هل نحن في ثورة؟

هل نحن في ثورة؟

img_1376772150_970

لا أعتقد أن سورياً كان سيشك بوقوع ثورة في بلاده خلال أشهر الحراك الأولى، حين ساد اقتناع عام بأن ما يقوم به المتظاهرون هو الثورة التي طال انتظارها، وتراكمت مبررات انفجارها، طوال نصف قرن، حفل بمظالم استغرب الخلق بعد انتفاضتهم ما أبدوه من صبر حيالها، وجعلهم يتعايشون معها برضوخ ذليل.
لو أعدت طرح هذا السؤال اليوم، لنظر معظم السوريين إليك باستغراب، ولترددوا في الإجابة عليك، لاعتقادهم أنك تحدثهم عن بلاد غير سورية، أو تهيّج أحزانهم عبر تذكيرهم بثورة قاموا حقا بها، لكنهم ما عادوا يرونها، بعد أن احتلتها من الداخل وأفرغتها من مضمونها الإنساني والوطني تنظيمات مسلحة اختطفتها، لم تترك فيها جانباً لم تقلبه إلى نقيض ما راهن عليه مفجروها وشهداؤها، وهم يرابطون في الشوارع، صارخين من أعماق قلوبهم: “حرية للشعب السوري الواحد، و… سلمية سلمية”.
أخذت الثورة، عند بدايتها، صورة تمرد عام، نهض به مواطن عاش على خارج النظام وعالمه السياسي، عبرت مطالبه عن ما أخذه الظلم الأسدي منه: حريته وكرامته ومتمماتهما من عدالة ومساواة. ولأن هذا المواطن كان يعي أن رد السلطة سيكون العنف والعسكر وأجهزته القمعية، فقد اعتمد السلمية في حراكه، لإيمانه بأنها أفضل حاضنة للحرية: مبدأ ثورته الرئيس.
فيما بعد، مع ظهور السلاح والتنظيمات المتطرفة التي لعب النظام دوراً رئيساً في تشكلها، وتبنت موقفا مطابقا لموقفه تجاه مبدئي الحرية والعدالة، وأنكرت مثله حق السوريين في المساواة والكرامة، لم يعد هناك من عائق أمام انتقال العنف الأسدي، المعزز بعنفها، إلى همجية شاملة، أوقعت المواطن العادي بين حجري رحى، قتله الأصولي منهما باسم حرب ضد النظام، لكنها استهدفته هو بالدرجة الأولى والأخيرة، واتسمت بعداء قاتل له، أدرجه في عداد المرشحين للقتل اليومي، فلا عجب إذا خضع مواطن سورية بظهورها لنظام قتل برأسين: أحدهما علماني/ دهري، والآخر طائفي/ مذهبي، طوّقاه حتى لم يعد يرى في ما يجري غير موته، وانتهاك كرامته، وقتل حقه في المساواة والعدالة، بعد أن تعهده العنف الأصولي من الباطن، من داخل “ثورته المضادة له”، بينما غلف عنف النظام كل مناحي وجوده، المهدد بعنف لم يسبق له أن تعرض لما يماثله على امتداد تاريخه.

ماذا يبقى من الثورة، إذا استباح الاستبدادان، العلماني والمذهبي، حياة حملتها الأصليين، أنصار الحرية والعدالة والمساواة والكرامة، واشتغلا بتنسيق وتكامل، كل من موقعه وفي مجاله، وتعاونا لرده إلى زمن عاش الإنسان فيه على لحم أخيه، حذر القرآن الكريم من انبعاثه، عندما تساءل باستنكار: أيأكل أحدكم لحم أخيه ميتاً؟ أكل “ثوار” الإرهاب الأصولي، و”علمانيو” الأسدية، لحم السوريين أمواتاً وأحياء. وأمعنوا في جز أعناقهم، حتى صاروا يتمنون لو أن الله لم يخلقهم، ويرجون أن يأتيهم الموت محمولاً على قنبلة أو صاروخ، كي لا يقعوا بين أيدي وحوش الثورة المضادة، بشقيها المتعاونين/ المتكاملين.
تصنع الثورات من أجل الإنسان، وتقاس نجاحاتها بترقية حياته وحفظ حقوقه واحترام مصالحه. عندما يجرد الإنسان من حقه في الحياة، وتبتلع الجريمة طموحاته، وتشوه هويته وتطمس رهاناته، وتحول ثورته إلى فوضى عدوها هو، وليس النظام الذي قهره وجرّده من حقوقه وإنسانيته، ماذا يبقى غير الثورة المضادة التي تعمل للقضاء على ما هو باق من الثورة بالقضاء على حاملها: الإنسان الثائر من أجل حريته، الذي يقدم حياته كي ينالها، ويشعر اليوم بالندم، لافتقاره إلى ما يكفي من حصانة ضد سذاجته، السياسية والشخصية، ولغلبة عفويته على وعيه الذي أوقعه ضموره بين يدي أعداء الدنيا والدين.
ماذا أبقت الثورة المضادة من الثورة، إذا كان الشعب يقصف اليوم بيد “النصرة” في الفوعا، لأنه ينتمي إلى مذهب مغاير لمذهب قاصفيه، ويقتل ويهجر في الجزيرة السورية بيد “قوات حماية الشعب”، لمجرد أنه ينتمي إلى قوم عربي، وكانت “قوات حمايته” تنكر حقه في الوجود، والعيش على أرضه التي صار اسمها روجافا، ولم تعد جزءاً من سورية، بل صارت من أعمال كردستان الغربية، عليه الرحيل عنها، وإلا أطلقت النار عليه، مثلما حدث في بلدة صرين، حيث قتلت حوامل وأطفالهن بالرصاص، وماتت نساء عطشاً وجوعاً وتعذيباً في “مدرسة صرين قبلي” التي تحولت إلى معسكر اعتقال نازي، من دون أن يتحرك أحد، في “الائتلاف” أو غيره، لإنقاذهن والدفاع عن حقهن في بيوتهم وقراهن وحياتهن، ووقف تهجير العرب من أرض آبائهم وأجدادهم؟ ما تبقى، أخيرا، الثورة المضادة من الثورة، إذ تماثلت وتطابقت أفعال “أصوليي الإرهاب الرجعيين”، و”ماركسيي القوات التقدميين” ضد الإنسان، وحوّلته إلى عدو مشترك لهما، لا حول له ولا طول.

ميشيل كيلو

صحيفة العربي الجديد