تقديم
“الإرهاب لا يبحث كثيرًا في عدد الضحايا؛ بل يبحث أكثر في أن يسمع الناس به ويعلمون عنه”(1). تعتبر هذه المقولة المرجع الأساس للحركات الإرهابية في علاقتها بوسائل الإعلام، وهو ما يتطلب أن تكون هذه المقولة أيضًا قاعدة خلفية لكل مشروع لاستراتيجية إعلامية لمكافحة الإرهاب؛ في هذا السياق أقر مجلس وزراء الإعلام العرب في شهر مايو/أيار 2015 الاستراتيجية الإعلامية العربية لمكافحة الإرهاب، وهي مقترح من أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية الجناح الفكري لمجلس وزراء الداخلية العرب أعدها منذ ديسمبر/كانون الأول 2013. هنا علينا التساؤل: هل يمكن إقرار خطة إعلامية لمكافحة الإرهاب دون إدارجها ضمن خطة أشمل تُسمَّى الاستراتيجية العربية لمكافحة الإرهاب؟! في الأصل توجد استراتيجية عربية لمكافحة الإرهاب تعود إلى سنة 1998، تلتها الاستراتيجية الإعلامية العربية لمكافحة الإرهاب لأكاديمية نايف سنة 2013 ليعتمدها مجلس وزراء الإعلام العرب في منتصف 2015(**).
في البدء وفي إطار عرضنا ماهية العلاقة بين الإعلام والإرهاب علينا الإقرار اليوم أن الإعلام والاتصال أصبحا في هذا العصر حزمة من القيم الإنسانية الكبرى؛ إننا نعيش عصر الاتصال والإعلام، وأن حدوث أية تنمية أو نهضة يعتبر اليوم رهين الإجابة عن سؤال: كيف نفهم ونوظف الإعلام وتكنولوجيات الاتصال التوظيف الصحيح؟
لقد أسهم الإعلام العربي -وعلى الرغم من التوظيف السيئ الذي تعرَّض له- في معركة التحرُّر من الاستعمار، ومعركة الاستقلال وبناء الدولة الوطنية: دولة ما بعد الاستقلال. تنتظر الإعلام العربي اليوم كبريات المعارك، ألا وهي معركة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية محليًّا وتثاقف الحضارات دوليًّا. هكذا لا يمكننا تجاهل ما للإعلام من دور حيوي في تكوين ثقافات المجتمعات الحديثة؛ فما كان للغرب أن يستمد ثقافة الديمقراطية والحداثة لو لم يكتشف وسائل الاتصال الجماهيري من صحافة وتليفزيون وإنترنت، وما كان للنهضة العربية أن تتجلى لو لم تنشأ في حضن صحافة القرن التاسع عشر؛ أما اليوم فإن الإعلام وبفضل البث الفضائي وشبكة الإنترنت يعتبر وعاءً للهوية ومُشَكِّلًا لمجال عمومي عربي؛ ولبيان ذلك يمكن العودة إلى ما يعيشه المشهد الاتصالي الدولي منذ بداية هذا القرن من حالة تحوُّل وتغيُّر جذريين، وإن هذه الحالة تجرُّ معها تغيرات عميقة في العلاقات والبنى الاجتماعية والتوازنات السياسية؛ خاصة في المجتمعات التي تشهد مخاضًا حداثيًّا وانتقالًا ديمقراطيًّا عسيرًا كالدول العربية؛ فقد كانت عملية نشر الأفكار وتبادلها إعلاميًّا في الماضي القريب سهلة الرقابة والتحكم ومسألة متاحة لنخبة محدودة، أما اليوم فإن عملية النشر تحولت من هرمية إلى شبكية، وأصبحت متاحة لكل من يرغب في نشر أفكاره، وعنصرًا مُحدِّدًا في عملية التنشئة السياسية والاجتماعية.
عند كل حديث عن الإعلام علينا دائمًا أن نفصل بين التوظيف الرديء للإعلام وبين مزايا الإعلام والاتصال في ترسيخ مجموعة من القيم؛ لعل أهمها: ترسيخ الديمقراطية، وتبادل المعارف والثقافات، ونقل الأخبار عن الشأن العام وإبداء الرأي فيها. إن الإعلام عنصر تحضُّر وتقدُّم، ولعل القصور في الفكر العربي وفي الممارسة السياسية يعود بشكل كبير إلى عدم استغلال العرب لهذه القيمة، وهو قصور قد يعود إلى مؤثرات خارجية كالاستعمار وأخرى داخلية لها علاقة بأساليب الحكم المستبدة، ومسارات التنمية الاجتماعية الفاشلة. ومن بين التوظيفات السيئة للإعلام يعترضنا أخطبوط الإرهاب؛ فنحن أمام إشكال فكري وإجرائي في الوقت نفسه، ويمكن تلخيصه كالآتي: كيف يمكن التوفيق بين الحاجة التاريخية للعرب في الاستفادة المضاعفة من ظاهرة الاتصال والإعلام وشبكة الإنترنت علميًّا وثقافيًّا وسياسيًّا، وبين تداخل التوظيفات والقراءات السلبية لها؛ خاصة تلك المتصلة بالتقدم المذهل لظاهرة الإرهاب؟
وللإجابة عن هذا السؤال المركَّب سنحاول في هذه الورقة البحثية أن نقدم قراءة تقييمية نقدية للاستراتيجية الإعلامية العربية لمكافحة الإرهاب؛ فعلى الرغم من اهتمام العديد من الاختصاصات الفكرية بدراسة العلاقة بين الإعلام والإرهاب؛ مثل: حقل العلوم السياسية والعلوم التقنية وصولًا إلى العلوم الأمنية والعسكرية، فإننا أفردنا لبحثنا سياقًا له صلة أيضًا بعلوم الإعلام والاتصال؛ التي تبحث في التداعيات والاستعمالات اليومية وغير اليومية للمنظومة السوسيو-تقنية للإعلام والاتصال. وهي مقاربة تهدف إلى تخفيف ثقل حضور الخطاب التقني/الأمني دوليًّا وعربيًّا؛ الذي أصبح منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول مؤثرًا في تحديد مسارات فهم تكنولوجيات الإعلام والاتصال الحديثين في علاقتهما بالمجتمع. إذن سنقارب عرض ما في الاستراتيجية الإعلامية العربية لمكافحة الإرهاب من نقاط قوة وضعف، كما سندرس علاقة هذه الوثيقة بمقومات الاستراتيجية وأصولها: منطلقات ترسم أهدافًا تنفذ عبر آليات واضحة وجلية بها الكثير من التماسك والتوافق.
