تزايد التعدّي على حقوق أقلية الإيغور في الصين، والتضييق على حرياتهم الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي يكفلها الدستور والقانون الدولي. وشهد هذا الشهر مطاردة الحكومة الصينية لهم عبر آلياتٍ مختلفة بدعوى ميولهم نحو التطرف، ولكن تقبع عوامل أخرى ما بين أسبابٍ اقتصادية واجتماعية وسياسية وأيديولوجية.
الرواية الصينية
في كتابه “طريق الصين: رحلة في مستقبل قوة صاعدة” ذكر الكاتب الأميركي روب غيفورد أنَّ غالب مجموعة الإيغور العرقية يعتقدون أنَّ المناطق التي يعيشون فيها لا يجب أن تكون جزءاً من الصين، وتوجد حركات داخل الصين لمقاومة الحكم من بكين. والأسباب الداعية لهذه المقاومة لها جذورها في طبيعة الدولة الصينية نفسها، والتحول الكامل الذي عانته في السنوات المئة والخمسين الماضية.
تتركَّز عرقية الإيغور المنحدرين من الأتراك، وأحد أهم أعراق المسلمين في الصين، في منطقة شينجيانغ ذاتية الحكم، والتي كانت تسمى تركستان الشرقية، وتشكّل سدس المساحة الإجمالية للصين. ويُعدُّ الإيغور السكان الأصليين لهذه المنطقة، اعتنقوا الإسلام منذ القرن العاشر الميلادي، وكانوا قبل ذلك على دياناتٍ ومعتقداتٍ مختلفة، أهمها المسيحية والبوذية والزرادشتية. تمكنوا من إقامة دولة تركستان الشرقية التي ظلت صامدةً على مدى نحو 10 قرون قبل أن تنهار أمام الغزو الصيني عام 1759، ثم عام 1876 قبل أن تلحق نهائياً عام 1950 بالصين الشيوعية.
الثورات
خلال هذه المدة قام الإيغور ببضع ثورات نجحت في بعض الأحيان في إقامة دولة مستقلة، كثورتي عام 1933 و1944، لكنها سرعان ما انهارت أمام غزو الصينيين وقمعهم، حيث أخضعوا الإقليم في النهاية لسيطرتهم ودفعوا إليه بالحشود الضخمة من قومية (الهان) التي أوشكت أن تصبح أغلبية على حساب الإيغور السكان الأصليين.
كانت السيطرة الصينية على التيبت وتركستان منذ القرن الثامن عشر إلى 1912 في أماكن عديدة سيطرة اسمية فقط. بعد ذلك انهارت الصين ولم تعد قادرةً على فرض سيطرتها على غرب البلاد. ولكن بعد انتصار ماو تسي تونغ والشيوعيين على الوطنيين التابعين للحزب الوطني الصيني (الكوومينتانغ) عام 1949، ضُمَّ إقليم تركستان الشرقية إلى الصين وأُطلق عليه اسم “شينجيانغ ” أي “الحدود الجديدة”. دلّل غيفورد على وجود تناقضٍ مباشر ما بين الرواية الصينية والحقيقة التاريخية فيما يخص وجود الإيغور ضمن الأراضي الصينية، وهي أنّه حين تُرجم كتاب “تاريخ كمبريدج للصين” إلى اللغة الصينية تم تغيير خريطة سلالة مينغ في الفترة (1368- 1644)، من خريطةٍ لا تحتوي على التيبت وتركستان الشرقية في النسخة الإنجليزية، إلى خريطة تحتويهما في النسخة الصينية.
