دائماً ما أشعر بالانبهار تجاه العراق، وتنوع ثقافته، فهو بلد يتميز بإرث طويل وثري. ولا أتوانى هنا عن إعلان إعجابي بشجاعة شبابه الساعين نحو تجديد الحياة السياسية بالبلاد. ونقف جميعاً في انتظار معاينة ما إذا كان مجلس النواب سيصدق على المرشح لرئاسة الوزراء محمد توفيق علاوي ومجلس وزرائه. حتى هذه اللحظة، لا يزال التصديق أمراً غير مؤكد، وأرجأ المجلس التصويت بخصوص علاوي.
هل لاحظتم امتناع المسؤولين الأميركيين عن الإدلاء بأي تصريحات حول رئيس الوزراء الجديد ومجلس وزرائه؟ يبدو هذا تغييراً كبيراً عما كانت عليه الحال أعوام 2006 و2010 و2014. في الوقت ذاته، فإنَّ إرجاء التصديق على تعيين علاوي رئيساً للوزراء يخدم المصالح الأميركية، فمن المؤكد أنَّ «جناح المقاومة من جماعة الحشد الشعبي» سيضغط على رئيس الوزراء الجديد، بغض النظر عن هويته، من أجل طرد القوات الأميركية من العراق. ولا تتحدث واشنطن علانية عن رئيس وزراء جديد للعراق، لكن وزارة الخارجية الأميركية أصدرت في 10 من يناير (كانون الثاني) بياناً قالت فيه إنَّ واشنطن لن تتفاوض بشأن سحب قواتها من العراق. ويدعي مسؤولون أميركيون أنَّ التصويت الذي عقده البرلمان العراقي حول هذه المسألة في 5 يناير غير ملزم قانونياً. وقد شعرت بصدمة تجاه هذه التصريحات، لأنه من النادر مشاهدة مثل هذا القدر من الغطرسة علانية.
الحقيقة أن المحامين العراقيين، لا الأميركيين، هم المنوط بهم تحديد ما هو ملزم قانونياً داخل عراق مكتمل السيادة. والمؤكد أن التحركات الأميركية من أجل عزل وتهديد حكومة بغداد لن تفوز بثقة الأغلبية داخل البرلمان العراقي.
على سبيل المثال، التقى وزيرا الخارجية والدفاع الأميركيان، رئيس وزراء إقليم كردستان العراقي، مسرور بارزاني، في ميونيخ في وقت سابق من فبراير (شباط). ومع ذلك، فإنهما لم يلتقيا وزير الخارجية العراقي محمد الحكيم، الذي لا يمثل بالتأكيد عدواً للولايات المتحدة. وبالمثل، التقى مساعد وكيل وزارة الخارجية الأميركي ديفيد شينكر، مسؤولين أكراداً في أربيل في 9 يناير، لكنه لم يذهب إلى بغداد. ولا شك أن المسؤولين الأميركيين يعون جيداً البروتوكول الذي ينص على ضرورة أن يزوروا بغداد أيضاً. وبتصرفاتهم تلك، يهين المسؤولون الأميركيون، بغداد، بسبب غضبهم إزاء الأخيرة لإخفاقها في السيطرة على «جناح المقاومة».
علاوة على ذلك، تطلق واشنطن تهديدات. مثلاً، حذر الرئيس ترمب في 6 يناير من أنه قد يفرض عقوبات حال رفض العراق بقاء قوات أميركية على أراضيه. وأرجو ألا تندهش، عزيزي القارئ، عندما أخبرك أن ترمب في 10 يناير، قال إنه موافق على فكرة سحب قوات أميركية من العراق. في الواقع، هذا تخبط من واشنطن. وقد تعلمت من جانبي أن أركز بدلاً عن ذلك على أفعال هذه الإدارة.
وفي يناير، أرجأ البنك المركزي الأميركي التحويلات الشهرية المقررة إلى البنك المركزي العراقي، التي تقدر بمليارات الدولارات الأميركية، من حساب عائدات النفط الخاصة بالبنك العراقي في نيويورك. ولم تعلق واشنطن على هذا الإجراء، لكن التأخير، في حد ذاته، كان إشارة إلى أن بإمكانها وقف حساب حيوي بالعملة الأجنبية يملكه العراق. ومع أن تحويلات فبراير لم تتأخر، لكن المسؤولين العراقيين في القطاع المالي يشعرون الآن بالتوتر.
إضافة لذلك، هناك مشكلة العقوبات الأميركية ضد العراق، بسبب واردات العراق من الغاز الطبيعي الإيراني، الذي يتسم بأهمية حيوية لمنشآت توليد الكهرباء العراقية. في العادة، توافق واشنطن على عدم فرض عقوبات ضد العراق عن مثل تلك الواردات من الغاز الطبيعي لفترات تبلغ 90 أو 120 يوماً. وفي نهاية كل فترة، تطلب الحكومة العراقية من جديد معاملة استثنائية فيما يخص العقوبات. في فبراير، منحت واشنطن الحكومة العراقية 45 يوماً فقط. ورداً على هذه الفترة الأقصر، صرح وزير الكهرباء العراقي لؤي الخطيب، بأنه يأمل في ألا تجعل واشنطن من العقوبات سلاحاً جديداً ضد العراق. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الوزير الخطيب ليس عدواً للولايات المتحدة.
وعلى ما يبدو، تعتقد واشنطن أن بغداد بإمكانها إيجاد حل سريع لمشكلة «جناح المقاومة». ويبدو كذلك أنها تعتقد أن مخاطرة إشعال فوضى اقتصادية في بغداد لا تمثل تهديداً كبيراً لمصالحها في العراق. بيد أنه في الواقع إذا ما تسببت العقوبات الأميركية في ألم بالغ للعراقيين خلال حياتهم اليومية، أشك أن غالبية العراقيين في تلك الحالة سيرحبون بالوجود العسكري الأميركي. وربما يكون الأميركيون على استعداد للمراهنة بمستقبلهم في العراق على قاعدة داخل كردستان العراقية.
وينبغي لواشنطن أن تتذكر أن الأكراد العراقيين أصدقاء لها، لكن لديهم نقاط ضعف. وقد رأينا نقاط الضعف تلك عام 2017، ومنها السيطرة القانونية لبغداد على المجال الجوي فوق مطار أربيل. بجانب ذلك، لماذا قد تحتاج واشنطن إلى قاعدة في إقليم كردستان إذا كانت مهمة القوات الأميركية دعم الجيش العراقي، بحيث يتمكن من احتواء وهزيمة الإرهابيين؟ لن تخوض قوات «البيشمركة» قتالاً داخل المناطق التي ظهر بها تنظيما «القاعدة» و«داعش». وربما ترغب إدارة ترمب في وجود عسكري طويل الأمد لمحاربة المتطرفين جنباً إلى جنب مع القوات الأميركية. شخصياً، أعتقد أن هذه فكرة سيئة، لكن لو كانت حقيقية، فإن واشنطن يتعين عليها إذن التوقف عن إهانة وتهديد بغداد وفتح قنوات اتصال.
روبرت فورد
الشرق الأوسط