الاستراتيجية الإعلامية العربية لمكافحة الإرهاب: الصحيح المهجور
تبدو الاستراتيجية العربية الإعلامية لمكافحة الإرهاب في الأصل خطوة إيجابية على طريق إرساء قواعد العمل العربي المشترك؛ وذلك من منطلق أن ظاهرة الإرهاب ليست مشكلة بلد عربي؛ بل هي مشكلة أمن قومي عربي، كما أن من بين أهم مزايا هذه الاستراتيجية هو هذا التحول النوعي في التعامل مع الإعلام؛ واعتباره قطاعًا استراتيجيًّا يمكن أن يسهم في نجاح الخطة الاستراتيجية الشاملة لمكافحة الإرهاب في العالم العربي. تمثِّل هذه المؤشرات إذن إضافة قيمة للفكر العربي وللنخبة السياسية؛ وذلك من خلال تبنِّيها لعنصر الإعلام ومَقْدِرَته على التحول إلى عنصر حلّ بدل أن يُنظر إليه كما كان الحال على أنه دائمًا مشكلًا.
ما يتبادر إلى الذهن وضمن مقاربة شكلية نلاحظ تباعد التواريخ، وهو ما لا ينسجم مع قواعد بناء الاستراتيجيات؛ فالاستراتيجية العربية لمكافحة الإرهاب تعود إلى سنة 1998، والاستراتيجية العربية الإعلامية لمكافحة الإرهاب سطرت سنة 2013، وأقرت سنة 2015 وستطبق سنة 2016. بين كل هذه التواريخ نلاحظ على المستوى الجيوسياسي أن أنظمة عربية تغيرت كليًّا (ليبيا والعراق…)، ودولًا نشأت من جديد (دولة جنوب السودان)، وأخرى تنتظر.. وتكتلات سياسية تغيَّرت (الدور التركي والإيراني في المنطقة..). على المستوى الإعلامي نلاحظ أن المشهد الإعلامي والاتصالي قد انقلب كليًّا من إعلام أرضي إلى إعلام فضائي، ومن اتصال هرمي إلى اتصال شبكي، وحريٌّ بنا قبل ذكر كل هذا أن ننوِّه لأحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول سنة 2001، والحرب على العراق 2003، ومشروع إصلاح الشرق الأوسط 2004، وحراك الربيع العربي منذ 2011؛ الذي ما زال يهزُّ المنطقة بين إصلاح وثورة وتثوير. أمَّا على المستوى الاجتماعي والثقافي فتعيش المنطقة العربية حالة ركود اقتصادي أساسه ريع النفط في دول الخليج، واقتصاد هامشي في بقية الدول، وهو ما أنتج جيوشًا من العاطلين من أصحاب الشهادات العليا، ورغبة في الهجرة إلى الغرب بحثًا عن الأمن ولقمة العيش ومزيد من الحريات؛ إن استراتيجية عربية إعلامية لمكافحة الإرهاب لا تأخذ بعين الاعتبار كل هذه المتغيرات؛ التي شهدها النظام العربي والدولي في العشريَّتين المنقضيتين، يصعب التكهن بمدى قدرتها على تحقيق أهدافها.
لا يختلف عاقلان في حاجة العرب اليوم لاستراتيجية إعلامية عربية لمحاربة الإرهاب؛ إن الإشكال يكمن في وجاهة مبررات هذه الحاجة؛ ففي محور دواعي الاستراتيجية الإعلامية العربية لمكافحة الإرهاب ومبرراتها تستعرضنا في هذه الوثيقة الجملة الآتية: “يشير الواقع إلى أننا بحاجة إلى إعلام مستنير يُعمِّق الوسطية بكل قيمها النبيلة، إعلام يعترف بالآخر، ويناقش قضاياه بكل حرية وأمانة حتى يثق كل مواطن بما يتناوله”(2). إن الحديث عن أن “الواقع يشير”، لا يُقدِّم لنا دليلًا عن أيِّ واقع تتحدث عنه الاستراتيجية، وعلى هدي أية بيانات وأرقام أو دراسة ميدانية توصلت إلى نتائج علمية وقع الاعتماد عليها، كما أن هذه الفقرة تقر دون مرجع بأن الإعلام العربي ليس مستنيرًا ولا هو بالوسطي، ولا يعترف بالآخر، ولا يثق فيه المواطن، وهي كلها تأكيدات مهمَّة في حاجة إلى بيان مرجعيات هذا التعميم؛ حتى يمكن لهذه الاستراتيجية أن تتحقق عمليًّا في الواقع.
كما يتعرض نص الوثيقة -ودائمًا في ركن دواعي الاستراتيجية ومبرراتها- إلى “الاستراتيجية العربية لمكافحة الإرهاب؛ التي أقرها مجلس وزراء الداخلية العرب سنة 1998؛ التي نصت على “تكثيف استخدام وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لتنمية الوعي العام العربي والوطني القومي، وإبراز الصورة الصحيحة للإسلام”. إن العودة إلى مثل تلك الاستراتيجية التي أُقِرَّت قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وقبل احتلال العراق وظهور تنظيم الدولة الإسلامية المعروف اختصارًا بـ”داعش” وحراك الربيع العربي وغيرها من المتغيرات؛ خاصة منها السياسية والإعلامية، تُظهر لنا الفارق الزمني بين كلا الاستراتيجيتين والمتغيرات التي صاحبتهما؛ ففي ذلك الوقت كانت شبكة الإنترنت في بدايتها بالعالم العربي، أما اليوم فإن الإعلام الاجتماعي تَقدَّم على الإعلام التقليدي؛ الذي بُنِيَتْ عليه الاستراتيجية العربية لمكافحة الإرهاب سنة 1998.
