فجَّرت أحداث العنف الأخيرة في نيودلهي الطائفية المكتومة التي ظلَّت تتجدَّد بين حينٍ وآخر خلال العقود الماضية، مما يستدعي التركيز على الباعث الحقيقي لها، وبما أنَّ العالم يسير في خطوطٍ متوازية فيزداد إيماناً وعنفاً في الوقت نفسه، فقد وجدت عقيدة هندوتفا عند الهندوس مكانها في ظاهرة التدين هذه، كما مال مسلمو الهند نحو العالم الإسلامي، حتى بدت المجموعتان متدينتين بحدودٍ أيديولوجية فاصلة. يمكن مناقشة هذه القضية على نحوٍ ما بأنَّ هذه الحالة من العداء والكراهية ليست حديثةً وإنَّما هي تطبيق لامتزاج الأيديولوجيا بالدعاية التاريخية، تتسلَّح بها المجموعات السياسية والمكونات القومية المعيّنة لتحقيق أهدافها، حتى وإن حملت الأحداث في أحشائها مزيداً من العنف.
فرِّق تسد
ينظر المسلمون في الهند بشيءٍ من التحسُّر إلى تاريخهم الذي بدأ من ضعف إمبراطوريتهم المغولية التي حكمت الهند زهاء ثمانمئة عام منذ مجيئهم إليها. تمَّ القضاء على الدولة المغولية في الهند حين قامت الحكومة البريطانية بضمها إلى التاج البريطاني عام 1858. وحين شرعت بريطانيا في بناء إمبراطوريتها في شبه القارة الهندية لم تجد أفضل من أبناء المنطقة لتزرعهم كعملاء يؤلفِّون بين طوائف الشعب الهندي. ومن أولئك كان سير أحمد خان الذي نال رُتبة الفارس من الملكة فيكتوريا بإنقاذه عدد من البريطانيين أثناء حركة العصيان التي قام بها رعاياها المسلمين.
من أشهر ما نُقل عن سير أحمد خان، قوله إنَّه ليس أمام المسلمين من خيار إلَّا أن يصيروا رعايا صالحين ومخلصين للحكم البريطاني، لأنَّ البريطانيين أكثر تحضراً من المسلمين. كما عمل على إقناع المسلمين بفئاتهم الضعيفة بالكفِّ عن ندب ضياع إمبراطوريتهم، وتعلُّم اللغة الإنجليزية واعتناق القيم وتبني الأعراف الأخلاقية الأوروبية حتى يحصلوا على خير أوروبا ما عدا الديمقراطية، لأنَّه إذا سُمح بقيام مؤسساتٍ ديمقراطية على الطراز الأوروبي في الهند، فسيصير المسلمون أقليةً دائمة مثل الأيرلنديين في وستمنستر، ولهذا السبب حظر على المسلمين المشاركة السياسية. لكن بريطانيا من جانبها قامت بدعم الحركة القومية في الهند، واستطاعت هذه الحركة جذب الهندوس والمسلمين معاً، ثم استفادت من خلافاتهم ونزاعاتهم.
لم تقف التفرقة بين القوميتين عند هذا الحد، فقد قدمت بريطانيا في ما بعد الدعم لمحمد علي جناح والمهاتما غاندي لإبرازهما كزعيمين وطنيين، وكان جناح يعمل لصالح المسلمين، وغاندي لصالح الهندوس. وكانت وظيفتهما هي إقناع قواعدهما الشعبية بضرورة انفصال المسلمين عن الهندوس. دُفع محمد علي جناح (مؤسس جمهورية باكستان) لإنشاء أمة إسلامية، وباكتمال الانفصال في عام 1947، سادت الاضطرابات الدينية فى الهند، ووقع الآلاف من القتلى فدعا غاندي الأكثرية الهندوسية إلى احترام حقوق الأقلية المسلمة، فاعتبر بعض الهندوسيين دعوته خيانةً عظمى.
إعادة تشكيل الهوية
على الرغم من دعوة الهندوسية إلى التسامح، فإنَّ التصريحات المتطرِّفة الصادرة عن الحزب القومي الهندوسي (بهاراتيا جاناتا)، أشعلت العنصرية ضد المسلمين في بلدٍ يبلغ عدد سكانه أكثر من 1.3 مليار نسمة، 80 في المئة منهم من الهندوس و14 في المئة من المسلمين. طالب الحزب الحاكم سكان ولاية آسام التي تقع على الحدود مع بنغلاديش، إثبات مواطنتهم وفقاً للتعديلات التي أُدخلت على قانون الجنسية، أو أنّهم سيصبحون عديمي الجنسية وسيتم إيداعهم في معتقلات بتهمة الهجرة غير الشرعية. قام المسلمون المهدّدون بالتظاهر احتجاجاً ضد هذا القانون الذي عدّوه تمييزاً بحقهم ولكن اعترضتهم مجموعات هندوسية محدثةً أعمال العنف الأخيرة.
ولا تنفصل هذه الحادثة عما تمَّ العام الماضي حين أجرت الحكومة الهندية تعديلاً دستورياً سمح بإلغاء الحكم الذاتي لسكان الجزء الهندي من إقليم كشمير المتنازع عليه مع باكستان، وقبل ذلك حُكم لصالح الحركة الهندوسية في نزاعها مع مسلمي مدينة إيدوهيا حول مكان مسجدهم المُقام منذ 400 عام، الذي حطّمه الهندوس عام 1992.