ذريعة محاربة الإرهاب
أكّدت منظمة العفو الدولية (أمنستي) أنّ الصين اتخذت الحرب على “الإرهاب” التي أعلنتها واشنطن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 ذريعةً لحربها على مسلمي الإيغور. وعلى الرغم من أنَّ غالبية الإيغور يتَّبعون إسلاماً تقليدياً، لكنهم يخضعون للوائح وتعليمات أشد من تلك المفروضة على غيرهم من المسلمين في الصين. وطبقاً لهذه اللوائح والتعليمات يُمنع القاصرون في إقليم شينجيانغ من دخول المساجد، وكذلك تُمنع دورات القرآن الخاصة. وفي المدارس لا يُسمح بالحديث حول الدين. كما قامت السلطات الصينية بإجبار الإيغور على تعلم اللغة الصينية الرسمية (المندارينية) ووضعتها كلغةٍ أصلية في شينجيانغ لقطع الطريق على المطالبين بهويتهم الأصلية المغايرة للهوية الصينية، مما يمهِّد لانفصال المنطقة. وعلى اعتبار اللغة الصينية أهم عامل في بناء الهوية والقومية، فإنَّ فرضها عنوةً قُوبل بالرفض من الإيغور، الذين يتمسّكون بلغتهم القارلوقية وهي من اللغات الترکية تُكتب بالحروف العربية. ساهم ذلك في إذكاء حدّة الخلاف بين السلطات الصينية وأهل الإقليم. ولكلٍّ من الأقليات الصينية الخمس والخمسين لغة خاصة بها بالإضافة إلى اللغة الرسمية باستثناء قوميتي هوي وهان، اللتين تستخدمان الصينية.
بالرغم من أنَّ الدستور الصيني يكفل الحريات الدينية على المستوى النظري، إلَّا أنّه على صعيد الممارسة العملية ما زالت النشاطات الدينية تخضع لرقابةٍ تنظيمية واسعة من الحكومة. هناك بعض الآراء المتعمّقة ترى أنَّ هذا ليس تحاملاً على الإسلام بشكلٍ خاص ولكنه بسبب القلق الصيني من المظاهر الدينية التي يمكنها أن تنافس العقيدة الكونفوشيوسية، ما جعلها تتخذ مثل هذه المواقف من جميع الأديان. فمثلاً أُجبرت الكنائس المسيحية في السابق على إزالة الصلبان من سقوفها، بعد أن قالت السلطات إنّها تنتهك قواعد التخطيط الحضري.
وحتى لا يُتخذ هذا الأمر كذريعة للدول الغربية بأنّ الصين تحارب الإسلام بذاته، لا بدّ من لفت النظر إلى أمرٍ آخر أنَّه بعد أن تأجج العداء الصيني للإيغور على إثر انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 واستقلال الكثير من البلدان التي كانت تخضع للشيوعية السوفيتية، وخصوصاً بلدان تركستان الغربية، وخوفاً من مطالبات الانفصال المتصاعدة في شينجيانغ؛ قام الغرب بالتلويح بفزّاعة الإرهاب في الصين. تمثّل ذلك في الشعار المُبطّن الذي اتخذه الحزب الشيوعي الصيني للقضاء على حلم الانفصال الإيغوري بذريعة القضاء على “الشرور الثلاثة” المتمثلة في “الانفصال والتطرف الإسلامي والإرهاب”.
دوافع اقتصادية
يقع إقليم شينجيانغ في حدود الصين المشتركة مع الهند وباكستان وأفغانستان ومنغوليا وكازاخستان وكيرغيزستان وطاجيكستان، ما يعني أنَّ للموقع المُميَّز أهمية كبرى، وسبب رئيس في كبح طموحات الإيغور الانفصالية. يغطي إقليم شينجيانغ 80 في المئة من احتياجات الصين من النّفط، كما أنَّه يذخر بحوالي 90 في المئة من مناجم اليورانيوم في الصين، و600 مليون طن من الفحم. كما تمثّل منطقة شينجيانغ بوابة الصين نحو آسيا الوسطى ومواردها، حيث تربط شينجيانغ الصين بحقول النِّفط والغاز في قرغيزستان وآسيا الوسطى، ثم إنّها لعبت دوراً تاريخياً مهمّاً في التجارة العالمية؛ حيث تقع على مسار طريق الحرير الذي كان يربط الصين بالدولة البيزنطية، وتعتزم الصين إنعاشه من جديد في “خطة القرن” التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ.