إن الحديث عن المبررات التي دفعت وزراء الإعلام العرب إلى إقرار هذه الاستراتيجية حديثٌ عن التشخيص للظاهرة محل الدراسة ومقدمة للإجابة عن سؤال: كيف يمكننا التصدي إعلاميًّا إلى الفكر الإرهابي في العالم العربي؟ إن التشخيص العلمي والصحيح لأشكال حضور الفكر الإرهابي في الإعلام العربي وخارجه وأسبابه يفرض علينا القيام بدراسات علمية ميدانية وعلى عدة مستويات؛ وذلك على مُدخلات الخطاب الإعلامي ومُخرجاته في الإعلام العربي وفي أكثر من دولة، ومن خلال أكثر من وسيلة (صحيفة، تليفزيون، إنترنت…). وتكون هذه الدراسات تحت إشراف خبراء في الإعلام يُطبِّقون عليها آخر النظريات المتعلقة بتحليل الخطاب وبنظريات التفاعلية، والأطر الإعلامية Framing analysis.
يغلب اليوم على تحليل مخرجات الإعلام العربي طابع عاطفيٌّ سطحيٌّ متشنج، لا يرتقي إلى معايير البحث العلمي؛ بل هو في الغالب استجابة حينية لرهان سياسيٍّ أو أمنيٍّ، سرعان ما تتراجع قيمته مع تراجع اهتمام رجل الأمن أو السياسة به؛ لذلك نتساءل: على هدي أي بحوث ودراسات علمية عن واقع الإعلام العربي أُقِرَّت هذه الاستراتيجية؟ إن الفقر البحثي والمعرفي الذي تعاني منه الدراسات الإعلامية في العالم العربي؛ الذي يُزكِّيه أيضًا تجاهل أهل القرار لهذا التخصص المهم في إدارة الشأن العام لا يمكنه أن يساعد على تشخيص علمي لظاهرة الإرهاب، بوصفه المنطلق لبناء استراتيجية إعلامية عربية لمكافحة الإرهاب. كما أن ما يميز الاستراتيجيات العربية وقوعها أسيرة مقولة العمل العربي المشترك؛ الذي يشوبه كما نعرف العديد من الهنات؛ وذلك بحكم اختلاف طبيعة أنظمة الحكم، وتعارض بعض التحالفات والمصالح الإقليمية والدولية لأكثر من دولة عربية؛ فهل يصح القول: إن الاستراتيجية الإعلامية العربية لمكافحة الإرهاب تنطبق عليها مقولة: الصحيح المهجور؟
المنطلقات: من أجل مرجعية إعلامية عربية
تعتبر المنطلقات في الاستراتيجية نقطة البداية، فهي عبارة عن الأسس الذي بالعودة إليه يمكننا متابعة سير الخطط والبرامج والأهداف والآليات؛ ففي باب المنطلقات الخاصة بالاستراتيجية الإعلامية العربية لمكافحة الإرهاب؛ التي يمكن أيضًا اعتبارها مرجعيات أو ثوابت، احتوت الاستراتيجية على 25 منطلقًا؛ توزعت كما يلي:
مرجعية وحيدة لها صلة بالمجتمع المدني، وهي المرجعية رقم 1، وتقر بـ”أهمية دور مؤسسات المجتمع المدني والأسرة في تكوين شخصية الفرد وميوله واهتماماته وسلوكه، وأهمية تحقيق الأمن الفكري لدى المواطنين”. وما يمكن الإدلاء به حول هذه المرجعية هو الإقرار بإيجابية دور المجتمع المدني في الاستراتيجية الإعلامية العربية لمكافحة الإرهاب، وهو تحوُّل مرجعي مهمٌّ بحكم استفراد الدول العربية تاريخيًّا بأغلب الملفات التي لها علاقة بالشأن العام، وتجاهل بقية الأطراف الفاعلة في المجتمع.
كما توجد في بداية الاستراتيجية رقم 4 مرجعيات إعلامية من بينها: “أهمية المصداقية والموضوعية في الرسائل الإعلامية، وإعداد برامج إعلامية مدروسة وموجهة للتعامل مع مشكلة الإرهاب بتوجيه رسائل إعلامية للأفراد والمجتمعات؛ خاصة في مناطق القرى والأرياف”. وتضيف الاستراتيجية رقم 3 مرجعيات إعلامية هي بين المرجعية 22 و24 من الاستراتيجية من قبيل: “ضرورة التعاون الإعلامي العربي…”، و”أهمية اضطلاع وسائل الإعلام المختلفة في إيضاح الصورة الحقيقية للإسلام والعروبة ونبذهما للإرهاب…”.
ويلاحظ أن النصيب الأوفر لمنطلقات هذه الاستراتيجية عقائدي التوجُّه؛ إذ توجد 9 منطلقات عقائدية من بينها 3 ذات مرجعية دينية؛ مصدرها ثلاث آيات من القرآن الكريم؛ هي: الآية 33 من سورة المائدة، والآية 29 من سورة النساء، والآية 143 من سورة البقرة.
كما توجد 7 منطلقات ذات خلفية أمنية لها علاقة بالاستقرار والأمن القومي، من بينها: “أهمية الأمن للوطن وللمواطنين تحت شعار: ” أمنك وطنك”. كما تؤكد هذه البنود ضرورة تعزيز الوحدة الوطنية؛ التي يسعى الفكر الإرهابي لتهديدها والعمل على تفكيكها”.
وأخيرًا يوجد منطلق شامل؛ وهو المنطلق الذي ذُكر في البند 25؛ الذي يؤكد أن “مسؤولية مكافحة الإرهاب هي مسؤولية جماعية تضامنية، ولابُدَّ لها من اتباع النهج التكاملي في التصدي للإرهاب مع تشجيع أساليب الاعتدال والحوار والتسامح ضمن مفهوم الأمن الشامل”. إن هذا المنطلق ومن حيث الترتيب يجب أن يكون في صدارة المنطلقات؛ ذلك أن القاعدة في التراتبية تنطلق من العام إلى الخاص.
