حين يتحدث مندوب طهران في البرلمان الإيراني، علي رضا زاكاني، المقرب من مرشد إيران علي خامنئي: “أن إيران، تمر في هذه الأيام بمرحلة “الجهاد الأكبر”، منوهًا أن “هذه المرحلة، تتطلب سياسة خاصة، وتعاملًا حذرًا؛ لأنه من الممكن أن تترتب عليه عواقب كثيرة”، وأنه “على المسؤولين في إيران، معرفة كل ما يجري على الساحة الإقليمية، والتعرف على كافة اللاعبين الأساسيين والمؤثرين في دول المنطقة”، لافتًا إلى ضرورة دعم الحركات، التي تسير في إطار الثورة الإيرانية لرفع الظلم، ومساعدة المستضعفين في منطقة الشرق الأوسط، ولا شك أن هذه التصريحات جاءت لتبشر بسقوط العاصمة اليمنية صنعاء، في قبضة المندوب الإيراني في اليمن، عبد الملك الحوثي وجماعته أنصار الله.
هذا الخطاب الإيراني الانتهازي، الذي يتحدث به المسؤولون الإيرانيون، منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، مستغلين حالة الفوضى والثورية في الشارع العربي، كورقة رابحة، للتمكين لمشروعهم القديم الجديد، بالعبور إلى الساحة العربية، يلتقي إلى حد كبير مع نظرية التصدير الثورية، التي تبناها المرشد الأول والمؤسس للجمهورية الإسلامية، الخميني، خلال ثورة 1979م.
فمع بداية الربيع العربي، أيدت إيران وباركت الثورة في تونس ضد زين العابدين بن علي، وفي مصر ضد حسني مبارك، وفي اليمن ضد علي عبدالله صالح، كما أبدت تبنيها لما حصل في البحرين. وحاولت إيران أن تلقي بعباءتها على تلك الثورات، لتضفي عليها بعضًا من صبغتها الثورية التصديرية، فلم تجد لها رواجًا؛ إلا عند الحوثيين الشيعة في اليمن، والجمعيات الشيعية في دوار اللؤلؤة بالبحرين. أما الثائرون في تونس ومصر، وعلى رأسهم الإسلاميون، فقد أعلنوا رفضهم للوصاية الإيرانية، أوالاقتداء بالثورة الخمينية.
لقد كان الربيع العربي، يعتبر بمثابة تحدٍ من نوع جديد لإيران، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي، تحد يختلف عما سبقه منذ نشأة الجمهورية الإسلامية، فإيران التي ظلت، وإلى عقود طويلة أعقبت الثورة الخمينية، ترى نفسها الراعي الأول عالميًا للدفاع عن حقوق المستضعفين والمظلومين في الأرض، وكذلك مواجهة الهيمنة والاستكبار، ولكن ذلك سرعان ما تلاشى أمام صعود اللاعبين الجدد في الساحة العربية، والذين يتبنون هذا النموذج، وهو ما دفع إيران إلى التنكر لما يجري في مشهد الربيع العربي، حيث اعتبرته صحوة إسلامية، تتجه نحو النموذج الإيراني الثوري، في تونس ومصر والبحرين وليبيا، فيما عارضته بشدة في سوريا، واعتبرته موجهًا من أمريكا ومحاور الشر، لاستهداف محو المقاومة والممانعة.
هذه الازدواجية الموقفية في إيران، جعلت منها عدوًا افتراضيًا في الساحة العربية، على المستويين الشعبي والرسمي، ذلك أن هذه الازدواجية، كشفت الوجه الطائفي والمذهبي لإيران الشيعية، والتي جعلت إيران تدخل رقمًا صعبًا في معادلة الصراع الدائر في سوريا إلى جانب بشار الأسد، والاستماتة دون سقوطه.
منذ أن وضعت الثورة الخمينية أوزارها في ايران، بعدما تخلصت من حكم الديكتاتورية الشاهوية، وأحلت مكانها حكم الإمامة العظمى، وقد بدأ الخميني بالترسيخ لمشروع العبور الثوري خارج الحدود الإيرانية، وقد عُرف بعد ذلك بنظرية تصدير الثورة، ولم تستكن قيادة الثورة آنذاك، ولم تضعف لهم عزيمة أو همة، في سبيل تحقيق هذا المشروع.
وقبل ذلك، الدولة الصفوية “إيران” إبّان عهد الشاه إسماعيل، كانت لها محاولات للسيطرة على المنطقة الخليجية والعراق أيضًا، لكن الدولة العثمانية حافظت على الهوية السنية لدول المنطقة في تلك الحقبة، فيما تعاونت الدولة الصفوية مع كل من يهدد أمن المنطقة، كالبرتغاليين والإنكليز، وكان الشاه إسماعيل يردد آنذاك: “سأمدكم بما تحتاجون، كل ذلك مقابله تمكين الوجود التوسعي المتمدد بالعبور الجغرافي برًا وبحرًا وفي كل اتجاه”، ذلك أن مادة المشروع الإيراني هي بالتمدد والتوسع نحو الجوار.
