في وقت كانت فيه واشنطن تحذر السلطات العراقية من أنها لن تتسامح مع أي هجمات أو تهديدات لحياة الأميركيين وتطالبها بالدفاع عن عناصر التحالف الدولي في العراق، كشف مسؤولان عراقيان في بغداد، أمس الاثنين، لـ”العربي الجديد”، أن الجيش الأميركي في العراق ينوي القيام بإعادة تموضع شاملة لقواته، تتضمن إلغاء وجوده في قواعد متقدمة وإجراء تغيير على عدد المستشارين والفنيين العاملين لدعم سلاح الجو العراقي والقوات البرية العراقية وجهاز مكافحة الإرهاب، مؤكدين أن ذلك سيقلص مساحة انتشار القوات الأميركية في العراق ويقتصرها على ثلاثة مواقع رئيسية هي الأنبار وأربيل وبغداد. لكن ذلك لن يؤدي إلى تقليل عدد القوات الموجودة في البلاد والتي تتراوح بين 5 إلى 6 آلاف عسكري أميركي، نصفهم تقريباً يعملون بغطاء التحالف الدولي ضد الإرهاب الذي تقوده الولايات المتحدة منذ عام 2014 ولغاية الآن.
يأتي ذلك مع بعد هجومين صاروخيين نفذهما فصيل مسلح تقول واشنطن إنه مرتبط بإيران، استهدفا معسكر التاجي (25 كيلومتراً شمال بغداد)، يومي الأربعاء والسبت الماضيين، أسفر الهجوم الأول عن مقتل أميركيين اثنين وبريطاني واحد وجرح 10 جنود آخرين، يتبعون وحدة مهام التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”، بينما أسفر الهجوم الثاني عن إصابة ثلاثة عسكريين من أعضاء التحالف الدولي أيضاً.
وارتفعت حصيلة الرد الأميركي على هجوم التاجي الأول فجر الجمعة الماضي والذي استهدف معسكرات فصائل “الحشد الشعبي” في بابل وكربلاء والأنبار، عبر ضربات جوية نفذتها مقاتلات أميركية، إلى 14 قتيلاً ونحو 55 جريحاً بحسب مصادر طبية عراقية وأخرى مقربة من “الحشد الشعبي”، أكدت أن ثلاثة من الجرحى توفوا متأثرين بجراحهم في مستشفى بمدينة المسيب ضمن محافظة بابل جنوبي العراق.
”
بومبيو: واشنطن سترد “كما يجب” على أي استهداف جديد للأميركيين
“وحذّر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، بغداد من أن واشنطن سترد “كما يجب” على أي استهداف جديد للأميركيين. وقال بومبيو في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، الأحد، إن “الولايات المتحدة لن تتسامح مع أي هجمات أو تهديد لحياة الأميركيين” وإن على “الحكومة العراقية الدفاع عن عناصر” التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، بحسب بيان صدر عن وزارة الخارجية الأميركية أمس الاثنين. وأكد بومبيو أيضاً أن “الجماعات المسؤولة عن هذه الهجمات يجب أن تحاسب”.
في غضون ذلك، كشف مسؤول عسكري عراقي رفيع المستوى، لـ”العربي الجديد”، أن “الولايات المتحدة أنهت تقييماً شاملاً لوضع قواتها في العراق واتخذت قرارات عدة، من بينها إلغاء وجودها في قواعد تقع في مناطق هشة يسهل استهداف الجنود فيها من قبل فصائل مسلحة”. ولفت إلى أن الولايات المتحدة ستبدأ وبشكل تدريجي إلغاء وجودها في قواعد كانت فيها منذ عام 2015 وما بعدها بسبب المعارك مع “داعش”، وكانت مهامها تتركز على توفير صور جوية أو معلومات رصد وتحليل أو إسناد ناري للقوات العراقية، كما في القائم والبعاج أو التاجي.