في باب الأهداف: الهدف يحدد الوسيلة
احتوت وثيقة الاستراتيجية على خمسة عشر هدفًا لمحاربة ظاهرة الإرهاب؛ تتوخى “تحقيق الأمن الوطني والمحافظة عليه”، وجاء الهدف الأول مُوَجَّهًا إلى تبصير الرأي العام العربي، وأن “الإرهاب يستهدف ترويع الآمنين، وسفك دماء الأبرياء، وتدمير المنشآت الحيوية، وتكوين رأي عام مناهض للغلو والتطرف بصورة مختلفة”. ونجد إشارة جديدة إلى هذا الهدف في آخر الباب؛ وهو “تبصير الرأي العام العربي بمسؤولياته الأسرية نحو حماية الأجيال الناشئة من السقوط في براثن الإرهاب والارتقاء بوعيهم الثقافي”. ونتساءل هنا: لماذا هذا التباعد في ترتيب الأهداف؟ بينما يمكن دمج هذين الهدفين. في الأهداف الإعلامية تضمن الهدف الثاني من الاستراتيجية ضرورة “تنقية البرامج الإعلامية من كل ما من شأنه التشجيع على الانحراف والغلو والتطرف والإرهاب”، ثم نجد ضمن سياق الأهداف الإعلامية نفسه “تجديد الخطاب الإعلامي وتصحيح المفاهيم الخاطئة للجهاد في سبيل الله، والتمييز بين الجهاد والمقاومة ضد الاحتلال في إطار المبادئ المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية وغيرها من الشرائع السماوية، وكذلك المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة وغيره من الوثائق الدولية الخاصة بحماية حقوق الإنسان؛ خاصة المدنيين والأبرياء”. أما الهدف الرابع فقد استهدف إبراز أن الدين الإسلامي يدعو إلى إعلاء قيم التسامح ونبذ الإرهاب والتطرف والعنف، والعمل على أن تسعى البرامج الإعلامية -هنا نتساءل عن أية برامج إعلامية يدور الحديث- إلى تقديم الدين في صورته الصحيحة، وأن تُنَقَّى البرامج من الدعاة الجدد وفتاواهم المضللة.
أفردت الاستراتيجية الإعلامية العربية لمكافحة الإرهاب عدة أهداف لها صلة بتحقيق وحدة العمل الإعلامي العربي وتكامله في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف (الهدف الخامس)، ودعت إلى تأهيل الكوادر الإعلامية العربية وتنميتها (الهدف السادس)، وتفعيل دور المكاتب الإعلامية العربية ومؤسسات الإنتاج الإعلامي العربي (الهدف السابع). ويضاف إلى هذه الأهداف دعوة المؤسسات الإعلامية العربية القيام بمسؤولياتها تجاه محاربة الإرهاب (الهدف العاشر)، وتكثيف الأداء الإعلامي الموجَّه إلى الخارج للتعريف بالإسلام والحضارة العربية (الهدف الحادي عشر). واهتمت الاستراتيجية بباب التوعية في الأهداف الأخيرة من الخطة، وهي توعية الشباب فكريًّا واجتماعيًّا، وزيادة تحقيق الولاء والانتماء والمواطنة الصالحة، وكذلك “توعية المواطن العربي وجعله دائمًا على اطلاع بما يدور حوله ويحاك ضده من أعمال إرهابية”، وأخيرًا “تأكيد إتاحة الفرصة أمام التائبين للعودة إلى الاندماج في المجتمع في إطار من الشراكة بين مؤسسات الدولة والقطاع الخاص، وتعزيز الاهتمام الإعلامي ببرامج المناصحة العربية”.
على كل استراتيجية متماسكة البناء أن يكون وراء كل منطلق هدف، ووراء كل هدف آلية، وهذا ما لم نعثر عليه في هذه الوثيقة؛ بل كثيرًا ما جاءت الآليات تكرارًا للأهداف؛ فعلى سبيل المثال ذُكر تأهيل الكوادر الإعلامية العربية وتنميتها في باب الأهداف، وورد أيضًا ذكرها في باب الآليات بالصيغة الآتية: “إعداد الإعلاميين العرب وتأهيلهم للتعامل مع ظاهرة الإرهاب وفق مهنية عالية”.
الآليات: ضعف وتداخل وسوء ترتيب
عند الحديث عن المنطلقات فإننا في الشق المنهجي والفكري، وعند الحديث عن الآليات فإننا في مواجهة الشق التنفيذي من الاستراتيجية، وهو الذي سيُحوِّل كل تلك المنطلقات والأهداف إلى واقع منشود؛ وعادة ما تكون الآليات في تناغم مع الإمكانيات؛ وإلا فإننا سنجد أهدافًا يصعب تحقيقها بحكم قلة ذات اليد أو الوقت أو الفكر. وتدعو الاستراتيجية إلى أن آليات التطبيق يجب أن تكون وفق عمل عربي مشترك تتضافر فيه كافة الجهود، واستغلال الإمكانات المتاحة، وهي كما تشير الاستراتيجية “ضخمة وفاعلة وفق مراحل زمنية محددة للغاية الرئيسية”؛ ألا وهي “أمة بلا إرهاب”.
وتحتوى الاستراتيجية العربية الإعلامية لمكافحة الإرهاب على تسع آليات؛ أولها إعداد برامج تُبَثُّ باللغات المختلفة للتعريف بالإسلام، وتوضيح أن الإرهاب ليس من العروبة والإسلام في شيء. هنا نتساءل: هل هذه الاستراتيجية مُوجَّهة إلى الآخر وليس الداخل؛ وبذلك فهي مُوجَّهة لتحسين صورة العرب والمسلمين في الخارج؛ أم مقاومة شكل تدفق الرسائل الإعلامية وأسلوبها للجماعات الإرهابية وتلقيها؟ ويثير ترتيب الآليات الإشكال نفسه الذي اعترضنا في ترتيب المنطلقات والأهداف؛ التي شابها كلها التداخل والغموض بين الوطني/القُطري والعربي/القومي والدولي/الكوني (انظر ملحق الدراسة). وتوجد بعدئذٍ جملة من الآليات التقليدية المتعارف عليها من بينها: “إعداد الإعلاميين العرب وتأهيلهم للتعامل مع ظاهرة الإرهاب وفق مهنية عالية”. إن هذه الآلية والمتمثلة في إعداد الإعلاميين العرب وتدريبهم وجب توافرها كمنطلق وكقاعدة ضرورية لمقاومة الإرهاب. فهل علينا -ضمن استراتيجية عربية لمكافحة الإرهاب- محاربة الفكر الإرهابي اليوم، أم إعداد من سيقوم بهذه المهمة؟ وتتقاطع هذه الآلية مع الآلية السابعة من الاستراتيجية التي تنص على “تنظيم الدورات التدريبية الإعلامية والحلقات النقاشية وورش العمل الخاصة بمكافحة الإرهاب والتطرف”.