وأمام هذا المشهد المتعجرف، نقرأ تصريحات كتلك التي صدرت عن الجنرال يحي رحيم صفوي، مستشار المرشد الأعلى للشؤون العسكرية، في 3 مايو/أيار الماضي، عن إيران الكبرى، التي لا تتوقف حدودها عند منطقة “شلمجة” الحدودية مع العراق ولا تمثل الحدود الدفاعية لإيران، وأن”الحدود الدفاعية للدولة الإيرانية، هي جنوب لبنان، وأن البحر المتوسط يشكل العمق الاستراتيجي لإيران”، وبالطبع فإن البحر المتوسط وسواحله بالتبعية، تقع ضمن هذا العمق الذي يقصده المتحدث.
تعاني إيران أزمة استراتيجية شاملة، تتصل بطبيعة تكوينها كدولة دينية، عابرة للحدود بالمنطق الأيديولوجي العبوري، المتأثر بالجذور التاريخية للإمبراطورية الفارسية.
لقد مرت العلاقات التاريخية بين البلاد العربية وبين إيران، بمراحل متعددة قبل وبعد الثورة الإسلامية، ولإيران مكانة هامة في الشرق الأوسط؛ إذ أنها أحد أكبر البلدان الإسلامية، لاسيما في المشرق الإسلامي، فيما يشكل العرب ثقل العالم الإسلامي. ولدى إيران عمومًا ثلاث حلفاء رئيسيِّين في المنطقة العربية، هُم العراق وسوريا ولبنان، فيما أن أكثر علاقاتها توترًا في المنطقة هي مع دول الخليج العربي، والذي لا تعترف به إيران، وتصر على تبعيته للمحور الفارسي، وتسعى لاختراقه واستهدافه بأي ثمن.
حتى لا نغرق في كثير من العموميات، فقد ورثت إيران إرثًا تاريخيًا كبيرًا من الإمبراطورية الفارسية، في بسط السيطرة، ومد النفوذ على المناطق المجاورة لحدودها، ناهيك عن مصادر القوة الباطشة، التي كانت تضرب بها الأمثال في ذلك الوقت، والتي جعلت من الفرس أقوامًا أولي بأس شديد. ذلك الإرث، صعب المنال من وجهة نظري على إيران اليوم، لسبب بسيط، هو أن ما كان في ذلك الزمن، لا يمكن القياس عليه في هذا العصر؛ ومع هذا، فإن الإصرار على البقاء ولو بأي ثمن، هو شأن كل الانتهازيين والمستبدين والطفيليين بأيدولوجياتهم المسمومة في المنطقة.
في هذا الاتجاه تسير إيران اليوم، بهدف التمكين للمشروع الخميني الخطير، بالعبور إلى الساحة العربية لاختراقها والهيمنة عليها وكظم قواها، لكي يصبح الوطن العربي بلا قيمة تدريجيًا أمام السطوة الإيرانية، ويضع الدول العربية الكبرى، في مواجهة طائفية مهلكة مع التيارات الشيعية، والنفوذ السياسي الإيراني، وهو ما ينذر بكارثة شاملة للمنطقة برمتها.
ففي العام 2003، سقطت بغداد في الغزو الأمريكي للعراق، في خيانة كبرى من إيران، التي قدمت كل تسهيلاتها للجيش الأمريكي للهجوم على العراق، وقد نالت جائزتها بتسلم العراق في العباءة الإيرانية منذ العام 2006، عند وصول نوري المالكي إلى الحكم باسم ايران الطائفية الشيعية.
خرج العرب من صدمة سقوط العراق، أو أُخرجوا منها بسبب التطورات الجسيمة، التي أحلت على الوطن العربي في ظل الاحتلال الأميركي للعراق، وتشكيل نظام سياسي طائفي تقوده إيران، تمامًا كالذي نشأ في لبنان من قبل.
ثم تلى ذلك، سقوط بيروت/ لبنان في قبضة حزب الله اللبناني، “دراع إيران في لبنان” في العام 2008، وقد تم ذلك بمساعدة الدعم والعون الإيراني لحزب الله.
وفي سوريا كذلك، حضرت إيران إلى المشهد منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة، ومدت يدها للنظام عندما انكشف ظهره العربي، وأكدت وقوفها معه أو الموت منذ بقاءه، بحجة الحفاظ على محور الممانعة والمقاومة للمشروع الصهيوني في المنطقة.
