تزداد حدة المعركة من أجل محافظة إدلب، آخر معاقل قوات المتمردين السوريين. وحيث تشتد الاشتباكات بين الجنود الأتراك وقوات نظام الأسد والمدنيين المشردين على طول الحدود، تدرس مختلف الجهات الفاعلة الخارجية والمحلية الخطوات التي قد ترسل مئات آلاف اللاجئين إلى أجزاء أخرى من سوريا، أو شمال العراق أو أوروبا.
مخاوف أوروبا، نفوذ تركيا
إن أكثر ما تخشاه دول “الاتحاد الأوروبي” هو رؤية موجة جديدة من اللاجئين السوريين تجتاح القارة. فاثنان من الدول اللتان فتحتا أبوابهما على مصراعيها خلال موجة تدفق اللاجئين الجماعية السابقة في عام 2015 – ألمانيا والسويد – غير مستعدتين الآن لتكرار ذلك. أما فرنسا، فلم تتأثر إلى حدّ كبير بالموجة السابقة، لكن الرئيس إيمانويل ماكرون يسعى مع ذلك إلى تجنيب بلاده من أن تصبح الملاذ الجماعي التالي. وبدلاً من ذلك، اقترح آلية لتوزيع اللاجئين الجدد بالتناسب بين جميع الدول الأعضاء في “الاتحاد الأوروبي”. لكن دول أوروبا الشرقية رفضت هذه الفكرة رفضاً قاطعاً، خاصة بولندا والمجر.
ومن الأسباب التي تجعل أوروبا مترددة للغاية في إعادة فتح أبوابها هي الهجمات الإرهابية المتعددة التي شهدتها في السنوات الأخيرة، بعضها ارتكبها جهاديون تسللوا إلى القارة بموجب آليات تهدف إلى مساعدة اللاجئين. ويُعتبر توقيف إسلام علوش الشهر الماضي في مرسيليا خير دليل على أن أجهزة الاستخبارات الأوروبية غالباً ما تعجز عن فصل الصالح عن الطالح عند التدقيق بالمتطرفين العنيفين. وكان علوش، وهو مسؤول سابق في جماعة “جيش الإسلام” الإسلامية السورية الوحشية المتمردة، قد وصل إلى أوروبا في العام الماضي بواسطة تأشيرة طالب في إطار برنامج منح دراسية تابع لـ “الاتحاد الأوروبي”، وبقي هناك لعدة أشهر قبل أن يتم القبض عليه بتهم التعذيب وارتكاب جرائم حرب أخرى.
وقد تسببت التكلفة الاقتصادية المحتملة المترتبة على استضافة ملايين اللاجئين الجدد في قلق أوروبا أيضاً. علاوةً على ذلك، تتعامل القارة حالياً مع موجة انتخابية شعبوية معادية للأجانب. وإذا ما أضيفت هذه العوامل إلى مفاعيل الدومينو المحتملة الناجمة عن معركة إدلب، فهي تطرح تهديدات خطيرة على تماسك “الاتحاد الأوروبي” في كافة القضايا، كما أنها تهدّد الوضع القائم الباهظ الثمن الذي أنشأته أوروبا مع تركيا في عام 2015.
وتدرك تركيا جيداً المعضلة التي يواجهها “الاتحاد الأوروبي”. فنظراً لأن اللاجئين السوريين ليسوا مهاجرين اقتصاديين، بل يشكلون حالة شعب يعاني ضيقاً حقيقياً هاجر بسبب الحرب، فقد شعر العديد من القادة الأوروبيين بأنهم ملزمون بإظهار قدر من التضامن معهم. وقد استغل الرئيس رجب طيب أردوغان هذه المشاعر من خلال ابتزازه “الاتحاد الأوروبي” بشكل رئيسي، الذي موّل ملايين اللاجئين السوريين الذين ما زالوا يقيمون في تركيا بخطة دعم قيمتها 6 مليارات يورو منذ عام 2016. ويواصل “الاتحاد الأوروبي” أيضاً دعم الزراعة، والسياحة، والثقافة التركية، والقطاعات الأخرى في تلك البلاد كما لو كانت تركيا لا تزال منخرطة في جهد جاد للانضمام إلى “الاتحاد الأوروبي”، على الرغم من أن كلا الجانبين يعرف أن هذا لم يعد هو الحال. وأخيراً وليس آخراً، حرص المسؤولون الأوروبيون على عدم إدانة أنقرة أو معاقبتها على انتهاكات حقوق الإنسان الناجمة عن عملياتها العسكرية ضد الأكراد في سوريا، ولو فقط لأنهم لا يملكون خطة بديلة جاهزة إذا قرر أردوغان الانتقام عبر إثارة مشاكل لا حصر لها ترتبط بالهجرة الجماعية.
