منذ الثالث عشر من آذار/مارس، أعيش وعائلتي عزلةً منزلية في بيتنا الكائن في “إقليم كردستان العراق”. متى احتجنا إلى لوازم أو حاجيات، طلبناها من سوبرماركت المنطقة لتصل إلينا عبر خدمة التوصيل. ولعل كلمات جاري الموظف الحكومي السيد نامق تصف الوضع الذي نعيشه: “لقد أصبح الروتين اليومي العام معقدًا. فنحن ملزمون بالحجر المنزلي مع استمرار التعقيم وغسل اليدين. إنه أمر مزعج بالفعل، ولا أدري كم سيطول الوضع على هذه الحال، لكن صحتنا هي الأهم”.
فيما تتساءل أغلبية الشعوبٌ عن درجة الحجر العام اللازمة للتعامل مع فيروس “كورونا” ومدة هذه الإجراءات، تصرّف “إقليم كردستان العراق” باستباقية مع الوضع وبدأ تطبيق العزل الذاتي. وإذا كان الشعب مستاء من ملازمة المنزل، فهو يدرك جيدًا أن هذه الإجراءات ضرورية لمنع تفشي الوباء. وعلى حد قول المغترب الإيطالي المقيم في أربيل، المدعو ماركو روسي، “قررتُ البقاء في أربيل لأنني رأيت العالم الغربي المثقف والمطّلع يفقد أعصابه حين أصبح التهديد الصحي معديًا بسبب الذعر. البقاء في أربيل أفضل وأكثر هدوءًا وأمانًا”.
بُحكم الحدود المشتركة والممتدة مئات الأميال بين “إقليم كردستان العراق” وإيران، يواجه الإقليم منذ شهرٍ وأكثر صعوبةً خاصة في منع انتشار هذا التهديد الكبير. وفي بدايات الأزمة، كان سكان الإقليم البالغ عددهم خمسة ملايين نسمة معرّضين للخطر نظرًا لحركة السفر الكثيفة التي تشهدها حدود الإقليم مع إيران.
وفي حين أن حكومات الشرق الأوسط اختارت التعامل مع تهديد فيروس “كورونا” من خلال استراتيجيات متفاوتة، حرصت “حكومة إقليم كردستان” على اتباع سياسة متوازنة ما بين سلطة ذات طابع تسلطي، وتبني نهج الجزرة والعصا، وحملة توعية صحية ممتازة قلّلت الحاجة إلى تطبيق تدابير السيطرة والإكراه.
وقد أثبتت هذه المساعي فعاليتها حتى الآن، لا سيما بالمقارنة مع الدول والمناطق المجاورة. لم تكتسب “حكومة إقليم كردستان” خبرة في التعامل مع أزمة تفشي وباء “متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد” (“سارس”) أو خبرة تايوان أو سنغافورة أو هونغ كونغ عام 2003. ومع أنها لم تواجه وباءً عالميًا قط، تمكّنت من الاستفادة من خبرتها في الأزمات التي مرّت عليها خلال السنوات التسعة والعشرين الماضية من حروبٍ ونزوح جماعي وعقوبات. فسمحت هذه التجارب السابقة للحكومة بالتعامل بجدية مع التهديد الراهن، والأهم من ذلك هو أنها هيّأت الشعب للتجاوب بشكل كبير مع تدابير احتواء الأزمة.
بسبب هذه العوامل، قررت “حكومة إقليم كردستان” في وقت مبكر أن تستجيب بجدية والتعامل مع هذا التهديد، فأنشأت مركز عمليات لمكافحة فيروس “كورونا” قبل أن تثبت أي حالة مؤكدة لديها. وكان لذلك أهمية خاصة لأن حظر التجول فُرض قبل بدء احتفالات عيد النوروز (عيد رأس السنة الكردية) مباشرةً، وكان ضروريًا لإبقاء الناس في منازلهم ومنعهم من التخالط والتجمّع كالمعتاد في هذا العيد الكبير.
واليوم ثمة غرفة إعلامية ضخمة ومركز لتحليل البيانات يتم فيه تحليل ونشر كافة المعلومات المستمدة من مختلف المدن. وقد سارعت الحكومة إلى عقد مؤتمرات صحفية كل يوم، وأحيانًا عدة مرات في اليوم الواحد، ولم تتوانَ وزارة الصحة عن تعميم المعلومات عن أولى الحالات المعروفة – وهي لمسافرين عائدين من إيران – بطريقة وجدها الكثيرون من المواطنين شفافة.
علاوةً على ذلك، برهنت “حكومة إقليم كردستان” أن إجراءات الحجر الصحي وعزل الحالات المشتبه بها هو عامل أساسي في التغلب على هذه الأزمة. ولم يُستثنَ المسؤولون من هذا التدبير، فقد أقيل مدير أمني كردي نافذ لمعبر حدودي هام بعد عودته من زيارة رسمية في ألمانيا لأنه رفض حجر نفسه، وتبيّن لاحقًا أن هذا التدبير كان ضروريًا حين كشف الاختبار الطبي عن إصابته بفيروس “كورونا”. وبذلك، أثبتت هذه الحادثة في وقت باكر أن “لا أحد فوق القانون حين يتعلق الأمر بحياة المواطنين”.