إن البعد الطائفي في بداية العلاقات بين طهران ودمشق، لم يكن واضحًا كما هو عليه الحال اليوم، فإيران كانت تقدم نفسها كقوة إسلامية، بينما كانت سوريا تقدم نفسها كقوة علمانية، ولكن المنطلقات الطائفية والمذهبية التي يجتمع فيها الطرفان، تم الزج بها في أوج هذه الأزمة، باعتبارها ورقة رابحة، من شأنها التلويح بإشعال النيران في الشرق الأوسط.
وهنا، فإن التواجد الإيراني في لبنان واضح في حزب الله، الذي أصبح يأخذ رأيه في تعيين رئيس الجمهورية، وكذلك في سوريا، حيث يعتبر قاسم سليماني، قائد فيلق القدس وأحد قادة الحرس الثوري الإيراني، الحاكم الفعلي، ويدير معارك الأسد في سوريا، وقد وصل الحد إلى إرسال إيران قرابة 40 ألف مقاتل، للقتال في سوريا والعراق، للدفاع عن كلا النظامين الشيعيين.
وللمرة الثالثة، تحضر إيران في مشروع العبور في اليمن، عبر الحوثي وجماعته أنصار الله الشيعية، حيث استطاعوا إسقاط العاصمة صنعاء في لحظة حالكة من التاريخ اليمني، كانت تنتظر فيه الجماهير اليمنية وكذلك العربية، اتفاق الأطراف عامة على وثيقة السلم والشراكة، لإنهاء الأزمة واستئناف الحوار السلمي، غير أن الفيتو الإيراني الخامنئي أعاد صورة الحسم العسكري إلى المشهد من جديد، لتكتمل حلقة شق الجزيرة العربية، بدءًا من اليمن وانتهاءً إلى اللانهاية.
لا شك أن ايران تسعى لتدعيم الحزام الشيعي، الذي نجحت في تكوينه من خلال السيطرة على المنافذ البحرية كمضيق باب المندب، وخليج هرمز، وهو ما سيحلو لها من خلال تحرك الحوثيين في اليمن نحو الشمال والجنوب، لإتمام هذه الخطة. فجماعة الحوثي، تعد فرعًا رئيسًا لجمهورية إيران في المنطقة، ما يشكل تهديدًا صريحًا لأمن الخليج، والسعودية بالتحديد، من التمدد الإيراني الشيعي في المستقبل.
لقد باتت إيران تفقد عقلها ورشدها في ساحتنا العربية، وها هي اليوم تغامر بمصالحها، وتدمِّر التعايش في المنطقة كلها، بدعمها للاحتراب الطائفي في العراق وسوريا، والآن في اليمن، وبعده في البحرين والكويت، حتى وإن كان الثمن كارثيًا على العرب أجمعين.
وهنا ثمة حقيقة ثابتة ما دام التاريخ، أن العبور الحالي للنفوذ الإيراني في صورته السياسية قبل الطائفية، بدءًا من سوريا ومرورًا بالعراق ودول الخليج وصولًا إلى اليمن، يأتي في إطار خطة إيرانية ترجع لعهد الشاه، والذي كان يرسل فقراء إيران ليلًا عبر الزوارق في البحر الأحمر، لتوطينهم في الكويت وقطر وعدن واليمن والبحرين، لتصبح بعد ذلك هذه المجموعات أقليات في تلك الدول، ما يعزز من الرافعة الإيرانية في العبور اتجاهها مستقبلًا.
تبقّى لنا التوضيح، بأن هذا النجاح الذي حققته الجمهورية الإيرانية، بالعبور إلى المنطقة العربية عبر اختراق أربعة عواصم عربية، “بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء”، لم يكن عائدًا بالضرورة لقوة تمتلكها إيران، إنما السبب فيه بالأساس حالة الضعف، التي أصيبت بها الساحة العربية، جراء ثورات الربيع العربي، التي غمرت حركتها المنطقة، ودفعت بإيران إلى البروز في موقف اللاعب الرابح والقوي على المستويين الدولي والإقليمي.
ما ينبغي الإشارة له أخيرًا، وهو الأهم في تصوري، أن إيران وإن علا صوتها في ساحتنا العربية، وإن عبرت في أنموذجها الانتهازي الطفيلي عبر سوريا أو العراق أو لبنان أو اليمن، فهو لا يبشر بمستقبل خال من الخطر على إيران أولًا، فهي من سيدفع الثمن الأكبر من اصطدام طائفي قادم، وربما وشيك، سيلقي بظلاله على المنطقة كلها.
نوح فسيفس:صحيفة التقرير الالكترونية
http://goo.gl/k29AUi
الوسم : ايران،التيارات الشيعية،خامنئي،الربع العربي، الثورة الخمينية ،سوريا،البعد الطائفي،النفوذ الإيراني، حزب الله،العراق،لبنان