والأمر نفسه ينسحب على آلية “إنشاء قاعدة معلوماتية إعلامية حول ظاهرة الإرهاب والعمل على تحليل تلك المعلومات بما يضمن محاصرة الإرهابيين إعلاميًّا وثقافيًّا”. هذه الآلية هي دعوة ضمنية لبعث وكالة استخباراتية خاصة بمحاربة الإرهاب في العالم العربي أخذًا مثلًا بالنموذج الأميركي. السؤال الذي يفرض نفسه ونحن نستعرض هذه الآلية يتعلق بمخرجات إعلام “حركة حماس”؛ فهل سندرجها في قاعدة البيانات الخاصة بالجماعات الإرهابية كما تذهب إلى ذلك دولة مصر، أم لا كما تذهب إلى ذلك أكثر من دولة عربية أخرى؟ والأمر نفسه ينسحب على حركة الإخوان المسلمين؛ فهل كل مفكري من هم من الحركة أو قريبين منها وكتبهم وقنواتهم ومجلاتهم علينا إدراجها في هذه القاعدة المعلوماتية الإعلامية لمحاربة الإرهاب؟ أكيد أنه ستثار كل هذه الأسئلة عندما يجتمع خبراء الدول العربية، ويصبح كل طرف يقدم رؤية دولته على حساب أمته، وهو ربما أهم عنصر يستفيد منه الإرهاب اليوم على الرغم من تحديدنا في منطلقات هذه الاستراتيجية أن الإرهاب خطر على الأمن القومي.
في ثنايا آليات تنفيذ الاستراتيجية الإعلامية العربية لمكافحة الإرهاب تستعرضنا ثلاث آليات قائمة على عنصري التعزيز والتكثيف من بينها: “تعزيز التبادل الإعلامي بين الدول العربية لتوفير منظور عربي مشترك حول الأحداث والقضايا الإرهابية”. إن هذه الفقرة؛ التي تعتبر ضمن الاستراتيجية آلية من آليات التنفيذ، تقر بأنه ليس للعرب استراتيجية إعلامية لمكافحة الإرهاب؛ بل تدعو للتبادل الإعلامي من أجل توفير منظور أو رؤية عربية حول الأحداث والقضايا الإرهابية. كيف يمكننا الحديث عن آليات في غياب المنظور المشترك؟ بل أبعد من ذلك كيف يمكننا الحديث عن استراتيجية إعلامية عربية لمكافحة الإرهاب في غياب منظور عربي مشترك حول الأحداث والقضايا الإرهابية؟
دائمًا ضمن آليات التعزيز تعترضنا الآلية الخامسة؛ وهي تدعو إلى “تعزيز مبدأ الوسطية والاعتدال في المعالجة الإعلامية لظاهرة الإرهاب”. لا أحد يستطيع أن يؤكد أو ينفي: هل الإعلام العربي وسطي أم لا؟ منفتح أم منغلق في معالجته الإعلامية للظاهرة الإرهابية؟ هذا إن وُجدت معالجة إعلامية عربية للظاهرة الإرهابية؛ لكن دعنا نتساءل: كيف يمكننا أن نكون معتدلين ووسطيين مع الإرهاب فكرًا وممارسة وإعلامًا؟ بالإضافة إلى التعزيز تستوقفنا آلية تقول بضرورة “تكثيف برامج التصحيح الفكري باستخدام مختلف وسائل الاتصال الجماهيري؛ خاصة الشبكة العنكبوتية العالمية، والمنتديات الثقافية وغيرها”، وهي الآلية أو الفقرة الوحيدة في الاستراتيجية الإعلامية العربية المشتركة لمكافحة الإرهاب التي يعترضنا فيها مصطلح الفكري من جهة وشبكة الإنترنت من جهة أخرى. إن الدعوة إلى برامج للتصحيح الفكري يمكن تأويلها؛ فما المقصود بالتصحيح الفكري؟ وعن أي فكر نتحدث؟ هل تصحيح الفكر الديني، أم التحديث، أم المراجعة؟ ودعت الاستراتيجية ضمن آليات التنفيذ إلى الاستفادة من خبرات جامعة نايف للعلوم الأمنية التابعة لمجلس وزراء الداخلية العرب، وهو أمر مرغوب ويجب فعلًا توظيف كل إمكانيات هذه المؤسسة العربية العريقة؛ لكن لماذا الاعتماد دائمًا على آلية في التنفيذ لها خلفية أمنية؟ إن من بين أوْكَد المراجعات في التعامل مع ملف الإرهاب هو مراجعة طغيان المقاربة الأمنية على بقية المقاربات؛ إن محاربة الإرهاب إعلاميًّا اليوم لا يمكنها التحقق بعيدًا عن مقاربة شمولية متعددة التخصصات تأخذ بالسياسي والقانوني، والتكنولوجي والإعلامي وأيضًا ما هو سوسيولوجي.
جاءت آخر آلية في هذه الاستراتيجية داعية إلى تبني برامج إعلامية شاملة تهدف إلى تنمية الوعي الوطني العام، وتكريس حب الوطن وأهمية الانتماء إليه في أوساط المجتمع، والتصدي لما يُطرح عبر وسائل الإعلام من مغالطات وأفكار مُغْرِضَة للتأثير السلبي على الشباب، وهي آلية سلبية سالبة للوطنية ما كان يجب الإفصاح عنها.