وأضاف المسؤول العراقي: “على الأرجح لن يكون هناك تقليص لعدد الجنود بل ستكون عملية إعادة تموضع للقوات الأميركية لتكون أكثر حصانة من صواريخ الفصائل المسلحة، والأكيد أن قاعدة عين الأسد (110 كيلومترات غرب الرمادي عاصمة محافظة الأنبار) وحرير (75 كيلومتراً شرق أربيل عاصمة إقليم كردستان)، فضلاً عن معسكر المطار (18 كيلومتراً غرب بغداد الملاصق لمطار بغداد الدولي من جهة الرضوانية) هي المواقع الرئيسية المرشحة لأن يكون فيها الجيش الأميركي، وقد تكون قواعد للتحالف الدولي ككل لأن القوات الأميركية هي العمود الفقري لقوات التحالف وأكثرها عددا وترسانة عسكرية”.
أما القواعد المرجح إلغاء وجود القوات الأميركية أو التحالف الدولي ككل فيها، فهي التاجي شمالي بغداد، وبلد في محافظة صلاح الدين، والقائم غرب الأنبار، وموقع في القصور الرئاسة في مدينة الموصل، وكلها معسكرات متوسطة الحجم مقارنة بقواعد أخرى مثل عين الأسد وحرير والحبانية أو الإمام علي.
هذه المعلومات أكدها ضابط آخر في قيادة العمليات العراقية المشتركة لـ”العربي الجديد”، أشار إلى أن الولايات المتحدة لم تعد تثق بإجراءات القوات العراقية أو وعود الحكومة بوقف هجمات الكاتيوشا على مواقع جنودها، وفي الوقت ذاته لا تريد أن تدخل في حرب مفتوحة في العراق مع تلك الفصائل قد تكون طويلة، كما أن فكرة انسحابها من العراق سيكون بطعم الهزيمة والنصر لطهران، لذا تتجه إلى اتخاذ قرارات لحماية قواتها الموجودة. وأكد أنه “بات بحكم المحسوم إرسال صواريخ باتريوت إلى عين الأسد وحرير في الأنبار وأربيل”، مضيفاً: “تبقى التفاهمات السياسية بين الحكومة الجديدة وواشنطن هي الفيصل في كثير من ملفات الوجود الأميركي في العراق لأن الأميركيين يتعاملون مع رئيس الوزراء الحالي عادل عبد المهدي على أنه منقوص الصلاحيات أو غير شرعي والعلاقة غير جيدة على الإطلاق”.
وفي حال انسحاب الأميركيين من قاعدتي بلد والتاجي، يكون الجيش العراقي قد خسر فعلياً الدعم الفني لسرب مقاتلات “اف 16” التابعة لسلاح الجو العراقي، في بلد، وأيضاً الدعم والصيانة لوحدات برية عراقية مدرعة تضم دبابات “أبرامز” ومدرعات “سترايكر” وناقلات جنود توفر القوات الأميركية لها دعماً وساهمت في إعادة المئات منها للعمل بعد تعرضها للعطب بفعل المعارك مع تنظيم “داعش”.
يجري ذلك في ظل تحركات لفصائل عراقية تنفذ عمليات نقل واسعة لمخازن أسلحتها ومواقعها الرئيسية خصوصاً في الأنبار وبابل وكربلاء وصلاح الدين وبغداد. وشوهدت شاحنات كبيرة تابعة لفصائل مسلحة في بابل وبغداد وصلاح الدين وبغداد في اليومين الماضيين تنشط في عمليات نقل من مواقعها إلى أماكن أخرى وسط إجراءات مشددة، وعادة ما تبدأ تلك العمليات ليلاً.