تسعى بكين أيضاً إلى استغلال أراضي شينجيانغ لبناء خط أنابيب للنفط يصلها بالدول المجاورة، بخاصة روسيا، للمساعدة في تلبية الطلب المتزايد على النفط. فقد وقّعت الصين عام 1997 مع كازاخستان اتفاقية لمدّ خط أنابيب النفط بين غرب كازاخستان وشينجيانغ، تم الانتهاء منه في نوفمبر (تشرين الثاني) 2005. وفي عام 2004، وقّعت الصين مع كازاخستان اتفاقاً للتنقيب المُشترك وتطوير موارد النفط والغاز في بحر قزوين. وتسعى الصين من خلال ذلك لربط حقول الغاز في بحر قزوين بأراضيها، ولا يمكن إتمام ذلك المشروع بدون استغلال أراضي شينجيانغ. كما وقّع الطرفان اتفاقاً لبناء السكك الحديدية لنقل الركاب والشحن الدولي، كجزءٍ من جهدٍ يرمي إلى تعزيز طرق التجارة عبر كازاخستان إلى أوروبا. هذه المساعي لن تتحقق للصين ما لم تستطع القضاء على مطالب التحرّر التي ينادي بها الإيغور.
خلال مرحلة الازدهار الاقتصادي الصيني، حُظيت شينجيانغ باستثمارات كبيرة في المجالات الصناعية ومشروعات الطاقة، وكانت الصين متحمسة لإبراز الإنجاز الذي تحقق، ولكنه على حساب قومية الإيغور. وبالرغم من هذا الازدهار إلَّا أنّ الحكومة الصينية تميّز بين قومية الإيغور وقومية الهان التي عملت على تهجيرها إلى المنطقة بتوطين 250 ألف منهم في شينجيانغ، ويُلاحظ الفارق في المستوى الاقتصادي بين القوميتين لصالح قومية الهان.
مبدأ “الصين الواحدة”
أكثر ما يؤرِّق الحكومة الصينية هو نزعات الانفصال الداخلية لأنّها تقف ضد مبدأها القومي التاريخي “الصين الواحدة”. ويشعر الإيغور بحالةٍ من العزلة التامة في مواجهتهم لفرض التغيير الديمغرافي وأساليب التطهير الديني والعِرقي بهدف إدماجهم وإذابتهم في القومية الصينية. فبالرغم من أنَّ المنطقة تُحظى باستقلالية نسبية إلَّا أنَّها دائماً في حالة غليان واصطدام مع الحكومة بالتشكيك المستمر في ولائها للنظام. ولذلك تُقَابل التحركات في المنطقة بالقمع، فمثلاً أقامت السلطات معتقلاتٍ أسمتها “معسكرات إعادة التثقيف السياسي”، شملت عدداً من الجماعات العِرقية التي يقطنها مسلمون أغلبهم من الإيغور والكازاخيين. ويتم تقييم المُعتقلين بناءً على قياس تحولهم العقائدي ودراستهم وتدريبهم وامتثالهم للانضباط.
يُعدُّ مبدأ “الصين الواحدة” عنصراً أساسياً في السياسة الخارجية الصينية التي ترى أنَّ على جميع الدول الاعتراف بالصين فقط ومناطق الحكم الذاتي مثل تايوان، والتيبت، وشينجيانغ كجزءٍ منها. ولذلك سعت الصين إلى عزل تايوان، أو على أقلّ تقدير تعديل التوازن لصالحها في مقابل الانتقاد الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة في مجال العلاقات الدولية. والآن تعمل الشيء ذاته مع شينجيانغ. وترصد الصين ميزانية خاصة لذلك وهو يقع في بند الأمن الداخلي، ففي عام 2012 وحده على سبيل المثال، أنفقت الصين ما يبلغ 111 مليار دولار على الأمن الداخلي مقابل ما قيمته 107 مليار دولار على الأمن الخارجي، وهو أمرٌ يرتبط برؤيةِ القيادة الصينية التي تُولي أهميةً كبيرةً لما يتعلَّق بالأمن والاستقرار الداخلي ووحدة التراب الصيني.
منى عبدالفتاح
اندبندت العربي