بفضل هذه التدابير الاستباقية، تمكّنت “حكومة إقليم كردستان” أيضًا من لجم الاندفاع إلى شراء الأغراض وتكديسها بدافع الذعر كما حصل في الدول الأخرى. فالمحال التجارية في الإقليم تواصل تعبئة مخزونها ولا تزال رفوفها مليئة، وذلك بفضل ثقة الشعب بآلية تعامل الحكومة مع المسألة.
ومن الممكن أيضًا أن سكان “إقليم كردستان العراق” مّيالون أكثر إلى المشاركة في إجراءات التباعد الاجتماعي لأنه تسنّى لهم رؤية ما يحدث حين تخرج الأمور عن السيطرة. فالحالات تزداد بوتيرة أكبر في العراق لأن تدابير السيطرة الحكومية والتوعية العامة غائبة نسبيًا. ومع أن بغداد حاولت فرض حظر التجول في بعض المناطق العراقية، لا يبدو أن الشعب يتقيد بها بالدرجة نفسها الملحوظة في “إقليم كردستان”، لاسيما وأن مناخ العراق السياسي المتقلب والتظاهرات المستمرة فيه تزيد الأمور تعقيدًا. ويشك الأكراد في أن الفيروس يتفشى بوتيرة أسرع في مناطق عراقية أخرى مع أن الاختبارات الطبية ليست شائعة في العراق و”إقليم كردستان” بقدر بعض الدول الأخرى.
من السهل انتقاد الردود الحكومية والتقليل من شأن الإنجازات الإيجابية، لا سيما في وقت الأزمات. ولكن، في حالة “حكومة إقليم كردستان”، لا بد من تقدير كيفية تعاملها مع الأزمة. فقد عرفت كيف تنبّه الناس بدون تخويفهم، وحرصت على التواصل بانتظام معهم حول المسألة، ومثال عن ذلك هو النشرات المباشرة المتلفزة الصادرة عن كل مستويات الحكومة، بما فيها رئيس الوزراء نفسه. وبالتالي، بات الكثيرون ممن يلتزمون بالعزل الذاتي يشعرون فعلاً أن حكومتنا تهتم لأمرنا.
ويعتبر هذا النجاح ملفتًا بشكل خاص لأن إمكانيات “حكومة إقليم كردستان” المالية والتكنولوجية والصحية محدودة. وقد أشادت منظمة الصحة العالمية بحجم المساعي بالرغم من القيود التي تعيق عمل هذه الحكومة مقارنةً بالقوى العظمى العالمية.
وبالفعل، بينما تبحث شعوب المنطقة عن نموذجٍ ناجح لاحتواء الفيروس، أعتقد أنه يجب التريث قبل تعظيم النموذج الصيني في طريقة التعامل مع تفشي الفيروس، مع أنها تمكّنت من تقليص عدد الإصابات الجديدة داخل البلاد. غير أن استعداد الحكومة الصينية لتجاهل الفيروس في بادئ الأمر وإسكات الأطباء الذين حاولوا دق ناقوس الخطر، ساهما بلا شك في تفشي الفيروس في سائر دول العالم. ولا أحد يستطيع أن ينكر – بمن في ذلك المسؤولون الصينيون – أن الصين حاولت التستر بشكل هائل على الموضوع. وهذا ما يجعل شفافية الحكومة الكردية أكثر تأثيرا.
وبالرغم من الصعاب، نجحت حكومة إقليم كردستان في إبقاء الفيروس تحت السيطرة نسبيًا بالرغم من روابطها بإيران. مع ذلك كله، لا يزال من المبكر إعلان النصر في أي دولة أو منطقة. ولكن النموذج الكردي يشكل أداةً يمكن أن تستعين بها الحكومات الأخرى لتغيير مسار عملها. وفيما قد يصعب تطبيق النموذج الكردي مباشرةً في أي مكان آخر، فإن الدول التي ما زالت فيها الحالات المعلنة قليلة والتي تملك موارد محدودة قد تجد في إقليم كردستان العراق مثالاً جيدًا عن الأمور التي لا تزال ممكنة. وفي المقابل، برهنت أوروبا والولايات المتحدة عن مخاطر الانتظار قبل تطبيق التدابير الهامة بعد أن يكون الفيروس قد سبق وحظي بفرصة التفشي.
ولا شك في أن هذا الوضع غير المسبوق، حيث بات الإغلاق العام يُفرض أكثر فأكثر في مناطق شاسعة من الأرض، يتسبب بتغيير كبير في العلاقة بين الحكومات وشعوبها، إذ بدأ كل شعب اليوم يقيّم فعالية رد حكومته. بالنسبة للأكراد، أثبت الفيروس أن الحوكمة الجيدة تشكل عاملاً هامًا في طريقة التعامل مع أسوأ التهديدات. وبالنسبة لسائر دول العالم، فإن استعداد الشعب للالتزام بجهود حكومته قبل وقوع الكارثة، حتى إذا كانت هذه الجهود تعرقل حياته اليومية بشكل كبير، يبرهن أنه يقدّر قيمة هذه العلاقة التكافلية بين الشفافية الحكومية والثقة الشعبية.
بينر عزيز
معهد واشنطن