أصبحت المسألة السورية تتحكّم بالعلاقات التركية الروسية، وصارت تحدّد مسارها. وتبعا للتطورات المتسارعة، فإن الدبلوماسية والحوار والتفاهمات بين موسكو وأنقرة في تراجع دائم، في وقتٍ تكبر فيه التعقيدات والمخاطر والتباعدات أكثر كلما بانت فرصةٌ للتسوية النهائية. ودخلت العلاقات الثنائية مرحلة الأزمة الحادّة، بسبب تطورات الوضع في إدلب خلال الأسبوع الأخير. وباتت الأبواب مفتوحةً أمام شتى الاحتمالات، بعد دخول أنقرة المعركة مباشرة ضد قوات النظام السوري والمليشيات الإيرانية في نهاية المهلة التي حدّدها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، نهاية فبراير/ شباط الماضي. وكانت القطرة التي أفاضت الكأس التركية هي التعرّض لرتل عسكري تركي داخل الأراضي السورية في منطقة جبل الزاوية يوم 27 الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، الأمر الذي أسفر عن مقتل حوالي 35 عسكريا تركيا وجرح عدد مماثل. ومهما كانت الأسباب والتبريرات خلف مهاجمة الجنود الأتراك قبل نهاية مهلة أردوغان، فإن استباق المعركة من النظام السوري وروسيا يعبر عن قرار مبيّت، مدروس بعناية، يهدف، في أقل تقدير، إلى إمساك زمام المبادرة، وتحديد ساعة المعركة وجرّ تركيا إليها قبل الأجل الذي حدّدته تصريحات رئيسها، وبالتالي حرفها عن تحقيق الأهداف التي وضعتها، وهي إجبار قوات النظام على الانسحاب من جميع المناطق التي سيطرت عليها خلال الأشهر التسعة الأخيرة، بدءا من ريف حماة.
وجاء وقع حادث قتل 35 جنديا على تركيا كبيرا، ولذلك أتى ردها نوعيا من خلال توجيه ضربات كبيرة للنظام والمليشيات الإيرانية التي تقاتل إلى جانبه، وخصوصا حزب الله الذي تكبّد خسارة في صفوف مقاتليه. وشكل انعطافة مهمةً إلحاق تركيا في اليوم الأول من نهاية المهلة خسارة كبيرة بعتاد النظام شملت طائرتين مقاتلتين وثماني حوامات وأكثر من خمسين دبابة ومدرّعة وعربة مدفع. وعلى الرغم من أن الخسائر المادية والعسكرية شملت النظام والمليشيات الإيرانية، قرأت أوساط المراقبين في العملية التركية عدة رسائل موجهة إلى روسيا، كون موسكو سارعت إلى إيجاد ذرائع تعفي النظام من المسؤولية عن قتل الجنود الأتراك، وترميها على الجانب التركي. وكان لافتا أن روسيا تصرّفت ببرود أعصاب، ولم يصدر عنها أي رد فعل على العملية التركية الواسعة التي تلقى فيها سلاح الجو التابع للنظام ضربةً قاسية، ولكنها ردّت في الميدان بعد يومين، عندما تدخل طيرانها الحربي بقوة، الأمر الذي سمح للمليشيات الإيرانية باستعادة المبادرة في المعركة البرية، واستعادة السيطرة على مدينة سراقب الاستراتيجية.
كشفت المعركة عدة حقائق في وقت واحد: الأولى أن المعارضة السورية كانت وحيدة طوال هذه السنوات، وتحمّلت وحدها العبء في مواجهة دولتين، قوة كونية عظمى هي روسيا، وقوة إقليمية هي إيران. ومعروفٌ أنهما وظفتا كل إمكاناتهما من أجل مواجهة ثورة السوريين. والحقيقة الثانية أن المعركة بالنسبة لتركيا ليست حدودية فقط، بل هي وجودية، وتختص بأمنها، ومن ذلك اللاجئون السوريون الذين يشكلون ورقةً كان يمكنها أن تؤثر على اقتصاد تركيا واستقرارها، لو لم تتمكّن الدولة التركية من امتصاص مفاعيلها السلبية.
أما الحقيقة الثالثة فهي التي تترتب على نتائج الميدان في المدى القريب. ومن المعروف أن روسيا تقاتل إلى جانب النظام ونيابة عنه، منذ قرار تدخلها العسكري المباشر في سبتمبر/ أيلول 2015، في حين أن تركيا لم تدعم المعارضة السورية المسلحة مباشرة إلا في الأسابيع القليلة الماضية. وهذا الدعم العسكري بات اليوم في مواجهة القوات الروسية. وحيال هذا كله، هناك أمرٌ لا يقبل النقاش، وهو أنه لو لم تفشل الدبلوماسية بين موسكو وأنقرة، لما كان كل هذا الحشد المسلح من الطرفين.
بشير البكر
العربي الجديد