مع عودة جهود تكليف رئيس وزراء عراقي جديد إلى المربع الأول، وسط انقسامات حادة بين الأطراف السياسية، حط الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، في بغداد، يوم السبت الفائت وغادرها صباح يوم الإثنين، في زيارة هدفها المعلن تنسيق الجهود لمكافحة «كورونا»، فيما دفع تزامنها مع عودة جهود تكليف رئيس وزراء جديد إلى المربع الأول.
مراقبون استنتجوا أن الهدف الحقيقي لزيارة شمخاني هذه هو لملمة البيت الشيعي، الذي يعيش انقساماً حادّاً في اختيار مرشح يحظى باتفاق الأطراف الشيعية، ويرضي ساحات الحراك الشعبي التي رفضت محمد توفيق علاوي، ودفعته إلى الانسحاب.
شمخاني هو أرفع مسؤول إيراني يزور العراق منذ مقتل قاسم سليماني، القائد السابق لفيلق القدس التابع لـ«الحرس الثوري الإيراني»، قرب مطار بغداد الدولي مطلع يناير (كانون الثاني)، ويرى مراقبون أنه في بغداد لتعويض غياب سليماني الذي لعب طيلة سنوات دوراً بارزاً في توحيد مواقف الأطراف الشيعية من القضايا المهمة في العراق.
وقد أجرى شامخاني سلسلة لقاءات في بغداد والنجف مع مسؤولين وقادة سياسيين بينهم الرئيس برهم صالح، ورئيس الوزراء المستقيل عادل عبدالمهدي، ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، ورئيس جهاز المخابرات مصطفى الكاظمي، ورئيس حزب الدعوة نوري المالكي وزعيم تيار الحكمة عمار الحكيم، وزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، وقادة مليشيات الحشد الشعبي وعدد من قادة الأطراف السياسية الأخرى.
المعنيون بالملف السياسي في العراق، يرون أن هذه الزيارة تحمل في طياتها العديد من الملفات، وليس فقط الامور الشكلية البروتوكولية، التي يتم سردها في وسائل الاعلام الحكومية في البلدين، بل ربما هنالك أكثر من سيناريو تحمله زيارة شمخاني الى العراق.
النائب عن تحالف القوى عبد الله الخربيط يقول في تصريح لشبكة رووداو الإعلامية إن “زيارات المسؤولين بين الدول أمر طبيعي”، مبيناً “لدينا الكثير من المتعلقات مع ايران، اضافة الى الدور الذي من الممكن أن يلعبه العراق كوسيط بين ايران من جهة، والغرب والدول العربية من جهة أخرى”.
وتابع “لا نعرف ماهية زيارة شمخاني، فلو كانت في هذا الاطار فهو أمر طبيعي ومرحب به، وكلما زاد التنسيق بين البلدين هو أمر ايجابي”.
واستدرك الخربيط أنه “لو كانت الزيارة تدخل في اطار التدخل بالشأن السياسي في العراق، أو محاولة فرض حلول لمرشح رئاسة الحكومة، أو حتى لمجرد التلميح بذلك، فهو أمر مرفوض، سواء من ايران، أو من أية دولة من دول الجوار، أصدقاء كانوا أم أعداء”.
ويرى المتابعون للشأن العراقي أن زيارة شامخاني للعراق في هذا التوقيت الدقيق جاءت نتيجة القلق العميق من ارتباك حلفاء إيران في الداخل العراقي، وأضافوا أن لقاء شمخاني مع حلفاء إيران كان في مسارين، الأول بما يرتبط بالفصائل المسلحة وطبيعة الخلافات الحاصلة بينها، أما الارتباط الثاني، فيتعلق بخلافات الحلفاء بخصوص مستقبل الحكومة العراقية والخشية من إعادة الهيكلة، وأكدوا أن شمخاني يسعى إلى إعادة التموضع وملء الفراغ الذي تركه قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، بخصوص إعادة ترتيب البيت السياسي الشيعي.
ويرون أن الاجتماع الذي عقده مع زعامات الأحزاب الشيعية، يدلل بما لا يقبل الشك بأن إيران تمضي في استراتيجية جمع الأطراف بعد الخلافات السياسية التي وقعت بين هذه القوى”. وتابع: “شمخاني جاء ليعيد ترتيب مواقف وبوصلة القيادات الشيعية من خلال الرؤية الإيرانية.
ويرون أن تداعيات مقتل سليماني على البيت السياسي الشيعي، بالقول: “طيلة 16 عاما تولى الجنرال الإيراني سليماني إدارة الملف العراقي لدى إيران، وكانت الخيوط الفعلية كلها بيده”.