هذه التحرُّكات ليست وليدة الصدفة، إنَّما تحرُّك مخطط له ومدروس يهدف إلى إعادة تشكيل مفهوم الهوية الهندية وطرحها كهوية هندوسية تنظر إلى القاعدة الشعبية الأكبر في البلاد، وملبيةً طموحات الحركة القومية في بناء هند هندوسية كبيرة، وغير مبالية بنص الدستور الهندي الذي يتيح التعددية.
عنف الوهم
قد تكون الطائفية مجرد شيء خامد لقرون ثم يسعرها الطائفيون ويوقظون فتنة لا يعرف أحد كيف يخمدها. هذا ما تحدَّث عنه أمارتيا سن الكاتب الهندي الحائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية. ففي تحليلاته التي أدرجها في كتابه (الهوية والعنف: وهم المصير الحتمي 2008)، تحدث عن عنف الوهم والانتماءات الدينية والتاريخ الإسلامي وأسهب فيه عن تاريخ المسلمين المتسامح وإسهاماتهم الحضارية والعلمية، مؤكداً أنّ الخطر يحدث حينما نتبنى النظرة عن هوية الطرف الآخر من خلال تعريف ذاتنا لهم، فمثلاً اليهود بطبيعة الحال لم يكونوا هم الموجودين في كتب النازيين ولا منشوراتهم. وبالطبع لم يكن المسلمون الهنود أولئك الموجودين في منشورات الهندوس وليس العكس، ومن الغباء أن تختزل الإنسان في هوية واحدة، ومن الغباء الأكثر أن تصدق أنّ هوية الشخص الآخر هي ما يتم ترويجه لدى خصومه.
وكان سن قد شهد في طفولته الباكرة صراعاً بين المسلمين والهندوس في بلدته، راح ضحيته الكثيرون. ولكن العامل المسلم الذي انتهى به المطاف في حديقة أسرة أمارتيا، ثم مات قبل أن يوصله والد أمارتيا إلى المستشفى، ترك ندوباً في مشاعر الطفل الصغير وكانت هذه الحادثة حافزه لتحليل مشاعر العنف المنضوي تحت الاعتقادات المختلفة.
يرى سن أنّ هناك مشكلتين منفصلتين لهذا الصراع، الأولى: وهي التي قد تكون جوهرية أكثر، تتعلق بأهمية تصنيف الناس وفقاً للحضارات المزعوم انتماؤهم إليها، وقابلية هذا التصنيف للبقاء. وتظهر هذه القضية قبل ظهور معضلات النظرة التي تعتبر أنّ الناس الموضوعين بهذه الطريقة داخل صناديق حضارية لا بد -بشكلٍ ما- أن يكونوا خصوماً، والحضارات التي ينتمون إليها معادية بعضها لبعض. أما المشكلة الثانية فتكمن وراء نظرية الصراع الحضاري، وتعبّر بتعميمٍ كبير عن إمكان رؤية الناس بشكلٍ أساسي بصفتهم ينتمون إلى حضارة واحدة أو أخرى. ويمكن رؤية العلاقات بين أفراد مختلفين في العالم، في هذه النظرية الاختزالية، كعلاقات بين الحضارات المعنية المزعوم انتماؤهم إليها.
تبدو هذه المقاربة كتصنيف فريد، ولكنه قائم بالفعل منذ زمن طويل، وقبل إثارة هذه القضية الخاصة بوجود أو عدم وجود صدام ديني. وهذا يقودنا إلى وجود صراع حضاري مُستخدم من قِبل القوى السياسية المسيطرة ولكنها في الأساس خطوط أو فروق حضارية أو ثقافية، تتبع التقسيمات الدينية، التي يُوجّه الانتباه إليها وحدها. وعليه فإنَّ الذي قاد إلى تنفيذ هذه العمليات هو وجود توجهات قومية دينية تنشط جنباً إلى جنب مع الموجة العالمية للتدين، وذلك لأسباب يمكن إجمالها في ثلاث نقاط، الأولى هي أنّ ظاهرة التدين بهذه الكثافة يشوبها النزوع إلى قومية أو إثنية معينة، مما يجعلها يغلب عليها التطييف الديني أو السياسي. وهنا يضيع مفهوم النزوع نحو الدين الذي يختلف عن مفاهيم التدين، وقليلٌ من يفطن إلى التفريق بين المفهومين. وهو كما ذكر الكاتب المصري يوسف زيدان، أنّ الدين في الأصل إلهيٌّ والتدين تنوعٌ إنساني.
أما النقطة الثانية فهي أنّ حالات التدين الآن مظهرية أكثر منها جوهرية. وعلى الرغم من أنّ هناك شعرة فقط بين الحالتين، ولا يمكن لأحد أن يدخل قلب الآخر لتبين درجة إيمانه، فإنّ طغيان المظاهر يخدع ويغيب المعرفة العميقة للدين. أما النقطة الثالثة فهي البحث عن فردوس وسلام مفقود في هذا العالم المتناحر. ولعل العنف الذي التصق بهذا التوجه ليس من صميم الدين لا من قريب أو بعيد. ولكن نجد أنّ توجه الناس في أنحاء العالم نحو التدين غالباً ما يرافقه جهلٌ بأحكام الدين ومقاصده، ولذلك يظهر الغلو والتطرف كما في خضم هذه الأحداث التي تتخذ من العنف وسيلةً للدفاع عن كينونتها وتتبدى أزمة الصدام الحضاري بين المسلمين والهندوس من عنفٍ وعنفٍ مضاد، وكحقيقةٍ هي أشدَّ تمثُّلاً من نبوءة صدام الحضارات.
منى عبدالفتاح
اندبندت عربي