في ترتيبات البيت المحلي لدولة مثل لبنان لا يبدو للمتغيرات الداخلية دور مؤثر كما للعوامل الخارجية، كذلك كان الشأن في أواخر ثمانينات القرن الماضي عندما ساهمت التوافقات الإقليمية في بلوغ اتفاق الطائف الذي أعلن عن نهاية لحرب أهلية مدمرة. ذلك الاتفاق تزامن مع صعود لشخصية استثنائية في تاريخ لبنان الحديث، إنه رفيق الحريري الذي استطاع أن يكون بيضة قبان المعادلات الداخلية والخارجية ما جعل من اغتياله حدثا فارقا هز التوازنات وأربك الساحات وعسر مهمات نجله سعد الذي أتى بعده، خاصة مع الأعاصير الضارية التي ألمت بالمشهد اللبناني والإقليمي.
بيروت – يكتشف اللبنانيون في كل عام يحيون فيه ذكرى اغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري مدى المسافة الكبرى التي باتت شاسعة بين الحريرية السياسية التي أسسها الراحل وبين تلك التي يعيشونها اليوم بزعامة نجله رئيس الحكومة السابق سعد الحريري.
ويستنتج اللبنانيون بسهولة بؤس المقارنة بين المرحلة الصاعدة التي واكبت ظهور الحريري الأب قبل سنوات من اتفاق الطائف المبرم عام 1989، وتلك التي شهدت تقهقرا مؤلما للظاهرة الحريرية بعد اغتياله في 14 فبراير عام 2005.
ويرى بعض خبراء السياسة في لبنان أنه يجب عدم المغامرة لإجراء مقارنة تبسيطية لا تأخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية والسياقات التاريخية لمرحلتي الأب والابن على رأس تيار المستقبل.
التوافقات الإقليمية
عاش رفيق الحريري فترة توافقات كبرى أملتها التسوية الإقليمية الدولية التي أنهت حربا أهلية دامت 15 عاما، ما وفّر له مكانة خاصة داخل ما ترتب عن هذا الاتفاق.
وارتكز صعود رفيق الحريري على نقطة توازن أسس لها توافق سعودي سوري وكذلك توافق أميركي سوري على إدارة لبنان وتخليصه من سنين احترابه الداخلي. وتقر مصادر سياسية بهذه الحقيقة وتوضح أن الحريري الأب انخرط في مجال العمل الخيري والتربوي ممهدا بذلك دخوله المعترك السياسي واقتحامه لميدان كان حكرا على عتاة السياسة والحكم كما على أمراء الحرب في البلد.
وتضيف المصادر أن الحريري الأب دخل إلى البلد من بوابة إعادة إعمار ما هدمته الحرب واقتحم مجالا لا تنافس داخله بالنظر لما يمتلكه من قدرات في عالم الأعمال والتطوير العمراني ومن علاقات عربية ودولية بإمكانها تسويق ديناميات الإعمار والعبور بالبلد من شروط الدمار إلى شروط الإعمار والازدهار.
وتعتبر المصادر أن الحريري جاء من داخل قواعد الوصاية السورية وليس مناكفا لها وأنه دخل إلى السياسة في لبنان من الباب السعودي المتحالف مع النظام السوري بزعامة حافظ الأسد، وبالتالي لم يمارس أنشطته المختلفة وصولا إلى سدة رئاسة الحكومة إلا من خلال بوابة دمشق وبالتحالف الكامل مع النظام الحاكم في سوريا.
وتوضح مراجع سياسية سنيّة أن الحريري قارب السياسة داخل الطائفة السنية بعد أن عملت الحرب كما نظام دمشق على إضعاف القيادات السياسية للطائفة من خلال الاغتيال (مفتي الجمهورية اللبنانية حسن خالد مثالا) ومن خلال النفي (صائب سلام مثالا) أو من خلال الترهيب الذي أدى إلى انكفاء الزعامات السياسية السنية عن الانخراط في منظومة سياسية يتقاسم أمراء الحرب النفوذ داخلها، ولم يكن السنة منخرطين كطائفة داخل هذه الحرب ليكون لها أميرها داخل “دولة الطائف” الفتية.