إعلام جديد، إرهاب جديد: من أجل استراتيجية إعلامية/اتصالية لمحاربة الإرهاب
إن اندماج الإعلام والاتصال يفرض علينا تبني استراتيجية إعلامية/اتصالية عربية لمكافحة الإرهاب، وليس فقط استراتيجية إعلامية؛ فمن خلال عرضنا لمنطلقات الاستراتيجية الإعلامية العربية وأهدافها وآلياتها تبيَّن لنا أن هذه الاستراتيجية لا تستجيب لتحديات الواقع الإعلامي والاتصالي في الوطن العربي والعالم؛ الذي يتميز بانفجار غير سابق لشبكات التواصل، ومنسوب عال من الحريات؛ خاصة في ظل وجود هوَّة بين خطاب الإعلام الاجتماعي الرافض؛ الذي لا تتحكم فيه المؤسسات التقليدية، وبين إعلام تقليدي وعمومي محافظ. إذن هل تستوي آليات ومنطلقات استراتيجية إعلامية عربية مُوجَّهة بالأساس إلى الإعلام التقليدي مع استراتيجية إعلامية/اتصالية عربية، تشمل في الوقت نفسه الإعلام التقليدي (صحافة، تليفزيون، إذاعة…) والإعلام الاجتماعي، وهو ما يصطلح على تسميته علميًّا بظاهرة اندماج وسائل الإعلام التقليدية ووسائل الإعلام الحديثة، مُجَسَّدة خاصة في شبكة الإنترنت. فقد تحوَّل الحديث اليوم بين الخبراء عن “إعلام جديد، إرهاب جديد”(3).
إن البحث في إشكالية العلاقة بين كل من الإرهاب والإعلام يدعونا اليوم لمقاربتها -منهجيًّا- ليس فقط انطلاقًا من مُخرجات إعلام المجموعات الإرهابية؛ بل أيضًا انطلاقًا من مخرجات إعلام من هو ضد الإرهاب؛ يبدو أن رجع الصدى الإعلامي للفكر الإرهابي على وسائل الإعلام -خاصة في شبكة الإنترنت اليوم- هو أقوى حضورًا مما تبثه المجموعات الإرهابية ذاتها؛ ذلك أن ما يكتب ويُسوَّق عن الإرهاب والعمليات الإرهابية إعلاميًّا -خاصة في شبكة الإنترنت- يفوق بشكل كبير ما يبثه الإرهابيون أنفسهم من رسائل إعلامية. فكأن بالاستراتيجية الإعلامية العربية لمحاربة الإرهاب إحالة إلى إرهاب قديم بحكم أنها تتجه وتعتمد على الإعلام التقليدي، الذي يتميز بحضور ضعيف للتفاعلية؛ التي تعتبر اليوم أهم ميزات الإعلام الجديد.
هكذا وبعد سنوات من الخطاب التمجيدي بمزايا الإنترنت -الذي عليه أن يتواصل- وبالتحديد فيما يتعلق بدوره في الإسهام في رفع تحدي التنمية في الدول النامية، وإمكانية شبكة الإنترنت في أن يكون لها كبير الأثر في تقريب الثقافات، وتفعيل حوار الحضارات، وتحرير الفئات المهمشة في مختلف المجتمعات الإنسانية، أصبح الجدل يأخذ بُعدًا تصعيديًّا تجاه شبكة الإنترنت، لتُلصق بها صفات الإرهاب والشذوذ والقرصنة، والهوة الرقمية، وأصبحت شرطة الإنترنت لها اليوم سلطة أكبر من سلطة البوليس السياسي. تحول كل ذلك الإرث الفكري السريع الذي حققته شبكة الإنترنت ومعها تكنولوجيا الاتصال الحديثة إلى إرث هش وفي حاجة إلى إعادة القراءة، وإلى إعادة طرح السؤال الفكري: ما الحد الفارق بين حاجيات الناس من شبكة الإنترنت ومختلف الاستعمالات السائدة اليوم؟ أصبحت الإنترنت عند بعضهم سببًا في تهميش اللغات المحلية، وعاملًا في عرقلة التجارة الوطنية في علاقتها بالعولمة، ومرتعًا لتخريج إرهابيين. هكذا تحولت شبكة الإنترنت إذن من نعمة إلى ورطة يصعب حصر مخرجاتها وفرز وظائفها، وبيان من هو المستفيد منها؛ لقد حلَّ في تشخيص حال الاتصال والإنترنت -وللأسف- خطاب الكأس نصف الفارغة محلَّ الكأس نصف الممتلئة، وهو ما يتطلب منَّا الإقرار بأن الإرهاب والإنترنت ليس هو الإرهاب والإعلام.
“إن الإرهاب لا وطن له والإنترنت أيضًا لا وطن له”(4). هكذا حدث الزواج بين الطرفين فاتَّحدا في الهجرة، زواج يبدو في حدِّه الظاهر زواج متعة؛ ولكنه في الأصل يعتبر زواج فتنة؛ وحال المهاجرين الجدد هو إحالة على هذا التلاقي بين ضربين من الهجرة: هجرة من يوصفون بالإرهابيين؛ فهم في أغلب الحالات بلا وطن، وهجرة من يجوبون الفضاء الافتراضي دون جواز سفر؛ فهم أيضًا بلا وطن؛ حتى إن كانوا على المستوى الواقعي داخل أوطانهم. يلتقي مهاجرو الإنترنت بمهاجري ما يُطلق عليه “الجهاد” ليشكِّلوا ما يصطلح عليه بعضهم بالإرهاب الرقمي أو الافتراضي، أو الجهاد الإلكتروني، وغيرها من المصطلحات الجديدة في قاموس العلاقات الدولية، والسياسة، وتكنولوجيات الاتصال. وتعتبر شبكة الإنترنت في أدبيات الجماعات الإرهابية وسيلة مساندة ومساعدة لوجستية؛ وذلك على عدة مستويات؛ تبدأ من الدعم المادي والمالي في جمع التبرعات وتجنيد الأنصار واستقطابهم إلى الدعاية والإعلام لنشر عقائد الجماعات الإرهابية وأيديولوجيتها؛ هذا دون نسيان عنصر جمع المعلومة والخبر المناسب لاستغلالهما في إدارة الصراع مع الأطراف المستهدفة على أرض المعركة: خرائط، بيانات، إحصائيات، أخبار..