سيناريوهات النزوح واللاجئين
منذ كانون الأول/ديسمبر، دفع تقدم الجيش السوري السريع في إدلب بحوالي 400,000 مدني إلى الهرب والاحتماء قرب الحدود الشمالية للمحافظة مع تركيا، حيث يوجد أساساً ما يقرب من مليون من النازحين داخلياً. وإجمالاً، قد يؤدي القتال في النهاية إلى تشريد حوالي 2.5 مليون شخص في إدلب إذا أتت حملة النظام ثمارها. وكان أردوغان قد بنى جداراً لمنع هؤلاء المشردين داخلياً من عبور الحدود والانضمام إلى اللاجئين السورين الموجودين أساساً في تركيا والذين يقدّر عددهم بـ 3.5 مليون – وهو عدد أصبح يعتبره لا يطاق من الناحيتين السياسية والاقتصادية بعد أن استضافت تركيا اللاجئين لسنوات وقدمت لهم دعماً كبيراً.
التدفقات المحتملة للاجئين في شمال سوريا، شباط/فبراير 2020
انقر على الخريطة للحصول على نسخة أكبر.
على الرغم من أن أردوغان حاول كسب الوقت من خلال إبطاء وتيرة التقدم السوري بالقوة وتقديم الإنذارات العسكرية إلى دمشق، إلا أنه سيضطر في النهاية إلى اختيار أحد الحلّين التاليين: السماح للأشخاص النازحين داخلياً بعبور الأراضي التركية باتجاه وجهتهم النهائية المتمثلة في الوصول إلى أوروبا، أو إرسالهم إلى أجزاء أخرى من سوريا. وإذا اتبع المقاربة الأولى، سيوقف “الاتحاد الأوروبي” فوراً مساعداته المالية الضخمة إلى تركيا. لكن المقاربة الثانية تطرح عقبات خاصة بها. فمعظم اللاجئين السوريين لا يريدون العودة إلى بلد مدمر، قد يتعرض فيه الكثير منهم لخطر الانتقام بسبب مشاركتهم في التمرد. وحتى أن الاستقرار في المناطق السورية الخاضعة لسيطرة تركيا سيتطلب تنمية اقتصادية هائلة وأمناً محلياً كبيراً، وهما عنصران غير متوافرين حالياً. وعلى عكس ذلك، فإن ملايين اللاجئين الموجودين بالفعل في تركيا راضون عن التمتع بظروف معيشية أفضل وأمل دائم في الانضمام إلى “الاتحاد الأوروبي” في نهاية المطاف.
وبغض النظر عن هذه العقبات، يعتقد أردوغان أن التهديد بموجة جديدة من اللاجئين كبير بما يكفي لدفع أوروبا إلى قبول وتمويل الخيار الثاني. وتنطوي النسخة الحالية من خطة تركيا على إنشاء منطقة عازلة على عمق 32 كيلومتراً من نهر دجلة [على الحدود] شمال شرق سوريا وصولاً إلى إدلب، ومن ثم نقل أكبر عدد ممكن من اللاجئين السوريين إلى هناك. ومع هذا، سيتطلب ذلك استئناف العمليات العسكرية المتوقفة ضد الأكراد السوريين، بهدف الاستيلاء على مختلف البلدات الحدودية التي لم تستولي عليها أساساً تركيا والميليشيات التابعة لها (جميع البلدات الحدودية باستثناء القامشلي، التي ستبقى تحت سيادة نظام الأسد).
ولا شكّ أن التداعيات العرقية لمثل هذه الحملة ستكون خطيرة. فمنذ كانون الثاني/يناير 2018، وهو تاريخ الهجوم التركي على عفرين في شمال غرب سوريا، غادر أكثر من نصف السكان الأكراد في هذا الكانتون (200،000 نسمة). وعلى مسافة أبعد إلى الشرق، فر جميع الأكراد (70،000 نسمة) والمنتشرين بين تل أبيض ورأس العين بسبب التوغلات التركية اللاحقة. ويتمثل هدف أردوغان في استبدال هؤلاء الأكراد بالعرب السنّة من أجل إقامة منطقة عازلة خالية من الأكراد على طول الحدود – وهي نتيجة تتواءم مع جهوده الأوسع نطاقاً لقمع «حزب العمال الكردستاني» العنيف محلياً وميليشيته الشقيقة «وحدات حماية الشعب» في شمال سوريا.
