الذي يشمل السيادة والمستوطنات والقدس والحدود. لقد دمرت إسرائيل الحل. فقد كتبت الصفقة بروح استعمارية، وبلغة المستوطن والفرض والإملاء.
المفيد في صفقة القرن، وهذا هو أفضل ما فيها، أنها وجهت ضربة كبيرة للانقسام الفلسطيني الهزيل، وفتحت الباب أمام الفلسطينيين لإعادة النظر بترهل نخبهم، كما أنها طرحت التساؤلات الكبرى عن دور السلطة الفلسطينية وطبيعة الفخ الذي وقعت به من خلال التنسيق الأمني مع إسرائيل. بل فتحت الصفقة الباب أمام الفلسطينيين للتفكير باستراتيجية المستقبل، وضرورة التركيز على علاقة الفصائل ببعضها البعض وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية في إطار مقاومة الأبارثهايد الصهيوني. لقد فتحت الصفقة الباب لسعي الضحية الفلسطينية للعمل على بناء أوسع جبهة أصدقاء في العالم بين قطاعات معارضة لإسرائيل الكبرى وللصهيونية من اليهود ومن الإسرائيليين أنفسهم.
لقد سقطت فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة من خلال الاستيطان والتهويد قبل «صفقة القرن» بسنوات طوال، وجاءت الصفقة او مشروع ترامب نتنياهو لتضع إطارا لهذا الاحتلال. لكن الصفقة لم تلتفت لإمكانيات المقاومة ولطبيعة الحركة الفلسطينية الساعية للتحرر والتمسك بالأرض والحقوق. لقد أخذتنا الصهيونية خطوة جديدة نحو دولة واحدة من البحر للنهر، لكن هذه الدولة الآن عنصرية واستعمارية ودولة أبارثهايد تمارس التحكم بملايين الفلسطينيين في غزة والضفة والقدس وأراضي 1948 وملايين اللاجئين غير القادرين على العودة بسبب الاحتلال. إن الخيار القادم يتطلب مقاومة طويلة الأمد وذلك بهدف تحقيق التحرر والعدالة في كل الأرض الفلسطينية. لا بد من استعادة أسس وزخم حركة التحرر الوطني الفلسطيني بوجهها النضالي والتحرري الذي عرفته مراحل سابقة. قد تتغير وسائل النضال لكن أطروحة العدالة والحقوق السياسية والمدنية في ظل والحياة الكريمة والحق في الارض والمنزل والمكان تبقى واحدة.
ناظم شفيق الغبرا
القدس العربي