لقد تضاعف الاهتمام بشبكة الإنترنت من قبل الجماعات الإرهابية؛ لما تقدمه هذه الشبكة من مزايا تواصلية لا يوفرها الإعلام التقليدي؛ تتمثل خاصة في قلة التكلفة، وسرعة الانتشار، وضعف الرقابة المؤسساتية، وقوة التأثير على الرأي العام وعلى صُنَّاع القرار. كما أن الاحتضان الحميمي للجماعات الإرهابية لشبكة الإنترنت يعتبر استجابة تكتيكية تحوَّلت إلى اختيار استراتيجي لفكِّ حصار وحرب عربية ودولية ضدها على الأرض؛ وذلك منذ إعلان الحرب الشاملة والدولية على الإرهاب بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001؛ فهي لم تعد حسب تعبير بيير بورديو تكتفي بالقول: إن الله معها، بل تسعى أيضًا إلى أن يكون الرأي العام معها(5). لم تجد تلك الجماعات من خيار غير هجر الفضاء الجغرافي لتحلق من جديد وفي حلة مُتَجدِّدة في الفضاء الافتراضي، أي: داخل شبكة الإنترنت. لقد تحوَّل الحصار الأرضي إلى امتداد لتلك الجماعات داخل شبكة الإنترنت، وبشكل يبدو منظمًا ومهيكلًا؛ هدفه تعويض خسائر المعركة غير المتكافئة أمنيًّا وعسكريًّا في ساحة القتال التقليدي مع أجهزة دول العالم مجتمعة.
لقد فكَّكت الضربات الموجعة للجماعات الإرهابية، التي وُجِّهت من قِبَل التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب، البنية التحتية الهرمية التقليدية لها؛ ليتحول آلاف أو مئات الآلاف من الأنصار إلى جماعات بلا قيادات وبلا بوصلة ولا مرشد تهتدي به. جاء الحل السحري في شبكة الإنترنت ذات البناء الأفقي كبديل عن البناء العمودي التقليدي للجماعات الإرهابية؛ الذي تهاوى ليصبح البريد الإلكتروني والرسائل المشفرة، وشبكات التواصل الاجتماعي، وصور الفيديو القبلة التي يتَّجِه إليها زوار وأنصار الجماعات الإرهابية. وبما أن شبكة الإنترنت تتميز بكونها وسيطًا غير هرمي؛ فقد التقت لا هرمية الجماعات الإرهابية الجديدة مع لا هرمية شبكة الاتصال الجديدة مُجَسَّدة في الإنترنت، وهو ما يُفسِّر حالة التماهي وزواج المتعة بين الإرهاب وشبكة الإنترنت. هكذا تتضح لنا ماهية العلاقة التواصلية الكامنة بين الطرفين؛ وكيف توفِّر شبكة الإنترنت تغذية منقطعة النظير للجماعات الإرهابية على مختلف الأصعدة؛ ومنها خاصة بقاء فكر الجماعات الإرهابية على قيد الحياة، بحكم أن شبكة الإنترنت ليست زعيمًا يُسْجَن، أو قائدًا يموت في ساحات الوغى، ولا هي صحيفة تُصادر، أو إذاعة تُغلق، أو موقع عسكريٌّ للتدريب في الموصل بالعراق أو في جبال تورا بورا بأفغانستان يُقصف ويُدمَّر فيُهْجر.
يُوصف تنظيم القاعدة -على سبيل الذكر- لدى أخصائيي مكافحة الإرهاب بأنه أول تنظيم مسلح يتحوَّل من الواقع المادي إلى الواقع الافتراضي؛ وذلك عبر التوظيف المحكم لتكنولوجيات الاتصال الحديثة؛ ليصبح ما يماثل التنظيم المؤسس داخل قاعدة شبكة الإنترنت. وقد أدى هذا التحوُّل إلى ميلاد مجموعة افتراضية وتبلورها تُدار مباشرة انطلاقًا من تجمع للعقائد والمبادئ المشتركة؛ لذلك تسعى الجماعات الإرهابية إلى تحويل شبكة الإنترنت ليس فقط إلى فضاء للدعاية والترويج لأفكارها؛ بل إلى تطويع واقتياد هؤلاء الهائمين في الفضاء الافتراضي إلى قاعدة الجهاد المفتوحة؛ فهي تسعى أيضًا إلى توظيف شبكة الإنترنت من خلال عرض المعلومة المضلِّلة كحرب دعائية مُضادة لما ينشر من أخبار ووقائع ونشاطات عن الجماعات الإرهابية تبدو أنها مسيئة لصورتها وأفقها “النضالي”. كما تستغل الجماعات الإرهابية الشبكة لصياغة مضامين تهديدية لزرع ثقافة الخوف والتوحش والرعب ونشر صور وأفلام فيديو لمختطفين ومحجوزين؛ وهي عمليات تهدف إلى شنِّ حرب نفسية ضد العدو سلاحها الإعلام والاتصال الإلكترونيان.
وقد أدَّى هذا التداخل في منظومة الإنترنت إلى سوء التحكُّم المحلي والدولي في الشبكة بحكم التعارض بين السياسات الدولية للدول العظمي، وبين دور الشركات العملاقة في مجال تكنولوجيات الاتصال وضعف دور الدول النامية؛ لكن واقعيًّا وبعيدًا عن الافتراضي يؤكد العديد من الأبحاث أن هناك أكثر من 5800 موقع على شبكة الإنترنت يُروِّج للفكر الإرهابي، وأنه يوجد نحو 900 موقع جديد يظهر كل عام، وعلى الرغم من تراجع بعض المواقع الإعلامية؛ وخصوصًا التي تديرها القاعدة فإن كل المؤشرات الأمنية تؤكد أن المواقع المتطرفة على الإنترنت في تزايد مستمر. ونعرف أنه من الصعب اقتفاء أثر معظم المواقع؛ حيث إن المنصات التي تديرها مثل تلك الجماعات غالبًا ما تُغيِّر عناوينها لتجنب كشفها، أو تبدأ من جديد في الظهور في مكان آخر بمجرد اختراقها؛ فالمعركة الحقيقية مع الجماعات الإرهابية -كما يؤكد خبراء الإنترنت والإرهاب- لم تعد على الأرض؛ وإنما على مستوى سَيْبري، أي: على مستوى الإعلام والاتصال الافتراضيين، وإن التغطية الإعلامية للإرهابيين أصبحت أكثر أهمية من العمليات الفعلية التي تديرها.