يُذكر أن هذه العملية تجري على قدم وساق في عفرين، حيث أن عوائل المقاتلين السوريين من ميليشيا “الجيش الوطني السوري” المدعومة من تركيا تحتل منازل الأكراد الذين فروا من المنطقة. كما تم نقل بعض السوريين المشردين إلى تل أبيض ورأس العين، على الرغم من تباطؤ هذا الجهد بسبب استمرار انعدام الأمن في المنطقة وغياب الاستمرارية الإقليمية مع إدلب، وهي المنطقة الأكثر احتياجاً إلى إعادة توطين المشردين داخلياً. ويواجه معظم اللاجئين في إدلب ظروفاً إنسانية بائسة وخوفاً من الوقوع تحت رحمة الجيش السوري الذي يتقدّم بخطى ثابتة إلى المنطقة.
وإذا نجح أردوغان في إقامة كامل المنطقة العازلة التي يرغب فيها، من المرجح أن يتم تهجير 650،000 من سكان شمال شرق سوريا – ثلاثة أرباعهم من الأكراد. وبدلاً من الانتقال إلى أجزاء أخرى من سوريا يُفترض أن يفر معظمهم إلى مناطق «حكومة إقليم كردستان» في شمال العراق ومن ثم إلى أوروبا، حيث لديهم أساساً شبكات هجرة جاهزة لاستقبالهم.
وحالياً، تعارض روسيا والولايات المتحدة خطة تركيا، ويعود السبب جزئياً إلى أنها ستؤدي إلى شنّ هجوم آخر ضد الأكراد، وبسبب التكاليف المالية التي تتطلبها إعادة التوطين المقترحة أيضاً. وحتى إذا ما تمّ تذليل هاتين العائقتين الرئيسيتين، يبقى الواقع القائم يتمثل في أن المناطق العازلة المقترحة لن تكون قادرة على استيعاب ما يقرب من 2.5 مليون سوري عالقين في إدلب – حيث قد يحظى بعض مئات الآلاف فقط على أكثر تقدير على دعم. وعلى هذا النحو، سوف يظل غالبية المدنيين في إدلب عالقين على أبواب الجدار الحدودي التركي ومعرضين لتهديد الجيش السوري ذي الميول الانتقامية كما يُحتمل وعرضةً للجماعات الجهادية التي ستسعى على الأرجح إلى الاستفادة من إدارة الملاذ الصغير المتبقي.
وفي ذلك الحين، ستواجه دول “الاتحاد الأوروبي” موجة مزدوجة محتملة من اللاجئين؛ حيث ستكون الأولى متصاعدة ومؤلفة من الأكراد الذين ينتقلون تدريجياً من كردستان العراق إلى أوروبا. أما الثانية، فستكون على الأرجح فجائية وقاسية بشكل أكبر – فتركيا لا يمكنها احتواء الضغوط الناجمة عن 2.5 مليون شخص إلى الأبد، وبالتالي ستكون الانتهاكات العنيفة لجدارها في إدلب حتمية.
لقد سعت روسيا إلى إقناع الأوروبيين بأن هناك خياراً ثالثاً، يتمثل بشكل رئيسي بإصدار دمشق عفواً شاملاً وتقديمها ضمانات أمنية لجميع سكان المحافظة، مع تسهيل هذه التنازلات بمساعدة مالية سخية من “الاتحاد الأوروبي” ورفع العقوبات ضد دمشق. غير أن هذه الفكرة لم تلق تأييداً في أوروبا، ويرجع ذلك جزئياً إلى سجل نظام الأسد المعروف في الإخلال بمثل هذه الضمانات ومواصلة معاملته الوحشية للسوريين النازحين.
وإلى أن يتم حل هذه المسائل، سيستمر تنامي التهديد بزحف جديد للاجئين نحو دول “الاتحاد الأوروبي”، مما سيدفع بعض الدول إلى النظر في وسائل لتعزيز أمن حدودها – على سبيل المثال، اقترحت اليونان بناء جدران عائمة في بحر إيجه لمنع مهاجري القوارب. ومن هذا المنطلق، قد يلعب مسار الأحداث في إدلب دوراً حاسماً في معضلة أوروبا الأكثر إلحاحاً، وهي: كيف يمكن الحفاظ على مبادئها الإنسانية والإبقاء على أمنها ووحدتها في الوقت نفسه.
فابريس بالونش
معهد واشنطن