”
بعض الفصائل تسعى إلى أن تُخزّن أسلحتها وصواريخها في قواعد الجيش العراقي ومقرات الشرطة
“وقال مسؤول عسكري عراقي لـ”العربي الجديد”، إن بعض تلك الفصائل تسعى إلى أن تُخزّن أسلحتها وصواريخها في قواعد الجيش العراقي ومقرات الشرطة الاتحادية لتجنّب قصفها من قبل القوات الأميركية، أو جر الأميركيين لاستهداف قواعد للقوات العراقية، لتوسيع دائرة الأزمة في البلاد. وكشف المسؤول أن رئيس أركان الجيش، الفريق أول الركن عثمان الغانمي، “يتعرض لضغوط كبيرة في هذا الاتجاه منذ أيام، وسط تصاعد نبرة التخوين من قبل قادة الفصائل تلك لقيادة العمليات المشتركة بتهمة الخضوع للأميركيين، لدفع قيادة العمليات المشتركة إلى اتخاذ موقف أكثر تطرفاً من القوات الأميركية خصوصاً، والتحالف الدولي بشكل عام”، لافتاً إلى أن مليشيات “كتائب حزب الله، والنجباء، والعصائب، والخراساني، وسيد الشهداء، وفصائل مسلحة أخرى هي الأكثر حراكاً في تغيير مواقعها ومقراتها وحتى مكاتب تواجد قياداتها”.
عمليات تغيير المقار ونقل الأسلحة والمعدات، وصفها محمد الدجيلي، العضو البارز في مليشيا “النجباء” المعروفة بارتباطها المباشر مع إيران، بأنها تأتي “لحماية السلاح الذي تمت مقاتلة داعش به، ومنع الأميركيين من تدميره”، مضيفاً “الولايات المتحدة تخطط للقضاء على فصائل المقاومة تحت حجج وذرائع مختلفة لذا من حق تلك الفصائل الدفاع عن نفسها واتخاذ ما تراه وتجده مناسباً لها”.
من جهته، قال مقرر لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي مهدي تقي، في حديث مع “العربي الجديد”، إن “الوضع في العراق لم يعد يحتمل أي قوة أجنبية، وهذه القوات تسبّبت بتشنج عام في الوضع الأمني”. واعتبر أن “خطوة الأميركيين بإعادة التموضع، إذا صحت، لن تفيد في تهدئة الأوضاع أو إزالة التوتر”، مشيراً إلى أن البرلمان قد يتحرك لأن ما يجري يعني أن “الأميركيين يخططون لبقاء طويل الأمد في العراق”.
أما الخبير في الشأن الأمني العراقي، أستاذ الدراسات الأمنية في معهد الدوحة للدراسات العليا، مهند سلوم المشهداني، فقال لـ”العربي الجديد”، إن إعادة التموضع المطروحة اليوم للقوات الأميركية في العراق لها سببان رئيسيان، وهناك أسباب ثانوية أخرى بالتأكيد تتعلق بالجانب الاستخباري الأميركي في العراق. وأوضح أن السبب الأول هو تكتيك عسكري بحت للقوات الأميركية بعد استهداف قاعدة التاجي وعدة قواعد أخرى، ولأكثر من مرة ثبت أن تلك المواقع غير محصنة ويمكن استهدافها في أي وقت من قبل الجماعات المسلحة لأسباب تتعلق بمواقعها الجغرافية وأخرى بكونها مخترقة أساساً من الداخل. وأضاف أن الأميركيين صار لديهم يقين بأن قواعد عسكرية عراقية تستضيف قواتهم مثل التاجي أو القائم وغيرها مخترقة من قبل مجموعات أو مصادر تعمل لإيران، ولهذا يريدون التخلص من هذا الاختراق المعلوماتي. أما السبب الثاني، وفق المشهداني، “فيتعلق بالضربات الصاروخية الإيرانية البالستية، فالقوات الأميركية في طريقها لتجهيز نوعين من منظومات الصواريخ في العراق: الأولى منظومة باتريوت وتعمل على التصدي للصواريخ البالستية، والنوع الثاني المعروف بـ”السيرامز” متخصص بصد الصواريخ الصغيرة مثل الكاتيوشا والهاون وغيرها، ولوجودها يتعيّن أن تكون هناك قوات كافية في القواعد التي تنصب بها تلك المنظومات وقد تكون عملية مناقلة بين تخصصات الوحدات العسكرية الأميركية أيضا لهذا السبب لتشغيل هذه المنظومات”.
محمد علي، سلام الجاف
العربي الجديد