خاتمة
ستكون خاتمة هذه الورقة عبارة عن عود على بدء؛ أي: عودة إلى المرجعيات والمنطلقات الأساسية لأية استراتيجية إعلامية عربية لمكافحة الإرهاب؛ التي عليها أن تكون قائمة أساسًا على قاعدة حقوق الإنسان ومرجعيتها وحرية الرأي والتعبير أولًا وأخيرًا. وفي غياب هذه المرجعيات فإنها ستكون بالضرورة استراتيجية ناقصةً ومُحَفِّزَةً ومُنْتِجَةً لمناخ قد يكون أكثر قابلية لتبني الفكر الإرهابي، ومنتجة لمخرجات إعلامية متماهية بوعي أو من دون وعي مع سياقات الإرهاب.
هكذا لاحظنا الغياب الكلي لقيم حقوق الإنسان؛ التي بنى على أساسها الفكرُ الإرهابي خطابَه، ويعتبر نفسه ضحية من ضحاياها؛ فلماذا لم تشر الاستراتيجية بشكل جليٍّ وواضح إلى قيمة المجتمع المدني والأهلي، وقيم حقوق الإنسان، ومرجعية حرية التفكير والتعبير مُجَسَّدة في حرية الصحافة والإعلام؟ إن الفكر الإرهابي يتغذَّى من شعارات جوفاء كـ”الطاغوت” و”الكفار” و”المستبدين”؛ فلابُدَّ من قطع الطريق أمامه باعتماد مرجعيات جديدة تُفقد الفكر الإرهابي أي أمل في أن يجد حاضنة فكرية أولًا ثم اجتماعية ثانيًا كما حصل في العراق وسوريا وغيرهما من الدول العربية والإسلامية.
كما على هذه الاستراتيجية أن تُحدِّد حدودها المكانية والزمانية؛ أي: هل هي استراتيجية مُوَجَّهَةٌ إلى الواقع العربي أم المحلي؟ إن وجود بعض المنطلقات والأهداف والآليات التي لها صلة بصورة العرب والمسلمين في الخارج في حاجة إلى استراتيجية ثانية مستقلة قد يكون عنوانها: “أي دور للإرهاب في تشويه صورة العرب والمسلمين في الخارج: مقاربة استراتيجية”. كما نلاحظ أن هذه الاستراتيجية في حاجة إلى تطوير آليات العمل العربي المشترك في كل المجالات؛ التي يشوبها الكثير من الشلل والبيروقراطية والزبونية؛ سواء كان ذلك في المجال السياسي أو الإعلامي أو الأمني. إن بعث هيئة عربية مستقلة لمحاربة الإرهاب ذات مقاربات متعددة هي الملاذ الأخير أمام تشتت الإمكانيات وهدر الطاقات؛ خاصة ضياع الوقت.
الإشكال الثاني يتعلق بمرجعيات هذه الاستراتيجية: هل هي عقائدية أم مدنية أم تعتمد على المزج بين الاثنين؟ وإن كان كذلك فلماذا لا يوجد تنسيق وتوافق بين المرجعيتين؟ لم تفرد الاستراتيجية معطيات إحصائية أو بيانات علمية تعتمد عليها؛ بل كثيرًا ما كانت عناصرها عامة وفضفاضة يصعب حصرها وتطبيقها وتقييم مدى نجاح تحققها. ولعل من بين أهم هنات هذه الاستراتيجية على الرغم من قيمتها وحاجة العرب لها هو غياب الخلفية والمرجعية الشاملة لمكافحة الإرهاب؛ التي تعتبر اليوم من المقاربة الحديثة في استراتيجيات محاربة الإرهاب. وتقوم المقاربة الشاملة على تبني أكثر من مدخل لمحاربة الإرهاب وأن كل المداخل متلازمة، فلا قيمة للأمني في غياب الإعلام، ولا قيمة للإعلام في غياب حلّ مشاكل الفقر والأمية والبطالة، كل هذا على أساس تطوير مناهج التعليم ورفض الاضطهاد السياسي، واحترام حقوق الإنسان لا أكثر ولا أقل.
________________________________
الهوامش
1. Huyghe, François-Bernard, “Terrorisme et medias”, (Visited on 5 July 2015):
http://www.huyghe.fr/conference_21.htm.
(**) أقر وزراء الإعلام العرب بجامعة الدول العربية في شهر مايو/أيار من سنة 2015 الاستراتيجية الإعلامية العربية لمكافحة الإرهاب؛ التي أعدتها أكاديمية نايف للعلوم الأمنية منذ سنة 2013.
2. “الاستراتيجية الإعلامية العربية المشتركة لمكافحة الإرهاب”، القاهرة، 19 من ديسمبر/كانون الأول 2013، جامعة الدول العربية، ص 4، (تاريخ الدخول: 1 يونيو/حزيران 2015):
http://www.minfo.ps/arabic/Docs/terrorest-stratigic.pdf
3. Weimann, Gabriel, New media New terrorism, Research Series, vol 2, 2014, (Visited on 1 July 2015) :
http://www.wilsoncenter.org/sites/default/files/STIP_140501_new_terrorism_F.pdf
4. زرن، جمال، “الإرهاب والإنترنت: تجليات رأي عام افتراضي”، دراسة صدرت في كتاب جماعي سبتمبر/أيلول 2009 لـ”أعمال الملتقى الدولي عن الرأي العام في عالم عربي متحول”، معهد الصحافة وعلوم الإخبار بتونس، نوفمبر/تشرين الثاني 2008، (تاريخ الدخول: 2 يونيو/حزيران 2015):
http://jamelzran.arabblogs.com/archive/2009/10/962692.html
5. Bourdieu, Pierre, “L’opinion publique n’existe pas”, Observatoire des Media Acrimed, 27 November 2012, (Visited on 5 July 2015):
http://www.acrimed.org/article3938.html
د. جمال زرن
مركز الجزيرة للدراسات