ويقول هؤلاء إن رفيق الحريري ورث زعامة غائبة، وجاء يختصر كل زعامات السنة في شخصه، وهو أمر غير مسبوق في التاريخ السياسي الحديث للسنة في لبنان، وأن دمشق التي كان يهمها الحفاظ على تحالفها مع الرياض، وكان يهمّها إنعاش هيمنتها السياسية بالوفورات المالية التي يؤمنها وجود شخص مثل الحريري، أتاحت للرجل اللعب داخل المساحة السنية السياسية دون منافس يذكر.
وتقول مصادر دبلوماسية مخضرمة إن رفيق الحريري لم يكن مواليا للنظام السوري بل حليفا له متلاعبا بشروط الوصاية التي يريدها في لبنان. وتضيف أن دمشق كانت تدرك أن الحريري هو حليف الرياض وليس تابعا لها على منوال طبقة سياسية كاملة استحدثها اتفاق الطائف وبات مصيرها رهن أجندة دمشق.
وتلفت إلى أن التباينات التي كانت تظهر مع الحريري في عهد الأسد لم يعد بالإمكان ضبطها في عهد الأسد الابن، بسبب تغير طبيعة الرأس الحاكم، لكن أيضا بسبب تغير المشهدين الإقليمي والدولي خلال العشر سنوات التي فصلت اتفاق الطائف عن تاريخ وفاة حافظ الأسد.
تقهقر الحريرية
لم يبدأ تقهقر الحريرية السياسية في عهد سعد الحريري، بل بدأ بقرار قهري اتخذه النظام السوري في عهد بشار الأسد. فقد سعت دمشق إلى محاصرة نفوذ الحريري الأب من خلال التأثير في الانتخابات التشريعية ثم فرض أميل لحود، رجل دمشق المخلص، رئيسا للجمهورية، وفرض شخصيات موالية مباشرة للنظام السوري ورئيسه بشار الأسد في مراكز الأمن الأساسية (الأمن العام ومخابرات الجيش وأمن الدولة، إلخ.).
ويرى باحثون في الشؤون السياسية أن عملية القهر ذهبت إلى حد اغتيال الحريري في محاولة لوضع حد لصعوده السياسي، لدى السنة في لبنان، والأخطر لدى السنة في سوريا نفسها.
ويستنتج الباحثون أن سعد الحريري ورث تيارا سياسيا منكوبا باغتيال مؤسسه، وتيارا مربكا يتعرض لحملة ممنهجة استهدفت البيئة السياسية العريضة الداعمة من خلال حملة الاغتيالات التي طالت قيادات سياسية لبنانية مناوئة لدمشق سبقت وتلت اغتيال الحريري، وصولا إلى انقلاب حزب الله العسكري في 7 أيار/ مايو والذي فرض على الحريري وتياره وحلفائه التسليم بغلبة حزب الله من خلال القبول باتفاق الدوحة عام 2008.
ويذكر هؤلاء أن الحريري الأب كان يستند على دعم السعودية لإيجاد توازن مشرف في علاقته بدمشق، فيما تفاجأ الحريري الابن بعد اغتيال والده بأن الرياض هي التي تضغط لقيامه، بصفته رئيسا للوزراء في لبنان، بزيارة سوريا والمبيت بضيافة بشار الأسد، وأن العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز هو الذي عمل على إجبار الحريري الابن على تجاوز مرحلة مقتل والده، وذهب شخصيا إلى دمشق ليصطحب الأسد إلى بيروت.
ويخلص الباحثون إلى أن سعد الحريري والحريرية السياسية دفعا ثمنا غاليا في مواجهة الوصاية الإيرانية على لبنان، وأن سعد الحريري اضطر إلى قبول أمرها الواقع إلى درجة الذهاب بعيدا في تسوية لدعم مرشح حزب الله الوحيد لرئاسة الجمهورية ميشال عون، وأن الحريرية السياسية في عهد الأب كانت، إضافة إلى كاريزما الرجل، تتمتع بدعم عربي دولي، فيما الحريرية السياسية في عهد الابن واجهت أعاصير كبرى ليس من مهمة تيار سياسي لبناني محلي مواجهتها.
ولا شكّ اليوم في أن الحريرية تحتاج إلى إعادة ترشيق وتحديث تعيد لها معانيها داخل المساحة السنية كما المساحة اللبنانية الواسعة، وأن النجاح في ذلك قد يؤدي إلى استعادة دعم عربي (سعودي) مفقود كما الدعم الدولي العام.
العرب