وأضافوا “يمكننا أن نميز بين مرحلتين: الأولى، كان فيها سليماني بمنزلة الشبح الذي لا يرى ولكن يسمع به. أما المرحلة الثانية، حين كشفت الحرب على تنظيم داعش الارهابي ومخاطر انهيار النظام السياسي الشيعي عن وجوده ودوره الحقيقي، الذي لا يضاهيه أحد أو يقترب منه إلا أبو مهدي المهندس”.
وأوضحوا أن سليماني كان هو العقل المفكر والمدبر للشيعة في العراق، وهو مهندس الأحداث ومشرفها دون مبالغة، هذا الأمر أراح النظام الإيراني من جهة كونه حمل عبئا كبيرا عنه، وكذلك خفف عن الشيعة العراقيين الذين كشفت الأحداث عن ضيق أفقهم، فضلا عن حالة التبعية المذلة للنظام في طهران. والكل كان يؤطر عمله بالجانب العقائدي.
وبحسب رأيهم، فإن الغياب المفاجئ لسليماني والمهندس عن المشهد السياسي الشيعي خاصة مثل “صدمة كبرى”، إلى درجة جعلت نظام طهران يفقد توازنه، مثلما جعل شيعة العراق يمرون بحالة من الاضطراب والضياع.
أما الخبير في شؤون الجماعات المسلحة بالعراق، هشام الهاشمي، فقد رأى في زيارة شمخاني أنها “جاءت لسد الثغرات في الملف السياسي التي أحدثها غياب سليماني، وعجز بديله قاآني عن إنجاز المهمة”.
ولخص الهاشمي زيارة شمخاني في نقاط عدة عبر تغريدة على حسابه بـ”تويتر” بالقول: “تأكيد إنجاز مهمة إخراج القوات الأمريكية والتحالف الدولي من العراق. اختيار رئيس وزراء جديد ومساعدة البيت السياسي الشيعي في ذلك. تفعيل التفاهمات الاقتصادية العراقية-الصينية”.
وتزامنت زيارة شمخاني إلى العراق مع زيارة اسماعيل قاآني خليفة قاسم سليماني، إلى سوريا، الأمر الذي اعتبره المتابعون للشأن العراقي “رسالة من إيران المنهكة داخليا وأمنيا”. وقالوا “تتخيل طهران أن تكليف شمخاني في ترتيب بيت حلفائها من الأحزاب العراقية أنها رسالة لأمريكا بأن طهران مستعدة لإضعاف وتهميش المليشيات والعودة إلى حالة التوافق مع واشنطن على الساحة العراقية”.
ويرى المتابعون للشأن العراقي إن «أزمة رئاسة الوزراء لا تزال تواجه تحدياً كبيراً، في ظل عدم وجود حلول حقيقية للخروج من نفق هذه الأزمة». وأضافوا أن «من بين الحلول اللجوءَ إلى اختيار شخصيتين، الأولى سياسية، والثانية مهنية، تمتلكان القدرة على مواجهة التحديات الكبيرة التي تواجه تلك الحكومة، وفي المقدمة منها إجراء انتخابات مبكرة». وأكد علاوي أنه «بعد تصاعد الصراع الأميركي – الإيراني فإن الطريق أصبح صعباً، لكن الطرفين ربما توصلا إلى نتيجة أن من الأفضل منح العراقيين فرصة اختيار من يرونه مناسباً لإدارة دفة المرحلة المقبلة».
وأوضحوا أن «ذلك أدى إلى انقسام القوى الشيعية إلى قسمين، وكذلك الحال بين السنّة والكرد».
وأشاروا إلى أنه «بعد تجربة محمد علاوي بات الموقف أكثر صعوبة على صعيد التوافق على رئيس جديد للوزراء، في ظل سلسلة تحديات كبرى منها الأزمة الاقتصادية ومرض (كورونا)، فضلاً عن سلسلة الأزمات التقليدية».
تسعى إيران إلى تعويض الخسائر التي لحقت بها على الأرض في العراق وسوريا بعد مقتل سليماني، وأبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة مليشيات الحشد الشعبي مؤسس كتائب حزب الله العراقي، واستنادا لتقديرات سياسية وميدانية، أحدث غياب سليماني والمهندس، ضربة قوية للنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، خصوصا العراق الذي بدأت الخلافات بين قادة مليشيات الحشد تظهر للعيان وتزداد عمقا يوما بعد آخر.
خلاصة القول.. أن زيارة شمخاني للعراق، لا يمكن وضعها إلا في إطار الارتباك الإيراني والعجز عن إيجاد مخرج لمعضلتها العراقية، فكلفت شمخاني استطلاع الموقف والاحتكاك السياسي المباشر مع شخصيات سياسية وأمنية عراقية بعد فشل الاحتكاك الفصائلي، وهي حركة استباقية من طهران قبل أن تفرض عليها التطورات الداخلية والخارجية التعامل مع واقع جديد من خارج حساباتها، فزيارته في النهاية كشفت عن حجم مأزق القيادة الإيرانية وارتباكاتها.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية